Translate

الفصل الثالث - "الإنسان"

الفصل الثالث

"الإنسان"

لو أن كل البشر هم من نسل آدم لصح أن يكون التعبير القرآني (وإذ أخذ ربك من آدم من ظهره ذريته), لكنْ لأن آدم ليس هو أبا البشر البيولوجي, وهو فقط بمنزلة الأب المعلم والمرشد فقد جاء التعبير القرآني الدقيق بالقول: إنّ الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم.

 

تناولنا في الفصل السابق نظرية التطور من خلال فهم مدلول كلمة الطور، و تساءلنا من أين أتى المنكرون لهذه النظرية بكل هذه الثقة ليقولوا: إنّ الإنسان خُلِقَ خلقًا كاملاً دون تطور؟ مع أنّ ذلك لم يُذكر صراحة في كتاب الله؟

وكل ما يُقال ويُذكر في هذه المسألة محض اجتهادات وتأويلات تخص أصحابها.

أليس من الإنصاف إفساح المجال للأفكار ومناقشتها، وإدارة حوار يكون عنوانه: هاتوا برهانكم؟ فيلقي كلٌ منكم برهانه؛ ولنرَى أيهما أهدى سبيلا؟ً

الحديث عن "آدم" بصفة خاصة، وخلق الإنسان بصفة عامة؛ جاء في كتاب الله في مشاهد قرآنية عديدة، وكل مشهد من هذه المشاهد الرائعة يعطي جزءاً من الصورة الكلية، وكل ما علينا هو محاولة تجميع أجزاء هذه الصورة، وترتيبها، وترتيلها لنحصل على الصورة كاملة.

أول آية في كتاب الله -من ناحية ترتيب المصحف- أشارت لبزوغ فجر الإنسان؛ قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( (سورة البقرة: الآية 30).

هذه الآية الكريمة يفهمها الكثيرون على غير معناها، حيث يرون "آدم" خليفة لله عز وجل في الأرض، ومن الغريب أنك لا تجد هذا التأويل السائد في التفاسير؛ وإنما تجده في  حكم القول الشائع، أو ربما ذكره أحد في كتبه، أو ردَّده أحدهم دون مرجعية حقيقية.

فماذا تقول التفاسير عن هذه الآية الكريمة، وسأكتفي بقول الله تعالى: )إني جاعل في الأرض خليفة( تجنبًا للإطالة:

✦ تفسير الطبري: «القول في تأويل قوله: (خليفة) والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه )ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون( ( سورة يونس : 14) يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة؛ لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلفًا.

فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلًا وفيها منه خلفًا؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك. عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال : )إني جاعل في الأرض خليفة(؛ فعلى هذا القول: )إني جاعل في الأرض خليفة( من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها.

وقال آخرون في تأويل قوله: )إني جاعل في الأرض خليفة( أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله، وهذا قول حٌكي عن الحسن البصري» انتهى التفسير.

لو وقفنا فقط على كلمة [جعل] وكلمة [خليفة] وبحثنا معانيهما بتأنٍ كما وردت في كتاب الله، واستعنا بجذور اللغة؛ لتكشَّفت لنا حقائق، وحُلت إشكاليات ومعضلات كثيرة.

إنَّ استخدام كلمة [جعل] –حصراً- بدلًا من لفظ [خلق] أو لفظ [أنشأ] له دلالة يجب أن تلفت انتباهنا؛ لأنّ الاعتقاد بأنّ أفعال مثل [خلق وجعل وأنشأ] هي ألفاظ مترادفة؛ على نحو يمكن لأحدها أن يحلّ محل الأخرى هو اعتقاد ساذج وسطحي لدرجة كبيرة، واستهانة بقدر كلمات الله و بلاغتها وإعجازها.

وسنحاول أن نبيّن سريعاً الفرق بين الخلق والنشأة والجعل، كما بيّنا في الفصل السابق الفرق بين الخلق والنشأة والإنبات.

تُعدُّ كلمة [أنشأ] هي الكلمة العامة التي اختص الله سبحانه بها نفسه؛ فكل المواضع التي ذكرت فيها كلمة [أنشأ] أو أحد مشتقاتها في كتاب الله كانت خاصة برب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تعني التحول المطلق والكامل، بالعلم والقدرة المطلقة، على مستوى العلاقات المادية والعلاقات غير المحسوسة؛ إذا اعتبرنا أنّ المخلوق الحي هو مجموعة من العلاقات الفيزيائية المادية والعلاقات اللامادية، إضافة إلى العلاقات المعرفية التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات.

أما كلمة [خلق] فهي أقل درجة من كلمة [أنشأ]؛ و تعني التحول الذي يسبقه الإعداد والتقدير والتهيئة، وتعمل على المستوى المادي والعلاقات الفيزيائية؛ وهي بخلاف فعل [أنشأ] الذي اختص به رب العالمين نفسه في كتابه، ونجد أن فعل [خلق] اتصف به الإنسان، واحتمالية وجود خالقين غير الله قائمة، ولكنّ الله هو أحسن الخالقين؛ كما ذكر ذلك ربنا في كتابه.

فقدرة الله على الخلق هي قدرة محيطة بعلم محيط، بينما قدرة المخلوق على الخلق محدودة بالعلم والقدرة المتاحة لهذا المخلوق.

الخلق: هو التحول على المستوى المادي، وهذا المفهوم واضح بشكل كبير عندما كان نبي الله عيسى يصنع من الطين كهيئة الطير؛ فسمى القرآن هذه الحالة بالخلق؛ إذ كان التحول واضحاً من صورة إلى صورة مختلفة تماماً، ولكن على المستوى المادي.   

كلمة [جعل] تعني تحولاً جزئياً في الهيئة، ولا تعني أبداً تحولاً كاملاً وشاملاً كفعل [أنشأ] أو تحولاً كاملاً على المستوى المادي كفعل [خلق].

ولو استعرضنا مواضع ذكر كلمة [جعل] في كتاب الله؛ سندرك بكل بساطة ما تعنيه عبارة تحول جزئي، أو تغيير في الهيئة نفسها دون تحول كامل.

وسوف نستعرض بعض الآيات التي ورد فيها لفظ [جعل] دون كل الآيات؛ تجنباً الإطالة.

قال تعالى: )الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( (سورة البقرة: الآية 22).

الجعل هنا تغيُّر في الوظيفة؛ فالأرض مخلوقة بالفعل؛ ولكن طرأت عليها تغيُّرات فتحولت فراشاً، وكذلك السماء أصبحت بناءً؛ لتناسب وظيفتها هنا؛ في أن تكون أحد أسباب نزول الماء.

قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( (سورة البقرة:الآية 136).

الجعل هنا أيضاً تحولٌ في حالة البلدة المخلوقة بالأساس؛ من كونها غير آمنة أو ذات حالة عادية، إلى حالة الأمان والاستقرار.

قال تعالى: )قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ( (سورة  آل عمران:الآية 41).

هذه الآية الكريمة تتحدث أيضاً  عن جعل آية لنبي الله زكريا؛ فالآيات موجودة بالفعل، ولكن ما سوف يطرأ عليها هو أن تكون أحدها  لنبي الله زكريا.

وقال تعالى )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ( (سورة المائدة:الآية 20).

الأنبياء من البشر العاديين، ولكن حدث تغيير جزئي؛ وهو اصطفاء الله سبحانه وتعالى لهؤلاء البشر؛ فصاروا أنبياء؛ فالجعل هنا هو تحول من حالة الإنسان العادي إلى حالة الاصطفاء، واختياره نبيًا.

هذا باختصار شديد هو الفرق بين [جعل وخلق وأنشأ]، والآية الكريمة التي بين أيدينا تتحدث عن الجعل؛ أي أنّ هناك مخلوقاً أو موجوداً ما، ولكن ليس بخليفة، والتحول الذي سيحدث هو ما سوف يجعله خليفة.

فما هو مدلول كلمة خليفة؟

أصل كلمة [خليفة] هو خلف، وكما جاء في قاموس اللغة لها ثلاثة أصول: الأصل الأول:  شيء جاء بعد شيء يقوم مقامه، والأصل الثاني: خلاف قدام، والأصل الثالث: التغيير.

أرجح القول إنّه لا  يمكن أن يكون الإنسان خليفة لله، ولم يرد هذا التفسير في الكتب المشهورة؛ بل ذكرت التفاسير أنّ كلمة خلف تعني شيئًا جاء بعد شيء قام مقامه وحل محله؛ والإنسان لا يمكن أن يخلف الله بمعنى أن يقوم مقامه في الكون؛ فهذه الفرضية غير قائمة، ولابد أن نقف على الآية القرآنية التي ذكرت أنّ الله جاعل في الأرض خليفة  بدون إضافة الخليفة لشيء ما.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنّ الإنسان خلف الجن، وهذه الفرضية ينفيها القرآن ويدحضها؛ حيث إنّ جميع  مشتقات لفظ خلف بيّنت نوعاً واحداً أو جنساً واحداً.

ولا شك أنّ خلق الإنسان يختلف عن خلق الجن، وليس الإنس خليفة للجن؛ حيث إنّ المادة الأولية للمخلوقين تختلف اختلافاً بيِّنًا؛ فهذا الإنسان مخلوق من طين، في حين أنّ الجن مخلوقون من نار، بنصّ القرآن.

لقد عبّر القرآن عن الخلق الجديد بتعبير قرآني آخر، غير تعبير خليفة؛ حيث قال بشكل واضح: خلق جديد، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ( (سورة إبراهيم:الآية 10).

فلو أنّ الإنسان حلّ محل الجن فهو بمثابة خلق جديد؛ وليس خليفةً للجن، وكذلك الجن لم ينتهِ وجودهم؛ بل يعيشون في بُعد آخر؛ غير البعد الذي نعيش فيه؛ ولذلك لا نستطيع رؤيتهم.

وقول بعض التفاسير إنّ معنى خليفة هو ذرية يخلف بعضها بعضًا؛ هو القول الذي أرتاح إليه.، وسوف نأتي إليه بالتفصيل عند الحديث عن التطور المعرفي للبشرية، في واحدة من أعظم اللمحات القرآنية على الإطلاق.

إنّ الوقوف على لفظ خليفة وفهمه سوف يصيبنا بالذهول؛ من دقة تعبير القرآن الكريم وإعجازه في استخدام الألفاظ؛ فكلمة خليفة تحمل مجموعة من الصفات والخصائص، وتصف  حالة فريدة انطبقت تمامًا على آدم عليه السلام، وكذلك انطبقت على نبي الله داوود .

وبدون الخوض في التفاصيل في هذا الجزء، سنكتفي بالقول إنّ لفظ خليفة تعني المخلوق الذي جاء من سلف مثيل، ولكن حدث له تغيير، وتم توريث هذا التغيير لمن يخلفه؛ فأصبح بذلك كأنه مؤسس لشيء ما، أو رائد في شيء ما، وهذا الطرح يحل الإشكالية التي تقول: كيف للملائكة أن تعرف أنّ هذا الإنسان سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟

من الواضح أنّ الملائكة عاصروا وشاهدوا سلفًا لهذا الإنسان لم يكن على قدر المسؤولية؛ حيث تعطي الآية الكريمة احتمالية أنّ هناك كائنات سابقة لوجود الإنسان الحالي، استعمرت الأرض وانتهى وجودها بسبب سوء تصرفاتها وسلوكها المنحرف؛ فلن يكون قياس الملائكة صحيحًا إلا إذا كان لدى الملائكة معرفة سابقة بهذه الكائنات، وأنّ الخليفة الجديد قادم من سلفه القديم المنحرف؛ ولكن بالتأكيد كانوا يجهلون التغيير الذي طرأ عليه، وجعله خليفة أكثر ملاءمة وكفاءة لتحمل المسؤولية.

إنّ أي محاولة حقيقية لفهم خلق الإنسان، وبداية الخلق، وإمكانية التطور؛ لابد أنْ تمرّ من خلال فرز وترتيب وفهم مدلول الكلمات التي استخدمت في وصف خلق الإنسان، مثل كلمة [بشر]، [إنسان]، [طين] ، [تراب]، [أمشاج]، وبعد ذلك لابد أنْ نقف طويلًا أمام سورة الإنسان، ونحاول فهم وتأويل الآيات الأولى؛ لأنّ تسمية سورة كاملة في القرآن بمسمىً معين عوّدنا أنْ يحل ألغازًا عديدة حول هذا المسمى.

الفرق بين البشر والإنسان:

عندما حاول كلاً من حاج حمد المفكر السوداني، ومن بعده  الدكتور شحرور المفكر السوري فهمَ الفرق بين الإنسان والبشر، والانطلاق من هذا الفرق للقول بعدم الخلق المنفصل؛ جعلا الإنسان أكثر رقياً من البشر ولكن عندما اتبعت المنهج الخاص بالكتاب وجدت أنّ النتائج  مختلفة؛ فرغم أنّ هذا الفرق هو أحد الأدلة اللغوية من كتاب الله على الخلق المتصل، أو ما نسميه بالتطور؛ إلا أنّ الأدلة التي سوف نقدمها تباعاً أكثر غزارة مما كنا نظن ونعتقد، وسوف نحاول جهدنا بيان الأدلة قدر استطاعتنا. 

يصر التقليديون أنّ لفظ إنسان ولفظ بشر ما هي إلا مترادفات ليس بينها فروق تذكر، لكنّ هذه الفرضية لا يمكن أن تصدر إلا من عقول لا تقيم وزناً للمسميات وطريقة التسمية؛ فكيف يجتمع اليقين بأنّ هذه الألفاظ كلمات الله ثم يتعامل معها الإنسان بهذه الاستهانة والسذاجة المفرطة. والكاتب المُحتّرِف يتعّمد استخدام لفظ معين في موضع ما، ويتجنب استخدام مرادف قد يؤدي نفس المعنى؛ بسبب رغبته في التعبير بدقة عن فكرة معيّنةٍ؛ لا يقوم بها إلا هذا اللفظ من وجهة نظره؛ فما بالكم برب العالمين؟

"أولاً: لفظ  إنسان"

جذر كلمة إنسان هو [أنس] ، الهمزة والنون والسين، ولها أصل واحد كما جاء في قاموس ابن فارس: وهو ظهور الشيء، وكل شيء خالف التوحش.

 الإنس يوحي بالمؤانسة، والقدرة على التعامل مع الآخرين بشكل منظم، وتكوين مجتمعات راقية نوعاً ما، تقوم على مبدأين أساسيين هما: الاطمئنان والثقة.

والتوحش عكس الإنس؛ إذ عماد التوحش العدوانية والتحفز، مع عدم الاطمئنان أو الوثوق بأحد؛ ويتضح هذا المعنى من خلال آيات الذكر الحكيم التالية.

الآية الأولى:

قال تعالى: )وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا( (سورة النساء: الآية6).

آنستم: أي اطمأننتم، ووثقتم بأنهم راشدون.

الآية الثانية:

قال تعالى: )إذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى( (سورة طه: الآية 10).

آنس نارًا أي: اطمئن لها؛ لذلك ذهب إليها؛ لعله يجد هدى، ويأتي منها بخير.

لفظ الإنس -كما يبدو من الآيات وجذور اللغة- هو لفظ يصف حالة سلوك اجتماعي، عماده الأساسي الاطمئنان والثقة، وهي الدعائم الرئيسة لتكوين المجتمعات؛ مما يتيح تبادل المنفعة بشكل ما.

 ولفظ إنسان بالمجمل يوحي بقدرة هذا الكائن على تكوين شكل من أشكال المجتمعات الراقية؛ حيث الاستقرار والقدرة على الاستفادة، وتوظيف مهارات الأفراد لصالح المجتمع بشكل يعكس اطمئنان وثقة كل فرد في محيطه بقدر معقول.

"ثانياً: لفظ بشر"

كلمة بشر جذرها -كما في قاموس اللغة- يعنى ظهور الشيء مع الحسن والجمال.

 هذه الكلمة غير واضحة بشكل كامل في قاموس اللغة، ومدلولها في كتاب الله شيء آخر؛ فمن خلال تتبع الكلمة في كتاب الله -وبشيء من التريث- سوف نكتشف مدلولاً للكلمة يعطينا لمحة ودلالة لا يمكن تجاوزها عن مراحل تطور الإنسان.

جاءت كلمة [بُشرى] المشتقة من كلمة بشر في كتاب الله بمعنى علامة ودلالة  للمؤمنين، وجاءت مرة أخرى بمعنى علامة ودلالة  للكافرين، وجاءت مرة ثالثة بمعنى علامة ودلالة للناس بصفة عامة.

الآية الأولى: قال تعالى: )قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ( (سورة البقرة: الآية 97).

(بشرى للمؤمنين)؛ تنزيل الكتاب وتصديقه للواقع علامةٌ ودلالةٌ لأصحاب الإيمان؛ ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم.

الآية الثانية: قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( (سورة آل عمران: الآية 21).

(بشرى للكافرين)؛ فمن يكفر ويقتل النبيين ويقتل أهل المعروف وأهل القسط؛ هو بحد ذاته علامة ودلالة على استحقاقهم العذاب الأليم.

الآية الثالثة: قال تعالى: )وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( (سورة آل عمران: الآية 136).

(بشرى للمؤمنين)؛ فالآيات السابقة لهذه الآية الكريمة تتحدث عن المدد الإلهي المتمثل في الملائكة؛ حيث جعله الله بشرى؛ أي علامة ودلالة على النصر.

الآية الرابعة: قال تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( (سورة الأعراف : الآية 57).

 (بشرى للناس عامة)؛ فإرسال الرياح - ولاحظ هنا لفظ الرياح الذي دائمًا يقترن بالخير، بعكس لفظ الريح الذى يقترن دائمًا بالعذاب والكوارث- هو علامة ودلالة شديدة الوضوح على الخير القادم .

من خلال الآيات الكريمة السابقة، وجذر كلمة [بشر] نجد أنّ العامل المشترك هو العلامة والدلالة؛ حيث إنّ كلمة [بشرى] تعني دلائل وإشارات أو معارف معينة يستطيع من خلالها المرسَل إليه بيان المقصود، أو استخلاص نتيجة معينة.

الفهم السائد أنّ البشرى شيء جيد وشيء  من الخير؛ لا يدعمه مدلول الكلمة في كتاب الله؛ إذ جاءت تصف العذاب للكافرين كذلك.

فكلمة بشرى هي كلمة تصف حالة عامة لا خير ولا شر فيها؛ وإنما تدل على دلالة وإشارة.  فهي مجموعة معطيات يستطيع الشخص التعامل معها، و استنتاج نتيجة محددة؛ وإذا كانت المعطيات تصب في الاتجاه الإيجابي فهي علامة فرح وسعادة، وإنْ كانت تصبُّ في الاتجاه السلبي فهي علامةٌ للحزن والحسرة، وإنْ كانت مجرد معلومات فقط؛ فهي إخبار معرفي كما في حالة السحاب الذي يرسله الله بشرى  بنزول المطر.

بعد هذا السرد والتفصيل لكلمة [بشرى]؛ نستطيع أن نقول إنّ لفظ البشر يختلف عن الإنسان، فبينما الصفة الرئيسة للإنسان هي المؤانسة والاجتماع وتكوين مجتمعات، نجد أنّ البشر امتلك قدرةً إضافية دلت عليها التسمية؛ حيث امتلك هذا البشر قدرة على تحليل المعلومات والمعطيات التي بين يديه ليستخرج منها استنتاجات منطقية.

البشر هو المرحلة الراقية والمتقدمة من الإنسان، ولعل هذا التطور هو الذي حدث للإنسان؛ حيث أصبح بشرًا قادرًا على فهم الدلالات والإشارات والتعامل معها؛ فكانت مقدمة هامة جدًا لتعلم اللغة، والقدرة على التسمية التي تميز بها آدم عليه السلام؛ ليصبح قادرًا على تحمل التكاليف والمسؤولية.

لقد تمت الإشارة إلى القدرة على التسمية عند آدم من خلال الجزء الثاني من الكتاب (فصل: قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون)، وسوف تتم الإشارة إليه لاحقًا من خلال التطور المعرفي في كتاب الله من زاوية أخرى.

إذا كان الإنسان هو المخلوق الاجتماعي، فإنّ البشر هم مجموعة ذات قدرات عقلية متطورة سمحت لهم  بالتحليل والاستنتاج.

على ذلك يمكننا استنتاج أنّ صفة الإنسانية قد سبقت صفت البشرية، أو أنّ طور البشر أكثر تطورًا من طور الإنسان؛ وفي السطور القادمة سوف نلتقي بمزيد من الأدلة على كون البشر مرحلة جاءت بعد الإنسان.

تطور الإنسان من كائنات أقل:

تلقي العديد من الآيات الضوء على خلق الإنسان ، وتعطي لمحات على هذا التطور من كائنات سابقة وأقل رقياً.

ويتبادر للذهن سؤال: وهو إذا كانت بداية خلق الإنسان واضحة هذا الوضوح في كتاب الله؛ فما الذي دفع القدماء والمفسرين للقول بعدم إمكانية تطور الإنسان من سلالة قبله؛ بحجة أنه يعارض القرآن الكريم؟

هذا الانغلاق - في رأيي -  كان بسبب ثلاثة أسباب رئيسة:

أولاً: قلة المعارف وندرة المعلومات التي تدرس عن تطور الكائنات؛ وفى قلبها الإنسان.

ثانيًا: تفسير الآيات القرآنية منفردةً عن بعضها البعض.

ثالثاً: طغيان روايات العهد القديم، وتصورات بشرية عن خلق الإنسان باعتبارها حقائق مطلقة.

وسوف نحاول فهم المشاهد القرآنية العظيمة التي ذُكر فيها خلق الإنسان ووجود آدم، كما سوف نقرأ كلَّ مشهد على حدة، حتى إذا وصلنا إلى المشهد الأخير أعدنا ترتيب المعلومات، واستخلصنا النتيجة النهائية.

وها نحن نبدأ بترتيب المشاهد؛ حيث المشهد الأول في سورة " آل عمران "

 - المشهد الأول في خلق الإنسان:

قال تعالى: )إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( (سورة آل عمران: الآية 59).

من أقوال المفسرين  في هذه الآية الكريمة:

✦ تفسير السعدي: «يخبر تعالى محتجًاً على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق، بغير برهان ولا شبهة، بل بزعمهم أنه ليس له والدٌ، فاستحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكًا لله في الربوبية، وهذا ليس بشبهة فضلاً أن يكون حجة؛ لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير، وأنّ جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته، فهو على نقيض قولهم أدل، وعلى أنّ أحدًا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى، فإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى، فلهذا قال تعالى )إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون(» انتهى التفسير.

لقد حَمَّلَ المفسرون الآية الكريمة فوق ما تحتمل، مع أنّ التشبيه في غاية الوضوح.

 من المعلومات البسيطة نجد أنّ الآية الكريمة بها مشبه ومشبه به ووجه شبه ؛ ووجه الشبه هنا هو عملية الخلق.

الله سبحانه وتعالى يشبّه عملية خلق عيسى بعملية خلق آدم، ولا يمكن ضرب مثال كهذا إلا للتفكر والتدبر، فالله يعلم أنّ معارفنا عن خلق آدم تتمحور حول الخلق بشكل كامل بدون أي  عملية بيولوجية، أمّا خلق عيسى فقد تم بعملية بيولوجية عادية، غير أنه تمّ دون عملية التخصيب المتعارف عليها؛ فمقارنة كهذه يجب أنْ تلفت انتباه الباحثين، ويجب أنْ تخضع للفحص الدقيق.

عملية خلق عيسى عليه السلام معلومة من القرآن، بعكس عملية خلق آدم التي يحيطها الغموض؛ فخلق عيسى عليه السلام هو عملية بيولوجية بحتة؛ فعيسى عليه السلام تكوَّن في بطن مريم،  ومريم من البشر، وأصلها كأصل كل البشر، ولا يمكن أنْ نعتقد أنّ عيسى عليه السلام تم تخليقه من تراب الأرض، أو تصويره بهيئة كاملة من التراب والطين، ثم وضعه في بطن السيدة مريم؛ ولكن ما يقصُّه القرآن بشكل صريح في مسألة  ميلاد عيسى عليه السلام هو أنه آية من آيات الله التي تحتاج للتدبر والتوقف.

حملت مريم بعيسى بدون وجود ذكر باشر هذه العملية بشكل طبيعي، ولكنّ الآيات التالية تشير إلى تولي ملك من ملائكة الله هذه العملية، والتي إن جاز لنا التعبير لوصفناها بعملية طبية بامتياز.

قال تعالى: )فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا  وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)( (سورة مريم :الآيات 17-21).

عملية إنجاب البشر -كما يخبرنا العلم- لا تتم فقط عن طريق الالتقاء الجنسي التقليدي بين ذكر وأنثى؛ لكن هناك طرق طبية وعلمية يتم عن طريقها إنجاب أطفال، مثل عمليات الحقن المجهري.

 وعملية ولادة عيسى نبي الله لا تخرج عن هذا الوصف، وإنْ كانت معجزةً في وقتها وآيةً للناس، إلا أنّ العلم حاليًا استطاع تفسير كيف يمكن الإنجاب بطريقة أخرى غير طريقة الالتقاء الجنسي المباشر، حتى أن العلم قد تحدث عن استنساخ كائنات بشكل مذهل من الكائن ذاته، بدون الحاجة لذكر، ومازال العلم يتطور ويخبرنا كل يوم عن جديد في هذه العمليات.

إذًا لدينا تشبيه خلق بخلق، ولدينا معلومات واضحة نوعًا ما عن خلق أحدهم؛ وهو عيسى المسيح، ولدينا شيء مشترك وهو التراب؛ فما هو التراب؟ مع العلم أنّ هذه هي الآية الوحيدة التي ذُكِر فيها خلق آدم من تراب!، وباقي آيات الخلق التي ذُكر فيها التراب كانت بصفة عامة وليست خاصة بآدم، كذلك لا يمكن لعاقل القول بأنّ عيسى خُلق من التراب الذي نعرفه، مثل الصورة الذهنية التي لدينا عن خلق آدم.

- فما هو التراب؟

جذر كلمة التراب هو [ترب] ولها  أصلان بحسب قاموس اللغة: الأصل الأول: هو التراب المعروف وما يشتق منه، والأصل الثاني:  هو تساوي  شيئين.

ومن خلال كتاب الله نجد أنّ كلمة تراب قد ذُكرت في عشرين موضعًا، جميعها نكرة ما عدا موضعاً واحداً معرفة بـ (ال)  وذلك في سورة النحل، قال تعالى:

)يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ( (سورة النحل: الآية 59).

اللافت للنظر وجود آيتين في كتاب الله تتحدثان عن مراحل التحلل بعد الموت، جاء فيها ذكر التراب سابقًا للعظام بعكس المشاهدات الطبيعية، والتى يكون فيها التراب آخر مرحلة من مراحل التحلل، وذلك عندما تتحلل العظام بشكل نهائي.

)قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ( (سورة المؤمنون: الآية 83)

)أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ( (سورة الصافات: الآية 53) .

عندما يذكرالله التراب قبل العظام فلابد أنّ التراب له معنىً آخر غير ما نفهم ولابد أن يثير هكذا ترتيب شهية الباحث لفحص هذا التعبير القرآني. حتى نقف على معنى تراب والفرق بينه وبين التراب المعرف بأل؛ لابد أنْ يلقي نظرة على تحلل الجسم بعد الموت حسب الرؤية العلمية.

يقول العلم: إنّ الجسم بعد الموت يمر بعملية تحلل، تشمل جميع الأعضاء والأجهزة والأنسجة، ولا يبقى غير العظام في المرحلة الأولى، وفي هذه المرحلة تتم تجزئة وتفكك المواد العضوية لأبسط عنصر أو جزيء ممكن.

المرحلة الثانية: يبدأ فيها الهيكل العظمي بالتحلل حتى يختفى تمامًا. 

من الواضح أنّ هناك اختلافاً بين نتيجة التحللّ الأول للمواد العضوية، ونتيجة التحلل الثاني للعظام؛ لذا كان التعبير القرآني دقيقاً في القول؛ إنّ الإنسان عندما يموت يتحول إلى تراب (الأجزاء العضوية وهي أبسط جزء وجميعها متساوية)، أما العظام فهي تختلف في تركيبها عن الحالة الأولى.

كلمة تراب ليست مقصورة على تراب الأرض؛ وإنما هو اسم حالة للمادة؛ وتراب الأرض هو الصورة الأشهر لها.

إنّ الوصف القرآني  وصف دقيق، ويصف المسمّى بكل دقة؛ فلا يمكن أنْ يكون التراب هو اسم جنس تراب الأرض؛ إذ إنّ تراب الأرض نفسه تختلف مكوناته من بقعة لبقعة، ومن مكان لمكان.

فبقعة معينة غنية بالمعادن مثل الحديد لا يمكن أن تكون ذات البقعة الغنية بالجير أو ذات البقعة الغنية بالمكونات العضوية؛ فالتركيب -لا شك- مختلف، لكنّ الحالة متشابهة.

ومن هنا تصبح التسمية الحقيقية للتراب هي: وصف الأجزاء الدقيقة المتساوية والمتشابهة. ولاحظ أنّ جذر كلمة تراب في اللغة أيضاً هو:  تساوي  شيئين!

هذا الوصف الدقيق ينطبق على كل الجسيمات الدقيقة والمتساوية والمتشابهة، وهي قد تشبه إلى حد كبير مسمى كلمة جزيء في العلوم الطبيعية.

الجزيء هو أصغر وحدة من المادة الكيميائية و يحتفظ بتركيب وخواص وصفات المادة؛ أي إنّ جزيئات كل مادة متشابهة ومتساوية.

فإذا اجتمعت دقائق من مادة معينة؛ بحيث تكون كل حبيبة تماثل كل حبيبة في التركيب دون زيادة أو نقصان؛ يمكن عندها أنْ يسمى هذا المكون تراباً؛ ولذلك تمّ فصل ذكر التراب عن العظام؛ إذ عند التحلل الكامل للجسد الميت، تنتج أجزاء متساوية ومتشابهة، تختلف هذه الأجزاء عن ناتج تحلل العظام الغنية بالكالسيوم.

يمكننا لفت نظر الباحثين إلى نقطة هامة لم نجد لها صدىً علمياً، ولكن اللفظ القرآني يشير إليها؛ وهي أنَّ الأجزاء المتحللة عند موت كائن تختلف عن الأجزاء الناتجة عن تحلل العظام، وأعتقد أنَّ فحص النواتج النهائية باستخدام أجهزة علمية حديثة؛ مثل الميكروسكوب الالكتروني، لكلٍ من نواتج التحلل ليس بالأمر الصعب

عندما ذكرت كلمة التراب معرَّفة في كتاب الله، فذلك يعني ما تعارف عليه الناس وهو  المسحوق الذي يعلو سطح الأرض حيث تتماثل تركيب الجسيمات وتتشابه؛ ولكن إذا كان الحديث عن خلق شيء من تراب فلابد أنْ يُحددَ هذا التراب؛ بمعنى: تراب أيِّ شيء؟؛ فإذا لم يحدَّد يكون معنى التراب هو الأجزاء الصغيرة، أو جزء صغير متناسق مع غيره، ويحمل نفس الصفات والخواص، ويجب فهمه من خلال سياق الآيات.

فالأجزاء الصغيرة المتساوية من مادة ما هي في الحقيقة تراب؛  كما يدلّ على ذلك اللفظ القرآني ومدلوله أنها: (جزيئات أو خلايا أو أي جسيمات متساوية).

بعد تفصيل كلمة تراب وبيان معناها؛ أعتقد أنّ إشكالية خلق آدم من تراب في الآية الكريمة، التي يشبّه فيها ربنا سبحانه وتعالى خلق عيسى بخلق آدم؛ أصبحت أكثر وضوحاً وبياناً؛ بحيث صار المقصود بتراب في هذه الآية: الأجزاء الصغيرة المتماثلة، والتي قد تكون وصفاً للبويضات أو وصفاً للحيوانات المنوية.

في حالة نبي الله عيسى وُلد من أنثى بدون ذكر، ولا شك أنّ عملية الإخصاب تمت باستخدام الأجزاء الصغيرة المتساوية؛ وهي البويضات من السيدة مريم، والجزء الآخر وُكِّلَ به ملك كريم؛ فيما يشبه عملية التلقيح الصناعي، أو ربما بشكل يشبه عملية الاستنساخ؛ كأنّ الملك الموكّل بذلك هو الطبيب الذى قام بإجراء هذه العملية الإلهية. (سوف نفرد فصلاً كاملاً لميلاد نبي الله عيسى في الجزء الرابع - وإنه لعلم للساعة)

لذا أُرجِّح أنّ لفظ تراب هو وصف الخلايا المتشابهة والمتماثلة، والتي نطلق عليها بويضات. ومما يقوي  هذا الاستدلال؛ العلاقة الصوتية بين كلمة تراب وكلمة ترائب الواردة في كتاب الله في سورة الطارق، والمتعلقة بخلق الإنسان أيضاً.

)فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ( (سورة الطارق: الآية 5-7)

عند تفسير كلمة [ترائب]؛ اختلف المفسرون في تأويلها على جوانب عدة، وقد لخص الإمام الطبري ما قيل في الترائب على النحو التالي:

✦ «وقوله: )يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ( يقول: يخرج من بين ذلك، ومعنى الكلام: منهما، كما يقال: سيخرج من بين هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما.

واختلف أهل التأويل في معنى الترائب وموضعها، فقال بعضهم: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة. عن ابن عباس )الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ( قال: الترائب: موضع القِلادة. عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: )يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ( يقول: من بين ثدي المرأة.

وقال آخرون: الترائب: ما بين المنكبين والصدر. عن مجاهد، قال: )الترائِبِ( ما بين المنكبين والصدر.

وقال آخرون: هو اليدان والرجلان والعينان. عن ابن عباس، قوله: )يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ( قال: فالترائب أطراف الرجل واليدان والرجلان والعينان، فتلك الترائب.» انتهى الاقتباس من التفاسير.

يظهر من قول المفسرين عدم اجتماعهم على معنى كلمة الترائب؛ فكل جماعة ذهبت مذهباً، فمنهم من قال: موضع القلادة على صدر المرأة، ومنهم من قال: بين الثديين، ومنهم قال: أسفل التراقي أو اليدين والرجلين.

هذا الاختلاف في وصف الترائب إن دل على شيء فإنما يدل على عدم وضوح المعنى لديهم. وهذا الاختلاف يجعلنا نتساءل: ما علاقة كل هذه المعاني والتفسيرات بالمكونات الأولية للجنين القادمة من الذكر والأنثى.

من خلال مقارنة كلمة تراب التي ذُكرت في كتاب الله كمرحلة من مراحل خلق الإنسان، ولفظ الترائب التي هي مصدر أحد المكونات الأساسية للجنين؛ نجد أنّ المعنى الأوقع والمطابق لهذه الحقائق هو المكان الذي ينتج التراب، فإذا كان التراب يعني البويضات؛ فالترائب تعني  المبيض، وإذا كان التراب هو الحيوانات المنوية؛ فتكون الترائب هو مكان ومصدر هذه الحيوانات المنوية.

 تقول المعاجم: إنّ كلمة ترائب مفردها تريبة، ومصدرها راب وهو النقاء والصفاء.

 فهذا الاشتراك الصوتي بين كلمة تراب، وجذرها ترب، وكلمة ترائب التي من خصائصها النقاء والصفاء؛ يدعم ما ذهبنا إليه من أنّ المقصود بالتراب هو الأجزاء المتماثلة والمتشابهة؛  حيث أهم صفة للتماثل والتشابه هو الصفاء والنقاء؛ أي تكون الأجزاء نسخة مكررة من بعضها.

إنّ آيات خلق الإنسان القرآنية التي ذكر فيها التراب جاءت جميعها متبوعة بكلمة نطفة، وهي المرحلة الأولى من مراحل تكوين الجنين، والنطفة هي بويضة مخصبة بحيوان منوي؛ مما يقوي الدليل أنّ المقصود بالتراب هو البويضات، أي قبل الإخصاب مباشرة.

ولو سلّمنا جدلاً أنّ التراب المقصود به هو تراب الأرض؛ فلماذا لم يذكر الطين بعد التراب، أو الصلصال، أو أي مرحلة من المراحل المادية التي ذكرها ربنا في مواضع متعددة، في أي آية من الآيات التي تتحدث عن خلق الجنين.

وعلى العكس تماماً جاءت الآيات تتحدث عن التراب، ثم تخطت الطين والصلصال إلى النطفة، ثم العلقة، وهكذا.

لذلك يبدو واضحاً أنّ التراب هو الأجزاء الصغيرة المتساوية، وهي في الغالب البويضات، بينما الترائب هي المبيض مصدر تلك البويضات.

إنّ الآيات التالية تضع التراب ضمن مراحل تكوين الجنين؛ من خلال العملية البيولوجية:

الآية الأولى: )وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( (سورة فاطر : الآية 11).

الآية الثانية: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( (سورة غافر: الآية 67). 

الآية الثالثة: )قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا( (سورة الكهف : الآية 37).

الآية الرابعة: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ( (سورة الحج : الآية 5).

لابد أنْ نسأل أنفسنا السؤال المنطقي: لماذا جاء ذكر التراب في نفس السياق مع النطفة والعلقة،  ومراحل تكوين الجنين؛ إذا كان المقصود هو تراب الأرض وبداية خلق الإنسان؟

هذا النظم الإلهي البديع؛ من ترتيب مراحل خلق الجنين، والتى تبدأ بالتراب بهذه الكثافة، ثم الإشارة إلى كلمة الترائب، والتي لم يستطع العرب فهم مدلولها، تدل بشكل مؤكد على أنّ التراب على غير ما توارثنا معناه، وجاء كتاب الله ليصحح ويلفت نظرنا إلى هذه الحالة الفريدة؛ ليصبح التراب هو الأجزاء أو الأشياء المتساوية. 

الموضع الوحيد الذي جاءت فيه  كلمة تراب غير مرتبطة بكلمة نطفة وتصف خلق البشر هو الآية التالية : )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ( (سورة الروم: الآية20)

لابد من ملاحظةِ أنّ الآية تتحدث عن البشر، والذي قلنا أنه مرحلة ما بعد الإنسان، وهنا يجب التوقف طويلاً؛ لفهم كيف تحول الإنسان إلى بشر؟

هذه الآية الكريمة تعطينا الحد الأدنى الذي يمكن من خلاله فهم كيف جاء البشر؟

يبدو أنّ البشر جاء من بويضات؛ أي تمّ الانتقال من مرحلة الإنسان إلى مرحلة البشر عن طريق نطفة عادية (بويضة وحيوان منوي)، وما يدفعنا للقول بأنّ أصل البشر هو التراب بمعنى البويضات؛ قول الله سبحانه عندما وصف بداية خلق الإنسان، أنّ البداية كانت من الطين: )الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ( (سورة السجدة: الآية7).

وهذا دليل آخر على أنّ الإنسان سابق للبشر؛ إذ الإنسان من طين بينما البشر من تراب (البويضات)؛ فلو أنّ تراب الأرض هو المقصود لكانت الآية تشير إلى خلق الإنسان من تراب لأن التراب مرحلة سابقة للطين، ولكن ما حدث أنّ الآية الكريمة تقرر أنّ خلق الإنسان بدأ من طين، وسوف نتعرف على الآيات في سورة السجدة بشكل كامل في السطور القادمة. 

لعل أحد المهتمين بالعلوم يوجه انتقاداً لهذا الطرح، بالقول: إنّ تفسير التراب بمعنى الأجزاء الصغيرة المتشابهة والمتماثلة لا ينطبق على وصف البويضة؛ لأنها تعتبر جزءاً واحداً، وليست أجزاءً متشابهة؟

لذلك كان لزاماً علينا أنْ نلقي الضوء على تكوين البويضات في الأنثى، وهل هي بويضة واحدة، أم أنه مخزن يحتوي على عدد هائل من البويضات جاهزة ومعدة سابقاً، وتخرج بقدر وحساب في دورات محددة.

الترائب (المبيض):

من المعروف علميًا أنّ البويضات لدى الأنثى يتم تطويرها في المراحل الأولى؛ وهي ما تزال جنيناً في بطن أمها، ويعتقد العلماء أنه عندما يتم تكوين البويضات الأولية لدى الأنثى وهي ما زالت جنيناً، لا يتم إنشاء مزيد من البويضات بعد ذلك. 

تصل البويضات لدى الأنثى إلى أقصى نمو لها في 6 أسابيع إلى 20 أسبوعاً من عمر الحمل؛ أي والأنثى ما زالت جنيناً، وفى هذه المرحلة يتم إنتاج ما يقرب من 7 ملايين بويضة،  تنقص من  مليون إلى مليونين عند الولادة؛  أي إنّ الأنثى عند لحظة ميلادها تحمل في المبيض ما يقارب 2 مليون بويضة جاهزة، متماثلة ومتشابهة ومتساوية، تنتظر اللحظة التي تنطلق فيها استكمالا لدورتها؛  أي إنّ المبيض يحتوي على البويضات في شكلها النهائي، وتخرج في دورة بيولوجية معروفة، وهي على ذلك ينطبق عليها لفظ تراب؛ وهي الأشياء المتساوية.

بعد تحليلنا للألفاظ ظهر التناسق والتكامل بين وصف الترائب؛ وهي المخزن المملوء بالبويضات، مع وصف البويضات بالتراب.

- المشهد الثاني في خلق الإنسان:

جاء في سورة الحجر: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29)( (سورة الحجر: الآيات 26- 29).

الآيات الأربع السابقة تضع حدوداً فاصلة بين الإنسان والبشر، في مشهد مهيب، ما علينا إلا أنْ نرتل القرآن، و نستمع لكلمات الله العليم الخبير؛ فالآيات ترتِّب مراحل الخلق، إذ جاء ذكر الإنسان وذكر البشر خلال ثلاث آيات.

الآية الأولى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون("

الآية الكريمة تشير إلى خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، ومع أنّ التفاسير ذكرت أنّ الإنسان هو آدم عليه السلام؛ إلا أنّ الآية لا تقرِّر ذلك، هي فقط تشير إلي ذلك، بل المقصود هو خلق الإنسان بصفة عامة.

 الصلصال هو أحد مراحل الخلق الأول بعد مرحلة الطين،  ومن ثم وصل الخلق إلى الإنسان المتربع على قمة الكائنات.

الآية الثانية: )وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(

في الآية إشارة واضحة لترتيب الخلق؛ حيث إنّ خلق الجن من نار السموم كان قبل خلق الإنسان، ولْنلاحظ كلمة [قبل] التي تؤكد المعنى؛ فهي لم تأتِ عبثاً، ولكن إشارة لترتيب المراحل؛ فمن الواضح أنّ المقصود هو الخلق بصفة عامة، حيث الجن كان في البداية ثم جاء بعده الإنسان.

الآية الثالثة: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(

هذه الآية الكريمة تعلن  عن المرحلة الثالثة من الخلق وتدشنها؛ وهي مرحلة البشر.

الآية الأولى -كما رأينا- تحدثت عن الإنسان، ثم الآية الثانية تذكر خلق الجن الذي كان قبل الإنسان، وها هي الآية الثالثة تتحدث عن خلق البشر.

ولا يمكن أنْ تكون الآية الأولى تحمل معنى الآية الثالثة نفسه، وأنّ الآيتين مجرد تكرار للمعلومة، وخصوصاً اختلاف مسمى المخلوق في كل مرة؛ حيث جاء في الآية الأولى بلفظ [الإنسان] وفي الآية الثالثة بلفظ [البشر].

فالآية تشير إلى أنّ الإنسان والبشر لهم نفس البداية؛ وهي الصلصال من حمأ مسنون؛ كما ورد في الآية.

فلا يظن أحدٌ أنّ الإنسان خلق منفصل عن البشر؛ بحيث خُلق الإنسان أولاً، ثم بعد فترة خُلق البشر؛ لأنّ الآية تخبرنا أنّ الإنسان والبشر من نفس المصدر، ولكن تبعاً للترتيب فقد جاء الإنسان أولا ثم ظهر البشر. 

يبدو لي أنّ الإنسان الحالي قد وصل إلى ما هو عليه من خلال مراحل متعددة؛ المرحلة الأولى: هي خلق الإنسان الأول؛ والذي أنبته الله من الأرض نباتاً، ثم ترقَّى ووصل لمرحلة الإنسانية؛

كما شرحنا الفرق بين كلمة إنسان وكلمة بشر، ثم جاءت المرحلة الثانية: وهي ظهور البشر صاحب التطور الأهم؛ وهو التطور على المستوى المعرفي.

من خلال اشتراك كلٍّ من الإنسان والبشر في المصدر الأول للخلق؛ وهو الصلصال من حمأ مسنون؛ نستطيع أن نقول إنّ البشر هم نسل من نسل الإنسان الأول.

إنها عملية منطقية بسيطة للغاية، إنّ البشر انحدر بيولوجيّاً من الإنسان الأول؛ حيث إنّ الإنسان الأول تحول عن طريق طفرة إلى إنسان بشري؛ والذي أصبحت لديه قدرة على التعامل مع المعلومات والاستنباط والاستدلال؛ مما يوحي بتطور القدرات العقلية لهؤلاء البشر.

الآية الرابعة: )فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(

الآية الكريمة تتحدث عن مرحلة ثالثة في خلق الإنسان، أو مراحل تطور خلق هذا الكائن البشري.

بعد خلق الإنسان ثم البشر يبدو أنّ التسوية حدثت، ومن ثم نفخ الروح (الوعي والقدرة على التسمية (اللغة)؛ ليتحول إلى كائن بشري مكتمل الأركان لِتلقِّي المهام المنوط بها.

كلمة التسوية هنا تشمل التسوية المادية والمعنوية، وقد يكون حدث أنِ انتصبت قامة البشر واعتدلت، ولما أصبح جاهزاً لتلقي المسؤولية نفخ الله فيه من روحه؛ هذه النفخة حملت إليه البرنامج الإلهي الخاص باللغة، والذي أصبح من خلاله قادراً على التسمية ووصف الأشياء من حوله والتعبير عنها.

لا شك أنَّ مسألة نفخ الروح والقدرة على التسمية هي الميزة التي حصل عليها آدم؛ من خلال الاصطفاء الذي ذكره ربنا في كتابه. 

قبل أن نغادر هذا المشهد الرباني يجب أن نلقي نظرة على الآية الكريمة التي تتحدث عن التسوية والتعديل لخلق الإنسان؛ والتي تعطينا لمحة أخرى للمدى الزمني، وتطور الإنسان البشري إلى صورة مستوية ومعتدلة، وإن كان بعض المفسرين أرجع ذلك إلى حُسن الهيئة والشكل الذى تم في الخلق الكامل؛ فإننا نرى فيها إشارة  إلى البعد الزمني للتطور الشامل الذي  حدث للإنسان حتى وصل لمرحلة آدم.

-  المشهد الثالث في خلق الإنسان:

في سورة المؤمنون؛ هذا المشهد القرآني يعطينا تفصيلةً مهمةً لصورة خلق الإنسان؛ حيث يَظهر التعبير القرآني الرائع بلفظ سلالة، والذي يحوي كنزًا معرفيًا لا مثيل له، وكذلك الإشارة إلى التحول من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي؛ وهو دلالة لا تخطئها العين على التطور.

ثلاث آيات لا نملك إلا أن نخر ساجدين أمامها مرددين تبارك الله أحسن الخالقين:

)وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)( (سورة المؤمنون:الآيات 12-14) .

الآية الأولى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ(

هذه الآية -كسابقتها في سورة الحجر- تتحدث عن خلق الإنسان بصفة عامة، وكيف جاء عن طريق سلالة من طين.

في المشهد السابق كان خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وهذه الآية ورد فيها خلق الإنسان من الطين؛ فلو حاولنا مقارنة الآيتين، وفهم الفرق بين الطين والحمأ المسنون؛ حيث الحمأ المسنون مرحلةٌ متقدمة من الطين، وهذه التعبيرات القرآنية ما هي إلا ذكر للتطور على مستوى المادة؛ تحول الطين إلى صلصال من حمأ مسنون هو في حد ذاته خروج من طور إلى طور ولكن على مستوى المادة.

الجدير بالتوقف والتدبر في هذه الآية الكريمة هو إضافة لفظ سلالة إلى لفظ طين، حيث يقول ربنا إنه خلق الإنسان من سلالة من طين؛ فماذا تعني كلمة سلالة وما مدلولها؟

الجذر الثنائي لكلمة سلالة: سل، ولها أصل واحد: وهو مدّ الشيء في رفق وخفاء، وفى لسان العرب لابن منظور:  سلل: معناه انتزاع الشيء وإخراجه في رفق.

✦ فسر المفسرون كلمة سلالة في هذه الآية الكريمة بمعنى: سُلّت، وأُخذت من جميع الأرض.

قول المفسرون فيه عور واضح؛ فالآية الكريمة تتحدث عن سلالة من طين، وليس سلالة من الأرض كما يدّعي المفسرون؛ فالتعبير القرآني سلالة من طين؛ أي خرجت من الطين بشكل متسلسل أو بمعنى أدق خروج بعد خروج.

✦ كلمة سلالة تحمل في طياتها فك لغز خلق الإنسان؛ فهي تعلن بشكل صريح أنّ الإنسان جاء من خلال سلالة من طين؛ أي جاء من خلال تسلسل أوله الطين؛ وبتعبير آخر يمكننا القول بأنّ هناك سلسلة بين الطين وبين الإنسان؛ وهذا هو صلب التطور.

الآية الثانية: )ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ(

بدأت الآية الكريمة بالتعبير القرآني )ثم جعلناه( ؛ وكما وضحنا من قبل أنّ  لفظ [الجعل] يختلف عن [الخلق]، والجعل هنا تحول جزئي أو تغير في الحالة.

 تحمل هذه الآية الكريمة وصفًا واحتمالًا قويًا على التطور؛ لأنّ لفظ [جعل] يفيد التحول، ويبدو أنّ التحول هنا كان في طريقة التكاثر والتناسل خلال نسل هذا الإنسان؛ حيث جعل سبحانه وتعالى النطفة في قرار مكين.

وإذا علمنا أنّ طرق التكاثر في الكائنات مختلفة؛ منها التكاثر اللاجنسي والتكاثر الجنسي، وأنّ قول الله سبحانه وتعالى )جعلناه نطفة( تعني أنّ هناك تحولاً حدث؛ من طور لم يكن التكاثر فيه عن طريق النطفة، إلى طور صار التكاثر فيه بالنطفة.

إنّ أهم ما يميز التكاثر الجنسي هو مسألة النطفة، والتي تتطلب  ذكر وأنثى. فعندما يقول القرآن جعلناه نطفة؛ فهذا يعنى أنّ ما قبله لم يكن نطفة، والجعل أو التحول الجزئي الذي حدث هو ما صيّره نطفة. 

من المعروف أنّ  التكاثر عند الكائنات البسيطة يتم بطريقة لا جنسية؛ مثل الانشطار أو الانقسام، بينما التكاثر عند الكائنات الأكثر رقياً يكون تكاثراً جنسياً عن طريق النطفة. 

الآية الثالثة: )ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين(

توضّح هذه الآية الكريمة استقرار طريقة التكاثر الجنسي وتطور النطفة؛ من خلال عدة عمليات وصولاً إلى مرحلة الجنين.

المشهد التالي في سورة السجدة يؤيّد ويعزّز الاستدلال على أنّ هناك تحولاً في طريقة التكاثر، حدثت في السلسلة الحيوانية؛ حيث تحولت طريقة التكاثر من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي.

- المشهد الرابع في خلق الإنسان:

)الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(9)( (سورة السجدة: الآيات7-9).

تفسير هذه الآيات الكريمة من خلال المفسرين لم يذهب بعيدًا عن التفاسير التقليدية، والتي جعلت الإنسان مرادفًا للبشر مرادفًا لآدم، وتحدثت عنهم كأنهم شيء واحد لا فرق بينهم؛ بالرغم من تعدد الآيات، وتعدد الصور التي يمكننا رسمها من خلال كل آية؛ إلا أنها لم تلفت الانتباه؛ بسبب الصورة الطاغية على مشهد خلق الإنسان، والتى تنصّ على أنّ الإنسان خُلق خلقاً منفصلاً عن باقي المخلوقات.

الآية الأولى: )الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ(

إنها زاوية أخرى تساعدنا في فهم الصورة الكلية لكيفية بداية الخلق، والمراحل التي مر بها.  فهذه الآية في بدايتها  تتحدث عن خلق وإعداد وتهيئة كل شيء قبل بدء خلق الحياة، والتي على رأسها الإنسان.

لا شك أنّ قول ربنا )الذي أحسن كل شيء خلقه( يدل على تمام خلق جميع أسباب الحياة ومقوّماتها، ويبدو أنّ هذه المرحلة قد استغرقت مدة زمنية طويلة  قبل بدء الحياة؛ بدليل استخدام حرف العطف [ثم] الذي يفيد التراخي.

 بعد عملية التهيئة والإعداد التي طالت الكون كله، بدأ خلق الإنسان من الطين كما يخبرنا ربنا، لفظ [بدأ] يشير إلى مجموعة التفاعلات الأولية التي تسببت في وجود الحياة؛ فالمعنى المقصود واضح تماماً أنه يتحدث عن البداية، ومع ذلك لم يستخدم القرآن الكريم تعبيرَ التراب في وصف البداية؛ كما بيّنا عند تحليل لفظ تراب؛ فالبداية كانت من الطين، ثم تأتي الآية التالية لتخبرنا عن التحول الهام الذي طرأ على الخلق.

الآية الثانية: )ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ(

تبدأ الآية بالتعبير القرآني )جعل نسله(، وكما ذكرنا أنفاً أنّ كلمة [جعل] تعني التحول الجزئي، مما يفيد أنّ تحولاً ما حدث لهذا الخلق الأول؛ فصار النسل من ماء مهين.

والماء المهين هو الطريقة التي جاء بها النسل، وتكاثر بها؛ وهي الطريقة الجنسية.

 في )جعل نسله(  الهاء تعود إلى الطين وليس إلى الإنسان؛ إذ إنّ الإنسان من بدايته -كما نعرف- نسله من ماء مهين. فالآية الكريمة تحكي قصة تحول النسل الخارج من الطين إلى تكاثر عن طريق الماء المهين، والذي انتهي بالإنسان.

هذه الآية تضيف دليلاً آخر على عملية التطور التي لحقت الكائنات، وجاء على رأسها الإنسان. فلو أنّ الإنسان خُلق خلقاً كاملاً، ما الذي يدعو للتحول والجعل الذي ذكره القرآن، حتى جاء النسل من ماء مهين؟

من خلال ملاحظة ترتيب الآيات؛ سنجد أنّ مرحلة التسوية ونفخ الروح لم تظهر بعد، ومن يعتقد أنّ  الترتيب هنا ليس له معنى، أو أنّ  التكرار هنا بلا فائدة؛ فما قدر كتاب الله حقّ قدره، واتّهم كلام الله بعدم البلاغة، وجعله أقرب للعشوائية والقول بالصدف؛ عن القول بالتقدير الحكيم.

هذا الترتيب هو جزء لا يتجزأ من النظم الإلهي البديع، الذي يجب أن يُؤخذ في الحسبان لفهم وبيان الآيات الكريمة.

مرحلة التسوية ثم النفخ ذكرت في الآية الثالثة، بعد مراحل متعددة؛ مما يؤكّد البعد الزمني للخلق والتسوية ثم النفخ.

الآية الثالثة: )ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(

بعد عملية التحول في طريقة التكاثر، جاءت عملية التسوية، ثم  عقبها عملية نفخ الروح.

وقد يختلط على البعض أنّ عملية نفخ الروح هي عملية الحياة ذاتها؛ وهذا خطأ بيّن؛ فعملية نفخ الروح هي عملية خاصّة بالإنسان جعلته ملائماً لوظيفته التي سوف يقوم بها، وقد بيّنّا ذلك في الجزء الثاني، وسوف يأتي أيضاً خلال هذا الجزء بيان عملية النفخ والمقصود منها، والتي  كان من ضمنها قدرة آدم على تسمية المسميات، أو نشأة اللغة لدى الإنسان.

في نهاية الآية لمحة تطورية في غاية الروعة لابد أن نقف أمامها طويلاً، ويقف العلماء إجلالاً واحتراماً لهذه المعرفة القرآنية العظيمة؛ إنها الإشارة إلى تطور حاسة السمع وحاسة البصر، وتطور عمل القلب ومجاله لدى المخلوق الذي سوّاه ونفخ فيه ربه من روحه.

[الجعل] -كما قلنا- هو تحول جزئي؛ وهذا ما يفيد أنّ السمع والأبصار والأفئدة كانت من ضمن الوظائف في الكائن السابق، ثم جرى عليها عملية تحول معين.

 هذا التحول الجزئي الذي طال السمع والبصر والفؤاد هو ما يسميه العلم تطوراً، وهو تطور في غاية الأهمية؛ إذ إنّه تطور في أدوات الإدراك والسمع والبصر وعملية الاتصال والإحساس عن طريق القلب (راجع الجزء الأول - فطرة الله التي فطر الناس عليها)، وهي الأدوات الرئيسة التي يقوم عليها الإدراك وتحصيل المعرفة؛ فهذا التطور الهام يبدو أنّه اللمسات الأخيرة، والتي من خلالها سوف يصبح هذا الإنسان مؤهلاً لتولّي المسؤولية المنوطة به.

هل تذكرون الإشكالية الخاصة بتركيب العين؛ التي جعلت الباحثين يعتقدون أنها لم تخلق خلقاً منفصلاً؛ إذ لو أنها خلقت بشكل منفصل لكانت بشكل آخر.

وفرضية الباحثين أنه لكي تكون العين بهذا الشكل؛ لابد أنها تطورت عن وضع سابق، يشير إليها القرآن. 

وليست العين وحدها؛ بل العين والسمع والأفئدة جرى عليهم تحولات، وتطورت هذه الحواس عن حالات سابقة؛ أدّت بالنهاية إلى الصورة التي يمكنها أن تكون أكثر كفاءة وملاءمة لوظيفتها القادمة.

إنّ تطور هذه الأجهزة هو ما ساعد الإنسان في تطوير قدراته العقلية وتوسيع مداركه، وكانت خطوةً في غاية الأهمية في سلم تطور الإنسان. 

- المشهد  الخامس في خلق الإنسان:

)إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ( (سورة ص: الآية 72)

الآية الأولى لا تحتاج لبيان؛ لكثرة ما تناولنا هذا التعبير القرآني في آيات سابقة؛ المقصود بالخلق من طين هنا هو البشر، وكما بيّنا من قبل أنّ البشر هو المرحلة المتطورة من الإنسان،  وهي دلالة على أنّ الإنسان والبشر من الأصل نفسه أو المنشأ نفسه.

لفظ السجود في الآية الثانية يدل على أنّ هذا البشر وصل لمرحلة من الإعداد والتهيئة وزيادة القدرات العقلية؛ تمكنه من أن يصبح جاهزاً لتسلّم المهام الموكلة إليه، ولم يبق إلا سجود الملائكة؛ وهو أمر ضروري من ضروريات وجود البشر على الأرض، وسجود الملائكة ليس حالة عرضية بل هو حالة مستمرة؛ كما يدل على ذلك كتاب الله، فما هو السجود؟  وماذا يعني سجود الملائكة لهذا الإنسان؟

جذر كلمة [سجد] في قاموس اللغة لها أصل واحد: وهو تطامن وذل، أي هدوء وسكينة.

وفي كتاب الله ورد جذر [سجد] في ثمانين موضعاً، وسوف نحاول فهم مدلول الكلمة من خلال آيتين في كتاب الله كما يلي:

الآية الأولى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( (سورة البقرة: الآية 58)

فسرت التفاسير كلمة )سُجّداً( أي منحنين، بالرغم من أنّ مدلول السجود كما نعرف هو وضع الجبهة على الأرض؛ فإذا كان مدلول كلمة السجود هو وضع الجبهة على الأرض؛ فهنا يتعذر على بني إسرائيل دخول الباب سُجّداً، ولكن بالعودة لجذر الكلمة نجد أنّ كلمة )سُجّداً( تعني الاطمئنان والهدوء؛ فيصح هنا القول إنّهم أمروا بالدخول في حالة من الهدوء والاطمئنان.

الآية الثانية: )وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ( (سورة الإنشقاق: آية 21).

هذه الآية الكريمة في سورة الانشقاق، ويسبقها آيات تتحدث عن ظاهرة ما يسمى بالخسوف، وقد استطعنا من خلال المنهج الذي نستخدمه أنْ نبيِّن أنّ الآيات الكريمة وصفت ظاهرة انتظام القمر مع الأرض والشمس وسمّتها باسم الاتساق (الجزء الثاني _ فصل القمر إذا اتسق).

الآيات الكريمة السابقة لهذه الآية تتطلب قراءةً؛ أي فهماً وتحليلاً؛ لأنها آيات خاصة بظواهر كونية.

ومن صفات الآيات  التي  تحتاج للقراءة أنها تعطي نتائج منطقية تعتمد على الدليل والبرهان؛ لذلك جاءت الآية الكريمة -التي نحن بصددها- تتعجب من أولئك الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون!

يسجدون لا تعني هيئة السجود المعروفة ؛ولكنّ المعنى هنا: أي لا تزيدهم قراءة القرآن اطمئناناً وثقةً ورسوخاً واستقراراً.

استنتاجاً من هذه الآية؛ لابد أنّ قراءة القرآن بشكلها الصحيح؛ وهي تحليل وفهم الآيات أنْ تزيد الإنسان ثقةً واطمئناناً، ولكنْ هناك بعض المكذِّبين إذا قرئ عليهم القرآن لا يحدث لهم أي تغيُّر في حالتهم، بل إنَّ بعضهم يتَّخِذ قراءة القرآن هزواً.

إنّ عدم الشعور بالاطمئنان، أو عدم زيادة جرعة الثقة الإيمانية التي تسببها قراءة وفهم آيات القرآن؛ قد تكون  بسبب تحيز معرفي، مما يمنع صاحبه من فهم الآيات بصورة مستقلة، أو بسبب قدرة عقلية متواضعة لا تستطيع فهم العمليات المنطقية، أو بسبب عوامل نفسية خاصة بصاحبها. 

إذاً من خلال جذر الكلمة و مدلول الكلمة في كتاب الله؛ نجد أنَّ معنى السجود وصفٌ لحالة من الاطمئنان والاستقرار، فالإنسان الذي يسجد لله هو في الحقيقة يستمد الاطمئنان والاستقرار من الله، وهذا المعنى  قرّرته الآيات  الكريمة في سورة العلق: )أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب  (19)( (سورة العلق: الآيات 13-19).

فهذه الآيات الكريمة تتحدث عن ذلك المكذب والمعاند ومثير القلاقل، والذي جاء العلاج القرآني من تأثيره خلال آية )كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب(؛ أي اطمئن واستقر، ولا تلتفت إليه، ثم اقترب.

مما سبق؛ كيف نفسر سجود الملائكة لآدم؟

عملية السجود التي قامت بها الملائكة هي عملية تطمينٍ ودعم واستقرار لهذا المخلوق، الذي سوف يحمل على عاتقه مهمة جليلة بعد قليل.

مفهوم التطمين ودعم الاستقرار حاضر في كثير من آيات القرآن، والتي تصف العلاقة بين الملائكة والإنسان:

)لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ( (سورة الرعد: الآية 11).

الحفظة الذين يحفظون الإنسان هم الملائكة، وما يقومون به من حفظ للإنسان هو من مهام عملية السجود له؛ لأن هذا الحفظ يمنح الإنسان الاستقرار والاطمئنان.

وبخلاف عمل الملائكة، نجد العمل الرئيس لإبليس -الذي رفض السجود- هو دفع الإنسان للعجلة، وجعله قلقاً وحائراً.

من خلال فهم سجود الملائكة على أنه تطمين ودعم استقرار الإنسان؛ نستطيع بكل سهولة فهم الآيات التي يقول فيها ربنا إنه أمد المقاتلين في سبيله  بألف من الملائكة:

)إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (سورة الأنفال: الآية 9).

يقول بعض المشككين في القرآن: إنّ هذه الآية دليل على أنّ القرآن مجرّد مجموعة من القصص و الروايات غير الواقعية؛ إذ كيف يمد الله المسلمين في غزوة بدر بألف من الملائكة؟ ومع ذلك مجموع العدد المقتول من المشركين يومئذ -في أصح الروايات التاريخية- هو سبعون رجلا.

إنّ كتب السير والتراجم تذكر أسماء أغلب المقتولين في هذه المعركة ، إن لم يكن كلهم، وتذكر كذلك قاتليهم، فماذا فعلت الملائكة في هذه المعركة؟.

إذا كان الله أمدّ المؤمنين بألف من الملائكة ، وبحسب روايات التراث إنّ ملكاً واحداً من الملائكة قادرٌ على تدمير الأرض بمن عليها؛ فكيف بألفٍ من الملائكة لم تهلك كفار مكة عن بكرة أبيهم وتفنيهم تماما؟

إنّ كتب التراث التي قامت على التصورات الشخصية دون أي سند حقيقي من كتاب الله، أساءت كثيراً لفهم كتاب الله للأسف، وسبّبت لغطاً عند كثير من أولئك الذين لا يستطيعون  فهم الفرق بين كتاب الله وتفسير كتاب الله.

لذلك فإنّ فهم مدلول السجود ومعناه بالطريقة التي عرضناها في كتابنا يجيب على هذه الإشكالية بكل سهولة؛ فوظيفة الملائكة بالنسبة إلى الإنسان هي دعم استقراره وطمأنته، دون سلطان مادي حقيقي.

السجود عملية نفسية غير ملموسة؛ فعندما يسجد الإنسان يتصل بخالقه، وهذا التواصل هو ما يمنح الإنسان القوة الروحية اللازمة لاستمرار حياته بشكل سليم.

 كذلك سجود الملائكة؛ هو اتصال بين الملائكة والإنسان؛ بحيث ينتقل الدعم والاستقرار من الملائكة إلى الإنسان،  فهي حالة شبيهة لانتقال الطاقة؛ حيث تنتقل الطاقة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأقل.

في الثقافات القديمة نجد أنَّ الناس أدركوا هذه الحقيقة بشكل بسيط؛ فعندما يسجد الإنسان لإنسان آخر، أو يسجد للشمس، أو للقمر، أو حتى يسجد  للملائكة؛ هو في الحقيقة يطلب قوةً ودعماً ومدداً يعينه في حياته؛ لهذا السبب نهى ربنا أن يسجد الإنسان للشمس أو القمر أو أي مخلوق؛ لأنه وضع غير صحيح، والمطلوب من الإنسان السجود لله فقط؛ لأنه هو المصدر الرئيس للقوة.

من هنا نستطيع القول إنّ المدد الذي أرسله الله للمؤمنين في المعركة كان بمثابة دعم وقوة روحية، تنتقل من الملائكة إلى المؤمنين في صورة من صور سجود الملائكة للإنسان.

لقد قرر القرآن الكريم وظيفة الملائكة تماماً؛ من خلال هذا المدد في الآية رقم (10) والآية رقم (12) في السورة نفسها، والتي تتطابق بدقة مع مدلول السجود الذي ذهبنا إليه.

)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (سورة الأنفال " آية 10).

الآية الكريمة تقرر أنّ مدد الملائكة ما هو إلا بشرى وطمئنة للذين آمنوا، وطبعاً هذه البشرى والطمأنينة سوف تعود بالاستقرار والثبات لهؤلاء المؤمنين.

 عملية الاستقرار والتثبيت هذه التي تقوم بها الملائكة، والتي أعلن عنها ربنا عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم؛ نجدها واضحةً بشكل لا ريب فيه في الآية التالية:

)إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ( (سورة الأنفال : آية 12)

مما سبق نجد أنّ طلب ربنا سبحانه وتعالى من الملائكة السجود لآدم لا يعني بالضرورة الشكل الطقوسي المتعارف عليه؛ وإنما يعني أنْ يقتربوا منه ويحاولوا التواصل معه بشكل هادئ ومطمئن  لبث السكينة فيه، وتثبيته ودعم استقراره.

ما نستطيع استخلاصه من آية سجود الملائكة لآدم؛ هو التحول العظيم الذي حدث بعد مرحلة البشر:

فالله نفخ فيه من روحه، وأعطاه القدرة على التسمية، ثم وهبه ميزةً وهي دعم الملائكة له؛ بحيث تشد أزره وتدعم استقراره حتى يستطيع أداء وظيفته، ويبدو جلياً أنّ دعم الملائكة أو سجودهم لآدم هو أمر لا مادي، خاصٌ بالقلب ودائرة اتصاله مع الكون، والتي لا نعرف عنها شيئاً إطلاقاً حتى الآن. 

- المشهد  السادس في خلق الإنسان:

إنَّ سورة الإنسان وبالتحديد الآيتين الأولى والثانية من هذه السورة العظيمة تخبرنا بمرحلة عن أهم مراحل خلق الإنسان:

)هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)( (سورة الإنسان: الآية1-2).

في تفسير  الآية الأولى جاء تفسير الطبري

«عن قتادة، قوله: )هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ( آدم أتى عليه )حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا( إنما خلق الإنسان ها هنا حديثاً، ما يعلم من خليقة الله كانت بعد الإنسان. عن سفيان )هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ( قال: آدم.

وقوله: )حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ( اختلف أهل التأويل في قدر هذا الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو أربعون سنة، وقالوا: مكثت طينة آدم مصوّرة لا تنفخ فيها الرّوح أربعين عامًا، فذلك قدر الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع، قالوا: ولذلك قيل: )هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا( ؛ لأنه أتى عليه وهو جسم مصوّر لم تنفخ فيه الروح أربعون عاماً، فكان شيئاً، غير أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، قالوا: ومعنى قوله: )لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا( لم يكن شيئاً له نباهة ولا رفعة، ولا شرف، إنما كان طيناً لازبًا وحمأً مسنوناً.» انتهى الاقتباس من التفاسير.

يكاد المفسر ينطق بالقول إنّ الإنسان كان قبل مرحلة  البشر في مرحلة أقل رقياً؛ ولو توفر لهؤلاء الباحثين جزء بسيط من المعارف  التي بين أيدينا؛ لقالوا بتطور الإنسان البشري الحالى عن مخلوق أقلّ رقياً .

حاول المفسرون توضيح المدة الزمنية التي جاءت على الإنسان التي لم يكن فيها شيئاً مذكوراً، وذهبوا إلى أنّ ذلك عندما خلق الله آدم، ثم ظلّ هكذا طيناً حتى نفخ الله فيه الروح  ومنهم  من قال كانت مدة بقاء الإنسان أربعين سنة، ومنهم من قال إنها غير محددة، وكلها اجتهادات شخصية لا تقوم على أدنى دليل.

لو كان المقصود بالإنسان في هذه الآية هو آدم، ولو كان كما يقول المفسرون إنّ آدم خُلق بشكل منفصل وبخلق كامل؛ فما العمل مع الآية الثانية والتي تقول إنّ الإنسان خُلق من نطفة أمشاج؟ ولماذا لم يقل ربنا (هل أتى على آدم حين...) بدلاً من التعبير بلفظ الإنسان إذا كان الحدث واقعاً على آدم فقط، وليس على الإنسان بصفة عامة؟

 الإجابة ببساطة؛ لأنّ السورة الكريمة ليس لها علاقة بوجود آدم، وإنما تتحدث عن تاريخ وجود الإنسان، وربما من خلال فهم كلمة الدهر نستطيع تحديد المقصود.

جذر كلمة [الدهر] لها  أصل واحد؛ وهو: غلبة وقهر؛ كما جاء في قاموس اللغة.

وقد وردت كلمة الدهر في كتاب الله في موضعين؛ الموضع الأول: الآية التي نحن بصددها، بينما الموضع الثاني في سورة الجاثية: )وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ( (سورة الجاثية : الآية24).

نلاحظ أنّ في هذه الآية الكريمة صفةً وخاصيةً للدهر المذكور؛ وهي القدرة على الإهلاك.

وعن طريق فهم معنى الدهر؛ وهو كما نرى فترة زمنية، ومن خلال جذر الكلمة في اللغة؛ وهو الغلبة والقهر، ومن خلال مدلول الآية التي بين أيدينا؛ نستطيع أن نقول: إنّ الدهر هو فترة زمنية تتميز بالشدة أو ما يمكن أن نسميه أوقاتاً عصيبةً.

من هنا تصبح أول آية في سورة الإنسان تتحدث عن فترة عصيبة مرت على الإنسان، لم يكن فيها شيئاً مذكوراً؛ أي انقطع ذكره أو قارب على الانقراض ، أو انتهى وجوده فعلياً إلا من أفراد قليلة جداً لا تكاد تذكر، وقد يكون هذا الهلاك الذي أصاب نسل الإنسان الأول حدث في زمن الانقراض الكبير، الذي صاحبه انقراض الديناصورات، وسوف نأتي على هذا الانقراض من خلال سورة الفيل في هذا الجزء.

فترة الانقراض التي حدثت، والتي –غالباً- هي التي أهّلت نسل الإنسان إلا من القليل، أعقبها -كما تبين الآيات- تغيُّر محوري في مجرى خلق هذا الإنسان؛ هذا التغيير نصّت عليه الآية التالية التي تحدثت عن خلق الإنسان من نطفة أمشاج.

الآية الثانية: )إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(

بداية نعرج قليلاً على ما قاله التفسير التقليدي حول هذه الآية.

✦ جاء تفسير الطبري للآية الثانية كالآتي:

« وقوله: )إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ( يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا ذرّية آدم من نطفة، يعني: من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة: كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة.

وقوله: (أمْشاجٍ) يعني: أخلاط، واحدها: مشج ومشيج، يقال منه: مشجت هذا بهذا: إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج: أي مخلوط به. واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عني بها في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

وقال آخرون: إنما عُني بذلك: إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، ثم كسي لحماً.

عن قتادة، قوله: )إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ(  أطوار الخلق، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وطوراً عظاماً، ثم كسا الله العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر، أنبت له الشعر. عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد )أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ( قال: ألوان النطفة؛ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة حمراء وخضراء.

وقوله: )فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا( يقول تعالى ذكره: فجعلناه ذا سمع يسمع به، وذا بصر يبصر به، إنعاماً من الله على عباده بذلك، ورأفة منه لهم، وحجة له عليهم.» انتهى الاقتباس من التفاسير.

من خلال الآية الكريمة وترتيبها بعد الآية التي تحدثت عن فترة غياب الإنسان واندثار وجوده يتبيّن لنا أنّ المقصود هنا؛ تحولٌ ما حدث على غير العادة؛ حيث جاء الإنسان الثاني من نطفة أمشاج.

فما المقصود من كلمة أمشاج؟ وماذا يمكن أن نستفيد من إضافة لفظ الأمشاج -التي تعني الخلط-  إلى لفظ النطفة التي هي بالأساس خليط من ماء الرجل وبويضة المرأة؟

كلمة أمشاج تعني أخلاط كما وضحها المفسرون، وهي كذلك في قاموس اللغة لابن فارس؛  فجذر [أمشاج] هو مشج،  ولها أصل واحد هو الخلط.

كلمة [أمشاج] ذُكرت في كتاب الله مرةً واحدة لوصف النطفة في هذه الآية الكريمة، أضف إلى ذلك الإشارة القرآنية إلى التحول الذي طرأ على الإنسان؛ فنتيجة هذه النطفة الأمشاج أصبح سميعاً بصيراً.

ذُكرت كلمة نطفة في كتاب الله اثنتي عشرة مرة، منها إحدى عشرة مرة بدون إضافتها إلى كلمة أمشاج، وظهور كلمة أمشاج هنا مع النطفة في هذا المشهد المزدحم بالمعلومات عن فترة غياب الإنسان، ووصوله إلى مرحلة الانقراض؛ لا يمكن أن تمر هكذا مرور الكرام.

النطفة هي خليط من خلايا الذكر وخلايا الأنثى بالأساس ، فعندما يتم إضافة أمشاج إلى النطفة التي هي بالأساس خليط؛ فنحن أمام نطفة مركبة، ويبدو لي أنّ لفظ أمشاج هو إشارة إلى تداخل سلالتين لإنتاج الإنسان الجديد.

عندما نستكمل قراءة الآية الكريمة سنجد أنّ علة هذه الأمشاج هو جعل الإنسان سميعاً وبصيراً. وكما ذكرنا من قبل أنّ [الجعل] هو مسألة تحول جزئي؛ لذلك يبدو أنّ عملية الاندماج التي حدثت أعطت أفراداً أكثر تطوراً على مستوى السمع والبصر.

وتحسّن السمع والبصر هو بداية الطريق للإدراك والوعي، فمن خلال تطور وظيفة السمع، وكذلك وظيفة البصر تتحسن قدرة الإنسان على التقاط الأحداث حوله، ومن ثم معالجتها والتعامل معها.

لكي نستطيع فهم ماهية الأمشاج، ومن أين أتى الإنسان لابد من العودة إلى فهم الطور والآيات المتعلقة بالإنسان، وخاصةً الآيات التي تحدثت عن مسخ الإنسان إلى قردة وخنازير.

القردة والخنازير وعلاقتهما بالأمشاج:

ها هي الآية الكريمة التي تتحدث عن علاقة الطور بما حدث لمجموعة من العصاة من بني إسرائيل، وكيف تحول هؤلاء العصاة إلى قردة وخنازير:

)وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)( (سورة البقرة: الآيات 63-65).

لنستعرض بعض الأقوال حول هذه الآية الكريمة، ومن ثم نحاول فهم هذا التحول في ضوء المعلومات المتاحة لدينا، وفي ضوء النتائج التي توصلنا إليها:

✦ جاء في تفسير الطبري ما يلي:

«وقوله: )الذين اعتدوا منكم في السبت(، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.

عن مجاهد في قوله: )الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(. قال: لم يمسخوا، إنما هو مثلٌ ضربه الله لهم، مثلما ضرب مثل الحمار يحمل أسفاراً .

عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: )وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(. قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثلٌ ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفاراً. فكذلك معنى قوله: )كونوا قردة خاسئين( أي؛ مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين. عن مجاهد في قوله: )كونوا قردة خاسئين( قال: صاغرين.». انتهى الاقتباس من التفسير.

وحتى نفهم الآية الكريمة لابد أولاً أن نعي جيدًا أنّ كل أفعال الله -كما أخبرنا- بقدر؛ أي بقوانين وتعليمات إلهية؛ ليس هناك شيء اعتباطي كما يظن أصحاب الإيمان الوراثي، وإنما كل شيء خاضعٌ للتقديرات التي أخبرنا عنها الله في كتابه. 

سوف نقدم هنا الحجة والدليل على موضوع أعدُّه من أخطر المواضيع المثارة، ولا سبيل لردِّه إلا بالحجة والدليل والبرهان.

لكي نفهم الآية الكريمة التي تتحدث عن تحول العصاة من بني اسرائيل إلى قردة في هذه الآية، وإلى قردة وخنازير في آيةٍ أخرى؛ لابد أنْ نفهم فحوى الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وما تبعه من رفع الطور.

في ظل فهمنا للطور بأنه حالة تصف التطور بمفهومنا المعاصر؛ كان لابد أنْ نقف ونسأل: لماذا قردة وخنازير تحديداً؟ وما علاقة الطور بهذا التحول؟

 الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل هو رفع الطور، وكما بيّنا في الفصل الأول أنّ معنى رفع الطور هو زيادة تأثير التطور عن حالته الطبيعية، أو تسريع عملية التطور عن معدلها الطبيعي.

فلما عصى بنو إسرائيل تحولوا إلى قردة وخنازير، وهذا التحول لا يمكن أنْ يفسَّر إلا من خلال ما يُعرف بالتحول الجيني أو الارتداد الجيني. 

وما حدث ليس سحراً تنزَّه ربنا عن ذلك، وعلا علواً كبيراً، ولكنَّه بقَدَر قدّره الله، وذِكرُه في كتابه هكذا ليس ذكراً عابراً؛ بل دعوةٌ للتدبر وطرح الأسئلة.

لدينا كلمتان في الآية الكريمة تحتاجان لبيان مدلولهما؛ حتى تكتمل الصورة، ونستطيع إدراك االجزء المفقود منها، الكلمة الأولى: هي كلمة [جعل] والكلمة الثانية: [خاسئين]:

كلمة [جعل] كما وضحنا من قبل تعني تحولاً جزئياً؛ أي إنّ طارئاً طرأ عليهم فحوّلهم من صورة إلى صورة، ولا خلاف في مدلول كلمة [جعل] هنا.

أما كلمة [خاسئين] وأصلها خسأ،  فقد قال عنها المفسرون: إنها تعني انطرد ذليلًا صاغرًا حقيرًا.

جذر كلمة [خسأ] في قاموس اللغة له أصل: هو الإبعاد. أما الجذر الثنائي [خس] له أصلان: الأول: هو حقارة  ودناءة، والثاني: تداول الشيء.

ولو حاولنا فهم مدلول الكلمة من خلال كتاب الله سنجد أنّ لفظ خسأ ومشتقاته قد ورد في كتاب الله في أربعة مواضع:  اثنان منها خاصان بتحول عصاة  بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، واثنان  كالتالي:

الآية الأولى: )قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ( (المؤمنون: الآية 108).

بالرغم من أنّ المفسرين قالوا: إنّ اخسئوا في الآية تعني امكثوا، لكن تبعاً لجذر الكلمة وسياق الآية فإنهما يدلان على أنّ اخسئوا تعني عودو أو تراجعوا.

"الآية الثانية: في سورة الملك عن البصر "

)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ( (سورة الملك : الآية 4)

أيضا قال المفسرون عن )خاسئاً وهو حسير( أي راجعاً وهو ذليل منكسر.

لفظ [خسأ] يصف حالة من التقهقر أو التراجع؛ بمعنى الشيء الذي يصيبه الخسأ لابد أن يكون تقدم خطوات، حتى إذا خسأ عاد متقهقراً متراجعاً، وهذا التقهقر يحمل انكساراً وذلاً بالتأكيد، وهذه الكلمة تصف حالةً كاملةً تنطبق تماماً على بني إسرائيل؛ إذ كانوا بشراً عاديين وخسئوا؛ أي تقهقروا في المرتبة، وعادوا إلى مرتبة القردة والخنازير.

إنّ هذا التراجع ليس عبثياً أو فوضوياً؛ وإنما بقانون وسبب.

 والسبب الذى ذكره القرآن هو أنهم اعتدوا وعصوا؛ أي إنّ سلوكًا منحرفاً هو ما سبَّب تحولهم إلى قردة وخنازير.

لاحظ أنّ هذا السلوك المنحرف تم في وجود رفع الطور، والذي -كما قلنا- هو زيادة معدل التحولات الجينية عن معدلها الطبيعي، ولا شك أنَّ سلوك الإنسان المتعمّد والصادر عن وعي كامل هو جزء من المنظومة الكونية؛ يؤثر في محيطه، ويتأثر بما حوله. (راجع فصل فطرة الله التي فطر الناس عليها - الجزء الأول).

من الواضح أنّ السلوك المنحرف -وفي ظل زيادة تأثير الطور عن معدله الطبيعي- كان العامل الأساسيّ في الارتداد الجيني الذي أصاب بني إسرائيل، وتحولوا إلى قردة وخنازير .

)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ( (سورة المائدة : الآية60)

لكن، لماذا قردة وخنازير بالذات؟

كلمة [خسأ] -كما قلنا- توحي بالتراجع والعودة، ومما يبدو أنّ البشر مرحلة متقدمة من كائنات أقل رقياً، وبالتحديد القردة والخنازير، وكما قلنا تسمى هذه الحالة ارتداداً جينياً؛ حيث يعود الفرد إلى الوضع الجيني السابق لوضعه الحالي.

ولا نستبعد أنْ تكون إشارة القرآن الكريم إلى النطفة الأمشاج -أي الأخلاط- أن تكون قد شُطرت من قردة، والشطر الآخر من خنازير. 

نلاحظ أنَّ الآيات التي تحدثت عن هذا التحول هي ثلاث آيات، منها آيتان ذكرتا تحول العصاة من بني إسرائيل إلى قردة دون ذكر لفظ خنازير، والآية الثالثة ذكرت لفظ القردة مع لفظ الخنازير.

ملاحظة أخرى: وهي لفظ [القردة] مؤنث، ولفظ [الخنزير] مذكر؛ مما يدفعنا للقول إنّ نجاة الإنسان، أو بالأحرى نسل الإنسان تم عن طريق تزاوج خنزير مع  أنثى قرد، أو مع ثلاث إناث من القرود، ثم إنّ النسل الناتج كان البذرة الأساسية للإنسان الحالي، من خلال عمليات تزاوج بين هذا النسل بعضه ببعض.

هذا التزاوج بين القردة والخنازير، يبدو أنه أنتج نسلاً جديداً ذو قدرات سمعية وبصرية متطورة؛ للحد الذي جعله أكثر تطوراً ورقياً من الأفراد السابقة.

لو سألتني عن هذه التحليلات بصورة شخصية أستطيع القول؛ إنّ لديّ قناعة أنّ الإنسان الحالي قد تطور نتيجة لهذا التزاوج الغريب، والذي كان من حتمياته تطور قدراته، ودخوله مرحلة القدرات العقلية المتطورة، ولكن إنْ أردنا أنْ نتحدث بشكل علميّ فلا يمكن القطع أبداً بذلك، ولكنّ اللغة العلمية السليمة هي أنْ نتحدث بلغة الاحتمالات؛ حيث يمكننا القول إنّ احتمالية أن يكون الإنسان انحدر من تزاوج القردة والخنازير هي احتمالية قائمة وبشدة .

قد يكون ما ذهبتُ إليه خطأً في التحليل، وأنّ ما حدث هو  تشوُّهٌ واضطراب جيني سبّبَ تحولَ البشر إلى قردة وخنازير، ودون أن يكون أصل البشر قادماً من تزواج قردة وخنازير فعلاً، وفي هذه الحالة فإنّ العلم هو ما سيحدد أي من الفرضيات صحيح.

إنّ الأدلة اللغوية  التي  تشير إلى فرضية أنّ الإنسان جاء من هذا الأصل كثيرة وغزيرة، ولدينا كذلك إشارة في كتاب الله لابد أنْ تدرس جيداً، وهي إشارة قد تعزِّز فرضية أنّ جينات البشر الحاليين هي جينات مشتركة في الأصل الأول بين القردة والخنازير، وهذه الإشارة هي تحريم أكل الخنزير بنصٍ صريحٍ في كتاب الله.

يبدو أنّ مسألة تحريم أكل لحم الخنزير ليست كما يعتقد البعض حالياً؛ من أنّه حيوان نجس وقذر ومن الحيوانات التي غضب الله عليها؛ وإنما يبدو الأمر متعلقاً بالجينات، وما يمكن أن يسببه أكل هذا الحيوان الأقرب لنا في التركيب الجيني من تشوه واضطراب.

تحريم أكل الخنزير

لقد لاقى هذا الحيوان من البغض والكره ما لم يلاقِه حيوان مثله لدى (المسلمين)؛ بسبب تحريم أكله، وإن كان القرآن الكريم لم يتطرق إلا لتحريم أكل هذا الحيوان، ولم يصفه بأي صفاتٍ تجعل الناس تنفر منه كل هذا النفور.

 لقد ورد لفظ الخنزير في خمسة مواضع في كتاب الله كالأتي:

)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( (سورة النحل:الآية 115).

)قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( (سورة الأنعام: الآية 145).

)حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( (سورة المائدة: الآية 3).

)إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة البقرة: الآية 173).

)قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ( (سورة المائدة:الآية 60).

الخنزير بوصفه حيواناً ليس هناك ما يشينه أو ما يسبب كل هذا النفور تجاهه، ولكنّ النهي موجه إلى أكل لحم الخنزير على وجه التحديد.

من وجهة نظري أنّ تحريم أكل لحم الخنزير ربما يكون متعلقاً بالجينات، وما يمكن أنْ تسببه من اضطراب، أو ما يمكن أنْ يسببه هذا النوع من الطعام من تأثير سلبي على الجهاز العصبي أو المخ.

بالنسبة إلى المسلمين؛ يتجلى في آيات تحريم أكل لحم الخنزير نوعان من الإيمان: إيمان غيبي؛ وهو التصديق والطاعة وعدم أكل هذا اللحم، وإيمان عقلي؛ يبحث عن السر خلف هذا التحريم، وهو على يقين تام أنّ هناك سبباً ما، وباكتشافه يرتقي الإيمان الغيبي إلى درجة الإيمان العقلي.

لكن لماذا نصّ الكتاب على تحريم أكل لحم الخنزير بشكل مباشر وصريح دون باقي الحيوانات مثلا؟

الخنزير يعتبر من الحيوانات العشبية، واحتمال اختلاط الأمر على الناس احتمال وارد، لذا كان الأمر الصريح والمباشر بتحريم أكل هذا الحيوان؛ بسبب العلاقة الجينية بين هذا الحيوان وبين الإنسان .

يعتقد بعض الناس أنّ القرآن لم يفصّل المباح وغير المباح في الأكل، بخلاف لحم الخنزير؛  ولكنّ الحقيقة على غير ذلك، وسوف نلقي الضوء على هذه المعلومات من خلال الفصل القادم؛ الذي سوف يتناول الأنعام ووظيفتها، ومن أين جاءت، وعلاقتها بالتطور، في لفتة قرآنية لا يمكن تجاوزها.

التشابه بين الخنزير وبين الإنسان.

صدرت مؤخراً أوراق بحثية عن إمكانية استخدام أعضاء الخنزير كأعضاء بديلة للإنسان؛ لما لها من تشابه واضح بينها وبين أعضاء الإنسان، ونجاح زراعة أعضاء من الخنزير إلى الإنسان تعتمد  على جين معين؛ يساعد في تقبل جسم الإنسان لزراعة الأعضاء دون لفظها أو مهاجمتها من قبل جهاز المناعة.

الثدييات المعروفة لديها نسخة فعالة من هذا الجين، ووجود هذا الجين يجعل جهاز المناعة يقوم بمهاجمة العضو المزروع؛ مما يؤدي لفشل عملية الزراعة، ولفظ الجسم للعضو المزروع.

أما في حالة الخنزير؛ وجد العلماء حلاً لهذه المشكلة بالتعديل الجيني للخنازير؛ حتى تتشابه إلى حد كبير مع الإنسان. 

"يوغين مكارثي" باحث في جامعة "جورجيا" الأمريكية، ومن خلال مجموعة من الفرضيات ادعى أنّ الإنسان هو نتاج تزاوج بين ذكر خنزير وأنثى شمبانزي.

يقول الباحث بحسب صحيفة "ديلي ميل" البريطانية: إنّ التشابه المذهل بين الإنسان والخنزير شيء واقع ولا يمكن تجاوزه.

بالرغم من أنّ المجتمع العلمي تلقّى هذه المعلومات بكثير من الاستهجان والاستنكار أحياناً؛ بسبب ضعف الأدلة العلمية، إلا أننا من خلال تحليل اللفظ القرآني، ومن خلال المنهج المستخدم نؤيد ما ذهب إليه "مكارثي".

هناك إشارات علمية متفرقة على علاقةٍ ما بين الخنازير والإنسان، فكما جاء في موقع MNN المختص بالطبيعة وشؤونها،  بتاريخ 28 سبتمبر 2015م، تم نشر مقال علمي تحت عنوان: (تشترك الخنازير والبشر في تشابهات جينية أكثر مما كان يُعتقد سابقًا)، وجاء فيه: 

تشترك الخنازير مع الإنسان في عدد من الصفات الواضحة، وعلى سبيل المثال: البشرة الملساء، و الطبقة السميكة من الدهون أسفل الجلد، والعيون فاتحة اللون،  والأنوف البارزة، والرموش الثقيلة، كما تشير الدراسة إلى أنه  أمكن استخدام أنسجة جلد الخنزير وصمامات القلب كبدائل للإنسان؛ بسبب توافق هذه الأنسجة عند  الخنزير مع جسم الإنسان. 

وبحسب الموقع فقد ركّزت الدراسة على عناصر جينية تدعى SINEs (العناصر القصيرة المتخللة) . حيث تم اعتبار  Sines ، التي تشكل حوالي 11 بالمائة من الحمض النووي البشري DNAغير المرغوب فيه.

فبات الباحثون يعتقدون أنّ تحليل هذه العناصر يمكن أنْ يستخلص تلميحاتٍ مهمة حول تاريخ تطور الثدييات.

على الرغم من وجود الأبحاث المتقدمة والمعلومات الغزيرة عن التحليل الجيني؛ إلا أنّ العلماء غير قادرين على القطع بالعلاقة التطورية بين القرود والخنازير من جهة والإنسان من جهة، ولكن ما استطاع العلماء التكهن به هو أنّ ثمة علاقة قوية تربطنا بهذه الكائنات.

بعد هذه المعلومات، ومن خلال تحليل اللفظ القرآني؛ يمكننا أنْ نسجّل وقبل أن يثبت العلم ذلك، أنّ احتمالية انحدار الإنسان من تزاوج قردة وخنزير هو أمر وارد وغير مستبعد.

السؤال هنا: أين آدم من كل هذا؟

لا توجد آيةٌ واحدة في كتاب الله تتكلم عن الخلق الكامل لآدم، ولا توجد آيةٌ واحدة تتحدث عن خلق زوجة آدم (حواء) من أحد أضلاعه كما يدعي التراث، والمعلومات التي بحوزتنا هي معلومات تراثية بشرية بامتياز، تم تكييف ولَيُّ عنق الآيات القرآنية حتى توافق أو تبدو موافقة لأفكارنا عن خلق آدم وخلق حواء، والفكرة السائدة عن خلق آدم وحواء هي فكرة من تراث مِلَلٍ أخرى غالباً أو حتى بعض الأساطير.

دعونا قبل الحديث عن آدم نلقي نظرةً سريعةً على الآيات التي يستدل بها المتخصصون والعامة على حد سواء في  خلق زوج آدم (حواء) من آدم نفسه.

الآية الأولى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا( (سورةالنساء: الآية 1(

الآية الثانية: )هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا( (سورة الأعراف: الآية 189).

الآيات لا علاقة لها بخلق زوج آدم على الإطلاق، بل هي دلالة أخرى على التطور، وأنّ الخلق بدأ من خلية واحدة، والتي تكاثرت وتطورت بعد ذلك حتى الوصول إلى التحول من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي؛ كما بيّنا آنفاً.

على الرغم من أنّه لا توجد آية واحدة في كتاب الله تدل من قريب أو بعيد على خلق حواء من آدم؛ نجد في المقابل أنّ ذِكر زوج آدم جاء معه؛ وكأنها مصاحبة له في وضع طبيعي جداً.  وحتى نفهم من أين جاءت حواء؛ لابد أنْ نفهم من أين جاء آدم، وكما ذكرنا لا توجد آية واحدة تصف الخلق الكامل المنفصل لآدم.

الآية القرآنية الوحيدة التي ينطلق منها من يعارض التطور البشري هي الواردة في سورة  (ص): 

)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ( (سورة ص:الآية 75)

وبالرغم من غزارة الآيات التي تتكلم عن مراحل الخلق إلا أنّ هذه الآية وعلى الرغم من عدم إشارتها إلى الخلق الكامل المنفصل أشكلت على الناس؛ حتى صار من يُلمح مجرد تلميح إلى التطور يصبح كافراً منكراً للقرآن؛ حتى وإن كان يستدل بالقرآن. إنها عقول مسطحة تفكر في اتجاه واحد لم يخالطها التطور، فهي لا تملك القدرة على التفكير في أبعاد متعددة.  

لقد سبق هذه الآية الكريمة آيتان قد استفضنا في شرحهما وهما:

)إذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)( (سورة ص: الآيات 71-73).

لعل ما أشكل على الناس وجعلهم يظنون أنّ آدم خُلق خلقاً كاملاً، كتمثال ثم تم نفخ الروح فيه؛  هو قول الله سبحانه )لما خلقت بيدي(؛ والتصور التجسيدي لمفهوم  اليد هو ما أشكل على الناس، بينما مفهوم يد الله ومدلولها من خلال كتاب الله تعني القدرة المشمولة بالرعاية، و لدينا ثلاث  آيات كريمة في كتاب الله تعزز هذا القول:

)وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( (سورة آل عمران: الآية 73).

لم يقل أحد من المفسرين إنّ المقصود من هذه الاية يد الله بشكل تجسيدي؛ وإنما المقصود أنّ الله يحسن إلى عباده، وأنّ الفضل متعلق بالله. 

)وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (سورة المائدة: الآية 64).

فسر المفسرون أيضاً )يد الله مغلولة( -تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً- بقولهم: أي عطاؤه محبوس  وممسوك.

)إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا( (سورة الفتح: الآية 10).

فسّر المفسرون )يد الله فوق أيديهم( على قولين: القول الأول: قوة الله فوق قوتهم ، والقول الثاني: هو أنهم كانوا يبايعون الله وقت كانوا يبايعون رسوله.

من خلال كتاب الله نجد أنّ  مدلول كلمة [يد] يعني: أداة القوة القادرة على الفعل المتصلة بالفاعل؛ فعندما يقول ربنا إنّه خلقه بيده، فذلك يعنى: خلق آدم بأداة متصلة بالخالق، وهذا ما نسميه التداخلات الإلهية التي تحدثنا عنها، وسوف نتعرض لها فيما هو قادم.

كلمة [يد] هنا تحل كثيراً من الإشكاليات التي وقف عندها العلم عاجزاً، مثل قدرة البشر على تعلم اللغة، أو حتى بعض الطفرات غير المفسرة علمياً؛ هنا تأتي يد الله لتفعل.

وما بين من يقول بالصدف والتطور المادي العشوائي في تفسير نشأة الكون، ومن يقول بالخلق الكامل والمنفصل دون أي طور ودون تدرج؛ تأتي الآيات الكريمة لتخبرنا بالتدرج والتطور، أو ما يُعرف بالتصميم الذكي، وفى الوقت نفسه تشير إلى القوة الفاعلة  التي  ترعى وتتدخل وفق حسابات وتقديرات العزيز العليم. 

إذا كان الإنسان خُلق بشكلٍ متطور؛ فما موقف آدم، وما محله من الإعراب في هذه السلسلة التطورية المعقدة؟

آدم ليس والد البشر:

عندما نقول إنّ آدم ليس والدَ البشر فإننا نعني ذلك حرفياً؛ إذ إنّ لفظ [والد] يعني الفعل البيولوجي، وهذا ما نقصده بأنّ آدم ليس والداً بيولوجياً للبشر؛ وإنما يصحّ فيه القول بأنه الأب الروحي للبشر، وإن كان هذا لا ينفي أنّ لآدم نفسِه أولاداً وذرية، وسوف نتعرض لهذا خلال السطور القادمة.

سوف نتتبع ورود ذكر آدم في كتاب الله، ونرى كيف نقرأ هذه الآيات الكريمة في ظل المعطيات والمعارف الحديثة، وفي ظل ما توصلنا إليه من معلومات .

ورد ذكر آدم في 25 موضعاً في كتاب الله، ولو استطعنا تفسير آيتين فقط لفهمنا أين يقع آدم من هذه الكون العملاق.

الآية الأولى: وهي الآية التي تعرّضنا لها في أول الفصل، والمقارنة بين خلق آدم وخلق عيسى عليه السلام، ووجه الشبه بينهم في الخلق من تراب، وقد أسهبنا في وصف وشرح التراب وماذا يعنى.

لقد استنتجنا من هذه الآية أنّ خلق آدم عليه السلام كان خلقاً بيولوجيا كما كان خلق عيسى عليه السلام، ويبدو أنّ خلق آدم تم بطريقة غير الطريقة الطبيعية المعروفة، ولكن تم بشكل ما بصورة بيولوجية؛ فقد تكون عملية الإخصاب تمت تحت شروط معينة، كما حدث مع نبي الله عيسى؛ ليصبح آدم ملائماً تماماً للمهمة التي سوف يقوم بها؛ وهي تعلم  اللغة أو القدرة على التسمية، ونقلها إلى المعاصرين له.

لا يمكن الجزم بكيفية خلق  آدم بشكل تام إلا أن مدلول كلمة تراب وتشبيه خلق عيسى بخلق آدم يدفعنا للقول إنّ آدم جاء بطريقة بيولوجية وليس خلق منفصل.

الآية الثانية التي تستكمل المشهد: هي الآية التي يقول فيها ربنا أنه اصطفى آدم:

)إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ( (سورة آل عمران: الآية33).

✦ عندما تعرض المفسرون لهذه الآية الكريمة؛ لم تخرج عما دوّنه الطبري في كتابه:

»القول في تأويل قوله: )إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما؛ لدينهما، وآل إبراهيم وآل عمران؛ لدينهم الذي كانوا عليه؛ لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. وإنما عنى بـ "آل إبراهيم وآل عمران" المؤمنين.

عن ابن عباس قوله: )إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين(، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: )إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ( (سورة آل عمران:  الآية 68) وهم المؤمنون. عن قتادة قوله: )إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين(، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.

عن الحسن في قوله: )إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم( إلى قوله: )وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(، قال: فضّلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم.» انتهى الاقتباس من التفسير.

رغم محاولات المفسرين فهم وتأويل هذه الآية؛ إلا أنّ هناك معنىً غائباً، لم يتطرق له أحد منهم؛ وهو مفهوم الاصطفاء.

ما هو الاصطفاء؟

الاصطفاء: هو اختيار من بين مجموعة، وتفضيل على آخرين.

كذلك دلت الآية التي تخبرنا أنّ الله  اصطفى أحداً من خلقه على العالمين، فالنص القرآني يقول إنّ آدم تم اصطفاؤه على العالمين؛ أي اختياره وتفضيله من بين العالمين، وهذا الاصطفاء مشابه تماماً للاصطفاء الذي تمّ على نوح وإبراهيم وآل عمران؛ ولا يمكن أن يمرّ تعبير قرآنيٌ كهذا مرور الكرام ولا نلتفت إلى المقارنة والعامل المشترك بين جميع من ذكرهم ربنا في الآية الكريمة. 

وعن طريق ربط الآية الكريمة في هذا المشهد القرآني بالآيات الأخرى يتضح لنا أنّ مرحلة آدم هي الحلقة الأخيرة والأرقى بين المخلوقات، ويبدو من ترتيب الآيات السابقة أنّ مرحلة البشر جاءت بعد تطور الإنسان بشكل كبير، وهؤلاء البشر امتلكوا قدرات عقلية ومنطقية لم تكن موجودة من قبل؛ بسبب التطور الذى أدى إلى زيادة كفاءة السمع والبصر؛ فإن كان البشر لديه قدرات متطورة من الاستدلال والاستنتاج كما بيّنّا عند تحليل مفهوم البشر ومفهوم الإنسان، إلا أنّه ما زال هناك لبنة لم تكتمل بعد، على نحو يستطيع البشر معه إنشاء حضارة واستلام الدفة وتولي زمام الأمور؛ وهذه الحلقة المفقودة هي اللغة، أو الدلالات الصوتية المعبرة، أو القدرة على التعبير عن الأفكار.

لا شك أنّ هذا البشري أصبح بحاجة ماسة للتعبير عن أفكاره، ونقلها إلى أمثاله، والتفاهم حولها، فدون التعبير بطريقة صحيحة ومفهومة عن الأفكار لا يمكن أن يكون  هناك أيّ إنتاج لحضارة، أو بوادر لمجتمعات راقية؛ لأنّ طرق التواصل الصحيحة على نحوٍ يصبح مسمى الشيء دالاً عليه، هي الضامن الوحيد لتنظيم ودفع عجلة الحياة خطوة للأمام، وذلك يحدث عن طريق الاتفاق، وتجنب الاختلاف، ونقل الأفكار بشكل صحيح.

ومن هنا جاء دور آدم ليقوم بدور المعلم والأب الروحي للبشرية؛ ولكي يقوم آدم بهذه المهمة الجليلة تمّ إعداده عن طريق التدخل الإلهي المباشر، منذ لحظة تكوينه الأول في الرحم التي أنجبته، فيما يشبه خلق المسيح عيسى بن مريم؛ حتى يلائم الوظيفة التي سوف يقوم بها، وهي تعلم الدلالات الصوتية المعبرة ونقلها إلى البشرية فيما بعد.

جاء التعليم الإلهي والتدخل الرباني  ليمنح آدم علم الأسماء الذي ذكره ربنا في كتابه؛ وهو القدرة على التسمية،  والذي يعتبر نقلة نوعية في حياة البشرية، وهذا العلم الذي حاز عليه آدم، واستطاع من خلاله توظيف الدلالات الصوتية في التعبير، تعبيراً حقيقياً عن المسميات ووصفها بكل دقة؛ هو التحول الحقيقي ذو القيمة العظمى في تاريخ البشرية.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: إذا كان آدم حقاً هو أول من تعلّم الدلالات الصوتية، وليس كما نفهم هو الأب البيولوجي للبشرية، فماذا حدث لباقي البشر المعاصرين لآدم؟  ولماذا الخطاب  في كتاب الله دائماً ما يستخدم لفظ [بني آدم]؟

هناك فرضيتان يمكن أن تفسرا هذه الجزئية:

الفرضية الأولى:  قد يكون حدث انقراض لباقي البشر مع مرور الزمن؛ بسبب عدم قدرتهم على التكيف، وبقي آدم وذريته فقط، التي تناسلت وأنتجت الأجيال الحالية.

وهذه الفرضية ضعيفة جداً، ولا  أرجحها؛ بسبب دلالة الألفاظ في كتاب الله، والتي فرقت بين بني آدم وذرية آدم.

الفرضية الثانية: إنّ آدم هو معلم البشرية، وهو الذي اصطفاه الله لتعليم باقي البشر علم القدرة على التسمية، وكان أول من استخدم اللغة، واستطاع بالفعل تعليم البشر المعاصرين له الدلالة الصوتية المعبرة عن المسمى بشكل صحيح.

وأنا أميل لهذه الفرضية؛ أي استطاع آدم  تعليم معاصريه اللغة بالطريقة الصحيحة التي تلقاها من ربه، ومن ثم انتقل هذا العلم إلى ذريته ومعاصريه، وقد تكون هذه الطريقة في نقل علم اللغة هو ما  يفسر تشعب اللغات والألسنة، فبقدر استيعاب كل فرد للعلم الجديد وتفاعله معه، وبقدر تباعد المجتمعات واختلافها، سوف تبرز حاجات جديدة تحتاج للتعبير عنها، وقد تتفرع اللغة الأصلية إلى لغات فرعية تستمر في التمايز والاختلاف بمرور الزمن.

ليس لدي شك أنّ ذرية آدم وأقصد أولاده البيولوجيين كانوا أكثر حظاً في الاحتفاظ باللغة الأم، وإن كان حدث بعض التحريف؛ فهو لا شك أقل من التحريف والزيغ في المجتمعات والأفراد الأكثر بعداً عن آدم، أوغير ملتصقين به مثل التصاق أولاده به ومعايشتهم له.

على ذلك أرجح بشدة أنّ انتشار اللغة واختلاف الألسن يرجع بالأساس إلى طريقة انتقال اللغة من آدم إلى محيطه.

كما أنّ فهم الفرق بين التعبيرين القرآنيين، [أبناء آدم وذرية آدم] سوف يلقي الضوء على كثير من الجوانب الغامضة، وسوف يعزز فرضيات التطور وخلق آدم بشكل تطوري.

بالقدر الذي يمكن لفهم الفرق بين [الذرية والأبناء] أن يمدّنا بصورة واضحة عن سبب اختلاف اللغات عن بعضها البعض، يمكن أنْ يؤيد هذا الفرق الفرضية التي تقول إنّ آدم ليس أول البشر؛ بل هو معلم البشر، وليس هو الأب البيولوجي للبشرية؛ إنما الأب الروحي لها.

أبناء آدم  وذرية آدم:

التعبيرات القرآنية دقيقة بالقدر الذي يجعلنا نتساءل: لماذا استخدام القرآن لفظ [أبناء أو بنى آدم]، ولم يستخدم لفظ [أولاد] على سبيل المثال، بالرغم من أنّ لفظ [أولاد] هو لفظ قرآني بامتياز؟.

إنّ مدلول لفظ [أولاد] هو لفظ بيولوجي يعبر عن النسل؛ أي التوالد البيولوجي، بينما لفظ [أبناء] أكثر شمولية؛ فهو يعبر عن كل ما يقع تحت الرعاية أو الوصاية.

حتى إنّ اليهود عندما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه؛ كانوا يقصدون أنهم المقربين من الله وأصحاب الحظوة، ولا يقصدون أنهم أولاد الله البيولوجيين حرفياً.

)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( (سورة المائدة : الآية 18).

لم يصف ربنا قول اليهود بالقول العظيم والبهتان الكبير؛ إذ لا يشكل إساءة للخالق بقدر ما يشكل غرورهم واحتكارهم الهدى، وكبرهم بجعل رحمة الله مقتصرة على بعض البشر. ومدلول [أبناء] يشير إلى أولئك الذين يقعون تحت رعاية وحماية وكنف الأب، ولا يشترط  أبداً أن يكون الأب أباً حقيقياً أو أباً بيولوجياً.

وعلى الجانب الأخر نجد القول بأنّ الله له ولد هو قول عظيم؛ لأنه قول يصف فعلاً بيولوجياً،  يضع الخالق ضمن قوانين المخلوق، وهذا منطقياً لا يمكن؛ فمجرد خضوع الخالق لقوانين المخلوق تنتفي عنه صفة الخالق، ويصبح أسيراً لهذه القوانين، ولا يمكنه الخروج من دائرتها مرة أخرى.

إنّ لفظ [بني آدم] هو اللفظ المعتمد قرآنياً في التعبير عن البشرية أو مخاطبة البشر؛ كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية عديدة .

)يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (سورةالأعراف: الآية 26)

)ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( (سورة يس: الآية 60)

)يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ( (سورة الأعراف: الآية 27)

)يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ( (سورة الأعراف: الآية 35)

)وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً( (سورة الأسراء: الآية 70)

لا يمكننا الجزم بأنّ التعبير القرآني [بنو آدم] يصف البشرية بشكل شامل، إلا إذا كان هناك تعبير آخر أكثر تخصيصاً؛ ويصف حالة مغايرة.

[ذرية آدم] هو ما نقصد حين يصف هذا التعبير نسل آدم نفسه حصراً؛كما دلّ على ذلك مدلول لفظ [ذرية] في كتاب الله.

وجميع الآيات الكريمة التي ورد فيها لفظ ذرية تعبر عن النسل البيولوجي بشكل دقيق ومحدد:

)ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (سورة آل عمران: الآية 34).

)هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء( (سورة آل عمران: الآية 38).

)وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا( (سورة النساء : الآية 9).

التعبير القرآني [ذرية آدم] جاء معبراً عن فئة معينة من البشر، وهم الأنبياء رغم غزارة استخدام لفظ [أبناء آدم] المعبر عن جميع البشر .

)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (سورة مريم: الآية 58).

إنّ استخدام القرآن وصفين مغايرين للتعبير عن البشر -إذ لفظ [الأبناء] هو اللفظ العام، والذي يشمل الذرية وغير الذرية، ولفظ [الذرية] الذي يصف النسل البيولوجي- يضيف لنا دليلاً جديداً على أنّ آدم ليس الأب البيولوجي لجميع البشر، وإنما هو الأب الروحي أو المعلم الذي اصطفاه الله لتعليم معاصريه، وقيادة البشرية للتعبير عن المسميات بتلك النفخة الروحية التي حباه الله  بها.

الآية التالية تقيم الحجة والبرهان على أنّ لفظ [أبناء] يقصد كل البشرية بغض النظر عن انتمائهم البيولوجي لآدم، بينما لفظ [ذرية] مخصص للنسل البيولوجي.

)وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ( (سورة الأعراف: الآية 172).

لو أن كل البشر هم من نسل آدم لصح أن يكون التعبير القرآني (وإذ أخذ ربك من آدم من ظهره ذريته)، لكنْ لأن آدم ليس هو أبا البشر البيولوجي، وهو فقط بمنزلة الأب المعلم والمرشد فقد جاء التعبير القرآني الدقيق بالقول: إنّ الله أخذ من ظهور بني آدم ذريتهم.

فالقرآن يلفت انتباهنا إلى أنّ البشر الحاليين هم من نسل ذرية أبناء آدم، وليس من نسل آدم نفسه، وأبناء آدم هم ذريته والمعاصرون له، الذين دخلوا تحت عباءته.

إنّ مجرد فهم الفرق بين ذرية آدم و ذرية أبناء آدم كفيل بأن يمنحنا دليلاً إضافياً على أن آدم ليس هو والد البشر البيولوجي؛ وإنما هو بمثابة الأب الروحي للبشرية. 

إشارة أخرى في سورة الأنعام خاصة بلفظ ذرية؛ حيث توجد إشارة واضحة إلى فترة انقراض واندثار وتحولٍ ما  قد حدث.

)وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ( (سورة الأنعام: الآية 133).

هذا الانقراض تعرضنا له عند تفسير بداية سورة الإنسان، عندما أخبر ربنا عن الدهر الذي جاء على الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً، ولفظ [ذرية قوم آخرين] يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ النسل الحالي للبشر ليس مصدره آدم فقط. 

هذا دليل تلو الدليل، ومشاهد قرآنية عظيمة تدعم بعضها بعضاً؛ تعطينا صورة تفصيلية عن تاريخ الحياة وخلق الإنسان، ولا أزعم أبداً أنني أحطت بمسألة التطور من كافة جوانبها، فالمسألة أعمق وأعقد بكثير مما نظن.

وحسبي أني أشرت للفكرة، وقدمت بعض الأدلة؛ على أمل أنْ يأتي يوم نرى فيه مؤسسة بحثية  تستخدم منهجاً علمياً في فهم اللفظ القرآني، وتنتبه إلى أهمية تطبيق النظرية التوقيفية في فهم الألفاظ القرآنية، دون تحيز معرفي قد يفسد النتائج.

كتاب الله هو كتاب نظرية كل شيء، والذي ينبغي أن نتعامل معه بما يستحق من البحث العميق، والتدبر، والقراءة المستمرة؛ فهو الكتاب الذي لن تنقضي عجائبه، ولن تنفضّ أسراره، وسيظل يفيض بالمعرفة والعلم لكل مدّكر.

السؤال الأخير الذي نود طرحه هو:  إذا كان التطور عملية مستمرة؛ فهل معنى ذلك أنّ الإنسان ربما يتطور إلى شيء أخر؟

لا شك أنّ التطور عملية مستمرة، والإنسان يجري عليه قوانين الكون كما تجري على جميع المخلوقات، ولكنّ مسألة أنْ يتحول الإنسان الحالي إلى كائن آخر، وإن كانت فرضية قائمة؛ إلا أنها تحتاج لمدى زمني طويل جداً، قد يصل لملايين السنين.

نستطيع أن نلاحظ التطور المعرفي على الإنسان من خلال متابعة وقراءة التاريخ، ونستطيع أن ندرك أنّ الإنسان في تحسن مستمر، وأنّ الأفراد التي تقف عند الماضي ولا ترغب في مغادرته سوف تندثر لا محالة.

إنها السنن الكونية التي تدعم الأفراد المحسنة، وتستبعد الأفراد غير القادرة على التكيف والتأقلم والتطور، والتاريخ الحديث زاخر بالقصص عن انقراض القبائل البدائية المنعزلة والرافضة للتطور والتحسن معرفياً.

قد يستغرق انقراض المجتمعات البدائية وهلاك الأمم الرافضة للتطور بعض الوقت، ولكن بالنهاية لا وجود لمن لا يستطيع تحسين أدائه توافقا مع السنن الكونية.

ملخص الفصل:

نستطيع الآن  أن نلخّص ما وصلنا إليه في مسألة خلق الإنسان، كما قرأناها من خلال كتاب الله، والتي تتوافق إلى حد كبير مع نظريات علمية عن تطور الإنسان، ونلخّصها  كالآتي:

1. الخلق بدأ من الطين، ومرّ بعدة مراحل تطورية على المستوى المادي قبل وجود الحياة؛ هذه المراحل منها  الطين اللازب، و الصلصال، والحمأ المسنون.

2. حدثت تحولات جذرية في هذا الخلق، منها: تحول التكاثر من اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي.

3. تطورت المخلوقات خلال مدى زمني طويل، حتى وصلت إلى ما يُعرف بالإنسان الأول أعلى رتبة الإنسانيات.

4. حدث ما يشبه الانقراض لهذا المخلوق، الذي هو أصل الإنسان، ولكن بعد فترة وتدخل إلهي عاد مرة أخرى لمساره الطبيعي في الحياة.

5. عودة هذا المخلوق تبدو أنها كانت عن طريق نطفة من أخلاط، والتي أُرجِّح أنها جاءت من خلال تزاوج قردة مع خنزير. 

6. هذا التزاوج يبدو أنه أضاف ميزات جديدة للمخلوق الجديد، على مستوى السمع والبصر والأفئدة؛ بحيث أصبحت حواسه أكثر كفاءة، مما ساهم بشكل كبير في تطور القدرات العقلية لهذا الكائن الجديد.

7. يختلف الإنسان عن البشر، حيث تميّز البشر بقدرات عقلية متطورة أهّلته لكي يستنتج ويستنبط بقدر ما. 

8. ميلاد آدم تمّ بطريقة بيولوجية، ولكنّ فيها سراً عظيماً، كما حدث مع نبي الله عيسى، كما أنّ آدم ليس والد البشر البيولوجي وإنما لو جاز لنا التعبير هو الأب الروحي للبشرية.

9. آدم هو أحد البشر، وليس والد البشر، واصطفاه الله لكي ينقل القدرة على التسمية، ووصف المسميات، إلى جميع البشرية، والتي تشمل ذرّيته ومعاصريه.

10. يبدو لي أنّ اختلاف اللغة يعود إلى اختلاف استيعاب ذرية آدم ومعاصريه للعلم الجديد الذي جاء به آدم.

بعد الانتهاء من فصل الإنسان، لدينا تساؤل من خلال كتاب الله،  قد يحلّ بعض الإشكاليات في نظرية التطور، وقد يفسّر بعض الغموض في جوانبها:

هل جميع المخلوقات حدث لها تطور، أم أنّ هناك نوعاً من المخلوقات يبدو أنه لا يخضع لهذه القاعدة؟

سوف نجيب على هذا السؤال من خلال الفصل القادم، والذي يتناول الحديث عن الأنعام وكيف جاءت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة