الفصل الخامس عشر
"الفلق"
لا
شك أنَّ الشر قائم ولا يمكن إنكار وجود, وقد تسببت مشكلة الشر منذ القدم في
تساؤلات عدة عن وجود الله, ومعضلة أبيقور عند فلاسفة الإغريق قدمت تساؤلاً يعتبر
هو التساؤل المحوري في قضية الشر, والاستدلال على وجود الله. فإذا كان الإله هو
العادل والمثال الأعلى للخير، فلماذا يوجد الشر؟
- خلال مناظرة عن وجود الإله بين ويليام لين كريج و ستيفين لاو الفيلسوف البريطاني
كانت جل المناقشة تدور حول مشكلة الشر، وكيف أن وجود الشر ينفي وجود الإله.
لو كان المقصود أن الطفلة ليس له ذنب ووقع عليها شر؛ فنقول: نعم، وكل الكون
بمكوناته عندما تعبث يد الإنسان به هو في الحقيقة غير مذنب، والمذنب ومصدر الشر هو
ذلك الشخص العابث غير المسؤول.
تم عرض مشهد لأطفال دون سن السنة يحتوي
على عرائس على هيئة أشكال هندسية بألوان
مختلفة، والمشهد عبارة عن سلوكيات خيرية وسلوكيات شريرة بشكل واضح، إذ قامت عروسة
على شكل دائرة حمراء بمحاولة الصعود إلى أعلى، فقام مربع لونه أزرق يمثل دور
العروسة الشريرة بمحاولة تعطيل الدائرة الحمراء وإعاقة تقدمها بدفعها إلى أسفل، في
الوقت نفسه كان هناك العروسة التي على هيئة مثلث باللون الأصفر تحاول مساعدة
الدائرة الحمراء بدفعها إلى أعلى.، وفي نهاية التجربة طُلب من الأطفال اختيار
عروسة من بين المربع الازرق الشرير والمثلث الأصفر الطيب، فجاءت جميع اختيارات
الأطفال على المثلث الأصفر الطيب الذي كان يحاول المساعدة، والذي أظهر سلوكاً
حميداً.
الآية الثانية تتحدث مباشرة عن خلق الشر أو وجوده، ولفظ [غاسق وحاسد] جاء في صيغة
فاعل، وعند ترتيب وتحليل الكلمات كما جاءت في كتاب الله، بدت الآيات وكأنها تدور حول موضوع واحد، وهذا
هو عهدنا بالسور القصيرة. فما هو الفلق؟
وما هو الغاسق؟ وما هي النفاثات؟
ومن هو الحاسد؟
ثم اختلف أهل التأويل في المظلم الذي عُنِي في هذه الآية، وأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالاستعاذة منه، فقال بعضهم: هو الليل إذا أظلم. عن ابن عباس: )وَمِنْ شَرِّ
غَاسِقٍ إِذَا وَقَب) قال: الليل.
عن الحسن، في قوله: )وَمِنْ شَرِّ
غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ( قال: أوّل
الليل إذا أظلم .عن الحسن )وَمِنْ شَرِّ
غَاسِقٍ إِذَا وَقَب( قال:
إذا جاء .عن ابن عباس، قوله )إِذَا وَقَبَ( قول:
إذا أقبل. وقال بعضهم: هو النهار إذا دخل في الليل.
يمكننا موافقة بعض المفسرين على أنَّ
الغاسق الذي أمر ربنا بالاستعاذة منه هو المراكز المظلمة، ولكن ليست في الكون مثل
الليل أو الكواكب؛ وإنما داخل النفس البشرية، وهذه المراكز المظلمة إذا تداخلت مع
السلوك غير السوي الناتج عن الاحتياج سوف
تزيد من حدته، وتُقوِّي شوكته، ويكتسب السلوك المنحرف ثقلاً؛ بسبب هذا الغاسق الذي
ارتبط به، فمن أين تأتي هذه المراكز المظلمة في النفس البشرية ؟
تم إجراء الاختبار في غرفتين من غرف الجامعة، وكان الإعلان ينص على أن
الاختبار سوف يستغرق ساعة واحدة، تنوع المشاركون بين الرجال والنساء وتراوحت أعمارهم بين 20-50
عاماً، من مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات الثقافية، بحيث تنوع المشاركون بين
حاصلين على درجة الدكتوراة، وبين من لم يكمل دراسته الثانوية.
لا انكر أنَّ مسألة الشر بدت لي قضية بسيطة؛ بسبب بساطة عرضها في كتاب الله؛ إلا أنه مع محاولة سبر أغوار هذه القضية، ومن خلال دراسة أقوال المتخصصين والفلاسفة، وجدنا أن القضية متشعبة بشكل لا مثيل له، وأنها تحتاج لمجهود جبار، ودراسة متأنية لكشف جوانبها. وسوف نحاول قدر الإمكان الاختصار وعدم الاستطراد، مع التركيز على الأفكار الرئيسة، وشرح الفكرة القرآنية من خلال تحليل الألفاظ، أما التعمق الفلسفي في هذه القضية الخطيرة فهو ليس من أولوياتنا هنا.
قضية
الشر من القضايا التي شغلت بال الفلاسفة قديمًا وحديثًا، وأصبحت بلا منازع
المُّتكأ الذي يتكئ عليه الإلحاد في نفي وجود الخالق الرحيم، ولك أنْ تتخيل عدد
المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي تناولت مشكلة الشر منذ 1960 وحتى 1990 والتي
تعدَّت ما مجموعه 4000 مؤلَّف.
خلال
استبيان في الولايات المتحدة الأمريكية، وحسب الكاتب لي ستروبل في كتابه
قضية الإيمان، تم طرح سؤال على الأشخاص المشاركين في الاستبيان وكان نصه: ( لو قدر
لك أن تسأل الله سؤالًا واحداً تعلم أنه سيجيبك عليه ماذا سيكون هذا السؤال؟)
جاءت
إجابات 17% من المشاركين ( لماذا هناك ألم ومعاناة في هذا العالم؟) لقد كانت نسبة
هذا السؤال هي النسبة الأعلى بين كل الأسئلة المطروحة، مما يبيِّن استحواذ مشكلة
الشر على عقول الكثيرين.
لن
نكون مبالغين إذا قلنا إنَّ الحجة الأعظم على الإطلاق لنفي وجود إله هي مشكلة
الشر.
الفيلسوف
الأمريكى مايكل تولي يقول وبكل صراحة إن حجر الأساس للإلحاد هي مشكلة وجود
الشر، وكذلك الفيلسوف مايكل روس المدافع عن نظرية التطور يقول في إحدى
مناظراته: إنه لا يرفض الإيمان بوجود الله إلا بسبب وجود مشكلة الشر.
هناك
اتجاهان رئيسان في فهم معضلة الشر، وهما: الاتجاه الوجودي الذي يعتقد أن
وجود الشر في العالم من متطلبات الوجود، وهو قانون طبيعي في الموجودات.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الديني، وهو
الذي يعتقد أنَّ الشر هو مشيئة الله، وهو ابتلاء من الله؛ أي اختبار من الله للبشر.
لا
شك أنَّ الشر قائم ولا يمكن إنكار وجود، وقد تسببت مشكلة الشر منذ القدم في
تساؤلات عدة عن وجود الله، ومعضلة أبيقور عند فلاسفة الإغريق قدمت تساؤلاً
يعتبر هو التساؤل المحوري في قضية الشر، والاستدلال على وجود الله. فإذا كان الإله
هو العادل والمثال الأعلى للخير، فلماذا يوجد الشر؟
للإجابة
على هذا السؤال قدم الفلاسفة أربع اقتراحات:
0. يريد
الإله منع الشرور، ولكنه لا يقدر؛ فهذا عجز في حقه.
1. يستطيع الإله منعَ الشر،
ولكنه لا يريد؛ إذن هو إله شرير بل أصل الشرور.
2. يستطيع
الإله منع الشرور، ويريد منعها، وهنا يأتي دور السؤال: من أين تأتي هذه
الشرور ولماذا لا يمنعها الإله؟
3. لا
يستطيع الإله منع الشرور، ولا يريد ذلك؛ وهنا يجتمع في الإله العجز والشر، وهذا معناه أنه ليس إلهاً.
ما
تزال هذه الأسئلة محور اهتمام المتدينين والملحدين على السواء، وفي حين يتكئ
الإلحاد على هذه الأسئلة في نفي وجود الله، نجد أن المتدينين لديهم تفسيراتهم التي
يعتقدون أنها كافية لإقناع من يريد الاقتناع بوجود الله.
حاول
الفلاسفة الإجابة على قضية خلق الشر، وتراوحت هذه الإجابات بين ما هو منطقي ومقبول،
وبين ما هو ساذج وسطحي، ويمكن سرد تلك الآراء من خلال ست نقاط:
الرأي الأول: الشر وهم لا وجود له:، وهذا الطرح ينافي أبسط قواعد العقل؛ فلا يمكن لعاقل اليوم نفي وجود
الشر وإنكار آثاره الملموسة.
الرأي
الثاني:
الشر عدمي؛ أي: غياب الخير، أو انعدام وجود الخير، وهذا الطرح ما هو إلا تبديل
للألفاظ ولم يعط حلاً لمشكلة وجود الشر.
الرأي
الثالث:
الشر ما هو إلا نتيجة لوضع الخير في غير
موضعه.
الرأي
الرابع:
حرية الإرادة تستدعي وجود الشر؛ لأن وجود الخير وحده بدون الشر هو نقص في حرية
الإرادة.
الرأي
الخامس:
الشر ينفع الإنسان ويصلح حياته.
الرأي
السادس:
الشر هو تمام الخير؛ إذ لا معنى للخير إلا بوجود المقابل له؛ فالكرم يَظهر بوجود
والبخل، والشجاعة تظهر بوجود الجبن وهكذا.
قضية
الشر مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوجود الله وبقدرة الله؛ لذا يبرز سؤال لدى المشككين:
إذا كان الله قادراً فلماذا لم يخلق كوناً منغمساً في الخير، مخلَّصاً من الشر؟
وبما أنَّ الكون يعجُّ بالشر فهذا يعني عدم وجود الخالق الحكيم .
قضية
وجود الله من القضايا التي لن ينتهي فيها القول والرد، ومهما أوتيت من قوة البرهان
والحجة فلن يقتنع أصحاب الإلحاد بوجود الله، وكذلك لن يقتنع المؤمنون بأزلية الكون
وعدم وجود إله.
السبب
من وجهة نظري أن فلاسفة الإلحاد يريدون دليلاً عقلياً على وجود الله؛ أي: دليلاً
ملموساً، والمؤمنون ينطلقون من إيمانهم الغيبي بوجود الله؛ لذا لن يلتقيا أبداً.
كل الأدلة التي ساقها المؤمنون بداية من المثال
البسيط، ونظرية السير يدل على المسير، واستدلالات العصور الوسطى على وجود الله، من
خلال الاستدلال على عدم رؤية العقل ولكن إدراك آثاره، لم تجدِ نفعاً لدى فلاسفة
الإلحاد، وتم تفنيدها والرد عليها بشكل منطقي. وكذلك الانطلاق من أن الكون منظم، والثمار
متنوعة، والاختلافات قائمة بين المخلوقات، كل هذه الدلائل وإن كانت دلائل عجيبة
وعظيمة إلا أن الإلحاد لا يرى فيها سبباً كافياً لوجود خالق، وخصوصاً مع تعارض نصوص
دينية -تفسيرات- مع حقائق علمية واضحة.
يكفي
أن تقرأ كتاباً في قضية الشر لأحد الفلاسفة الكبار، وأن تدرك أن المسألة معقدة
لأقصى درجة، وليست بالسهولة التي يتصورها بعضهم ، أو يتناقها رجال الدين بينهم
أبداً.
لو
حاولنا إيجاد دليل عقلي على وجود الله سوف نظل نبحث كثيراً، فكل الأدلة التي
يسوقها رجال الدين هي في الحقيقة دليل
قائم على الإيمان بالغيب، والشعورُ النفسيُّ ليس دليلاً ملموساً كما يريده فلاسفة
الإلحاد.
هل
معنى ذلك أنه لا يوجد دليل عقلي على وجود الله ؟
الدليل
الوحيد العقلي على وجود الله هي الرسالة التي أرسلها الله، وأعلن فيها عن نفسه
لعباده، وهي القرآن الكريم.
إنني هنا أعني ما أقول تماماً؛ القرآن لفظاً ومعنىً، ولم أستخدم لفظاً آخر
مثل: الكتاب أو الذكر، وإنما القرآن تحديداً.
القرآن
الذي يتطلب قراءة مستمرة وبحثاً متواصلاً، كما ذكرنا في الجزء الثاني من سلسلة
كتاب تلك الأسباب؛ فالقرآن تحديداً يخاطب العقل، وآياته تتطلب التحليل والمنطق، ولذلك
عبَّر ربنا سبحانه وتعالى عن آياته اللفظية مرة بتعبير القرآن، ومرة بتعبير الكتاب
أو الذكر. كل تعبير من هذه التعبيرات يشير إلى صفات وخصائص معينة، وليست مترادفة، وربما
نحتاج لكتاب منفرد لبيانها وتوضيح المقصود منها.
سوف نكتفي هنا بالقول إنَّ القرآن هو الآيات
التي تطلب من الإنسان قراءتها، والتوقف عندها بالتحليل والتدبر، وهذه الآيات سوف
تمنح كل باحث صادق الدليل العقلي على وجود الله؛ بشرط البحث بشكل مستقل دون تحيز
معرفي، واللفظ القرآني يحتاج منهجاً علمياً محدداً وواضحاً لفهمه؛ حتى يثمر أدلة
عقلية حقيقية؛ فمن دون منهج علمي؛ فإنَّ كلَّاً من فلاسفة الإلحاد والمؤمنين
بالإله سوف يدورون خلف بعضهم بعضاً في دائرة الفلسفة والإيمان، دون أي نتيجة
حقيقية.
سوف نترك مسألة وجود الله، والأدلة الدالة على
وجوده، ونتعرف على معضلة الشر دون الخوض في جدالات دائرية لن نخرج منها أبداً،
وسنتجه مباشرة إلى نظرية الشر وبعض دلائلها، من خلال التجارب العلمية، وبعض الآراء الفلسفية المختصرة، ومن ثم الدخول
إلى نظرية الشر كما أوردها القرآن في سورة
الفلق.
بعض
الظواهر التي عدَّها العلماء شراً هي في الحقيقة ليست كذلك، كما يقول آخرون، فلو
دققت النظر ستجد أنها من حتميات الوجود، وأنها من لوازم قانون الحياة، ودون هذه
الظواهر سيحدث خلل في البنية التركيبيَّة للنسيج الكوني. المثال الواضح على هذا
النوع من الشر هو وجود الألم، ووجود الرعب.
لماذا
يوجد الألم؟ ولماذا هناك رعب؟ فهذان الشعوران يمثلان حالة حقيقية يشعر بها الإنسان
والحيوان، والشعور بالرعب –قطعاً- هو نتيجة لخبرة أو توقعِ شيء مؤلم، وهو في
الحقيقة يعتبر إنذاراً مبكراً للكائن الحي؛ حتى يستطيع أخذ الاحتياطات الممكنة لتفادي
ما هو قادم.
يمكن
أن يمثل وجود الشر بأنواعه معضلة عصية على الفهم إذا كان الخلق تمَّ على دفعة
واحدة، ولكن إذا كان الخلق -كما وضحنا في هذا الكتاب- قد تم عن طريق التطور
والانتقاء؛ فإن مشكلة الشر تبدو سهلة الفهم؛ إذ إنَّ وجود الشر هو من دواعي عملية
التطور في هذا الكون، والإحساس بالألم أو بالرعب من ضمن منظومة وتقديرات الحياة، ولا
يمكن أبداً عدها أو وضعها في خانة الشر، والمثال الواضح على ذلك التجربة التي قام بها
الدكتور بول براند مختص مرض الجذام؛ محاولاً تقليد ومحاكاة الألم عند
المرضى.
يحتوي
الإصبع الواحد في اليد على 1000 منبه عصبي تقريباً، ويستطيع من خلالها هذا الإصبع
الإحساس، ومن ثم إرسال الإشارات إلى المخ، واستقبال الأوامر للتعامل مع المؤثرات
الخارجية، لقد حاول العلماء اختراع قفاز يساعد فاقدي الإحساس، والذين لديهم مشاكل
في الأنامل، كي يستطيعوا الاستجابة بشكل جيد لتفادي تلف الأنامل، وعندما صمم
العلماء قفازاً بحيث يحاكي اليد الطبيعية، لم تزد عدد المنبهات العصبية عن عشرين
في القفاز الواحد.
مريض
الجذام في العادة يفقد الإحساس بأطرافه، مما يعرضه لتلف هذه الأعضاء؛ بسبب عدم
وجود منبِّهٍ ينبهه إلى ضرورة التعامل مع المؤثر الخارجي، مما دعا الدكتور بول
براند المختص بمرض الجذام إلى تكوين فريق علمي من باحثين متخصصين في الهندسة
الالكترونية والبيولوجيا والكيمياء الحيوية؛ بغية اختراع شيء ما يمكِّن أطراف
الأصابع من الإحساس بالألم، ونقله للمخ؛ ليتمكن مريض الجذام من حماية الأطراف حال
تعرضها لمؤثر خارجي.
ومع
تطور المشروع بدأت أمور أكثر تعقيدًا وعلاقات أكثر تشابكاً في الظهور، وكانت
المعضلات أكثر مما كان يعتقد فريق العمل، وظهرت معضلة وهي: كيف يمكن للطرف الصناعي
التمييز بين المؤثر المقبول الذي لا يسبب ضرراً، والمؤثر غير المقبول والذي يمكن
أن يسبب ضرراً، وبناء عليه تصدر إشارة التنبيه.
اكتشف
الفريق البحثي أن الخلايا العصبية لا تتعامل بنفس القدر مع الألم، ولكن تتعامل
بحسب نوع الألم، لكي تتلاءم مع حاجات الجسم؛ فمثلاً الطرف المصاب يشعر بالألم
أضعاف شعور الطرف السليم؛ وذلك حتى يستطيع الجسم حماية الجزء المصاب بشكل أفضل، وتوفير
نظام حماية ذي كفاءة عالية لهذا الطرف.
عندما
قام فريق الدكتور براند بعمله، وصمم جهازاً للحماية، حاول دكتور براند
استبدال شعور الألم الذي يحمي الأطراف ببديل آخر أكثر سلاماً، ولا يسبب ألماً
للإنسان، ونظام الحماية الذي صممه براند، والذي لا يسبب ألماً كان عبارة عن موجات
صوتية؛ بحيث يرسل الجهاز موجات سمعية للمصاب، تحذره من الخطر المحدق، مثل: حرارة، أو
وخز، أو أي شيء يمكن أن يسبب ضرراً للطرف، والموجات الصوتية كانت ترتفع حدتها مع
ارتفاع التهديد الذي يصيب الجزء المصاب؛ حتى توفر إنذاراً معقولاً للمصاب.
للأسف؛ حدث تجاهل للإشارة من قبل المصابين مرات
عدة ؛ مما سبب أضراراً للأطراف المصابة، فتجاهل الموجات الصوتية من قبل المرضى جعل
فريق الدكتور براند يلجأ إلى تصميم
ومضات ضوئية بديلاً عن الموجات الصوتية؛ حتى تكون مرئية للمصاب، وتستطيع إنذاره
بشكل أفضل، وما لبث أن تجاهل المرضى هذه الومضات الضوئية أيضاً كسابقتها.
بعد
تجاهل المرضي للتحذيرات السمعية والبصرية
اضطر الفريق إلى استخدام الصدمات الكهربية؛ فقد استنتج الفريق أنَّ المنبه لابد أن
يكون مزعجاً حتى يستطيع أن يقوم بوظيفته بشكل كامل.
وفي
سياق متصل يقول دكتور براند إنَّ الإشارة التي تعمل كإنذار للمصاب يجب أن
تكون بعيدة عن متناوله؛ فلو كانت الإشارة في متناول المصاب فسوف يقوم بإطفاء
الجهاز عند رغبته في القيام بعمل شيء يدرك أنه سوف يسبب له صدمة، ويستطرد الدكتور براند
قوله: (عندها تذكرت قدرة الله العظيمة في جعل الألم بعيداً عن قدرة الإنسان للوصول
إليه. (
النظام
العصبي في جسم الإنسان مبهر لأقصى درجة؛ بسبب الكفاءة العالية في نقل المؤثرات
والاستجابات والتعامل معها في زمن قياسي، والإحساس بالألم هو أحد الطرق التي
يتعامل بها الجسم لحماية نفسه من المؤثرات الخارجية، والتي قد تتسبب في تلف بعضٍ
منه.
فهل يمكن اعتبار الألم نوعاً من الشر، أم أنَّ
الأمر مرتبط بالتقدير ولوازم الوجود؟
إنَّ
الألم مثال لما يمكن أن يتم اعتباره شراً، في حين يتبين من خلال التدقيق والبحث أن
الأمر ليس عبثياً أو نوعاً من الشر؛ وإنما حماية من شر محتمل.
قسَّم المهتمون بقضية الشر أنواعه إلى أقسام
عدة، منها الشر الأخلاقي، والشر المادي، والشر المجاني:
الشَّرُّ
الأخلاقيّ:
هو
الشر الذي يتسبب فيه الإنسان، مثل: الكذب، والنفاق، والقتل، والتعدي، وكل الموبقات
التي يرتكبها الإنسان.
هذا النوع من الشر هو ما نتفق تماماً على أنه شر،
وهو نابع تماماً من حرية الإرادة التي يتمتع بها الإنسان، ولو أن الإنسان يفعل
الخير فقط لسقطت حريته، وأصبح هذا العالم عالماً آخر بقوانين أخرى .
ما
يحدث في عالم الحيوان من افتراس ومطاردات، أو ما يعتقد بعضهم أنها نوع من التعدي
لا يمكن اعتباره شراً؛ إذ ما يقوم به الحيوان هو متطلب ضروري لبقاء الحياة والتطور،
وهو حلقة من حلقات الاتزان البيئي.
الشر
المادي:
ينقسم
الشر المادي إلى قسمين: قسم يكون للإنسان يد فيه، مثل: التلوث البيئي، أو الإخلال
بالاتزان البيئي بصفة عامة. وقسم لا يكون للإنسان يد فيه، مثل: الكوارث الطبيعية
من زلازل وبراكين وأعاصير.
والشر
الذي هو بفعل الإنسان هو الشر محل دراستنا، وهو كل شر سبَّبه تدخل الإنسان، مثل:
بعض الأمراض التي تظهر نتيجة لتجارب الإنسان غير المنضبطة أو سلوكه المنحرف.
أما
الشر المادي الذي لا يكون للإنسان يد فيه، مثل الأعاصير والزلازل والبراكين، فيمكننا
تقسيمها إلى نوعين أيضاً: النوع الأول:
طبيعي وهو لزوم الحياة والوجود، ومن وقوانين الاتزان، والنوع الثاني:
مسؤولية الإنسان؛ بسبب سلوكيات منحرفة، وهذه السلوكيات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً
بجميع مكونات الكون ( راجع الجزء الأول - فصل فطرة الله التي فطر الناس عليها.)
هناك
أنواع من الشر قد يعتبرها بعضهم أنها شر محض؛ بسبب نقص المعرفة، ولكن مع تقدم
العلم وازدياد المعرفة؛ يتضح أنَّ هذه الأشياء ليست شراً أبداً، و إنما عبث
الإنسان غير المسؤول هو ما قد يجعلها شراً مستطيراً، ومن أكثر الأمثلة وضوحاً على
هذه الجزئية هو وجود الفيروسات، باعتبارها مصدر تهديد حقيقي لحياة الإنسان.
فهل
الفيروسات شر ؟
لم
يكن معروفاً منذ وقت قريب أيُّ فائدة للفيروسات، وكل ما يصلنا عنها أنها كائنات
دقيقة جداً وخطيرة لأبعد حد؛ بسبب دقَّتها وقدرتها على الانتشار والعدوى، وبسبب
معدل تحولها الجيني السريع.
معظم
الكائنات إن لم يكن كلها تحتوي على أنواع معينة من الفيروسات، وفي كل النظم
الإيكولوجية على الأرض تحتوي على الفيروسات، وهناك تفسيرات عديدة تحاول تفسير نشأة هذه المخلوقات، ولكن ليس هناك
تأكيد نهائي على نشأتها، فهل هذه الكائنات الدقيقة والخطرة تعتبر شراً محضاً، أم
أنَّ لها فائدة لم نصل إليها بعد، وتساهم بشكل ما في التوازن البيئي؟
الباحث
البريطاني إيرنيست هانكين ( Ernest Hanbury Hankin) في نهاية القرن التاسع
عشر قام بدراسة تفشي وباء الكوليرا في الهند، وبالتحديد على ضفاف نهر الجانج.
وأثناء دراسته لاحظ هانكين أن السكان المحليين يقومون بإلقاء الموتى في
النهر؛ اعتقاداً منهم أن المياه مقدسة، والوضع
الطبيعي في هذه الحالة هو كارثة بيئية لا مثيل لها، لأن النهر سيتحول إلى مستنقع
للبكتريا المسببة للمرض؛ مما سوف يزيد من سرعة انتشار المرض بشكل مخيف في جميع
البلدات التي تستخدم مياه هذا النهر، لكن على العكس من ذلك تماماً؛ أخذ الأمر في التراجع بدلاً من أن ينتشر الوباء
بصورة كارثية، وأمر كهذا لابد أن يضفي ثقة
واعتقاداً راسخاً لدى العامة بأن مياه النهر مياه مقدسة؛ على اعتبار أن ما حدث
معجزة حقيقية.
لا
يمكن بحال من الأحوال للعقول الواقعة تحت قيود التراث والمسلمات غير القائمة على
دليل حقيقي أن ترى في هذا الأمر سبباً علمياً أو نظرية معرفية، بل سوف يزداد لديها
إيمانها الوراثي وتمسكها التراثي؛ بسبب عدم القدرة على فهم الأسباب.
لكن
كان للباحث هانكين رأي مختلف، فهو متحرر تماماً من هذه الاعتقادات، ويرى أن
سبباً ما هو ما قضى على الجراثيم وثبَّط نشاطها، وذلك قبل أن يتم اكتشاف نوع من
الفيروسات يسمى (بكتريوفاج)(bacteriophage) .
وفيروسات
(بكتريوفاج) هي الفيروسات التي تخترق الجراثيم وتسيطر عليها وتدمرها؛ إذ تعمل
البكتريوفاج كلغم حربي يدمر الجراثيم ولا يضر الإنسان، وهذا ما يفسر لماذا كان
السكان المحليون في الهند يستحمون في النهر -والذي من المفترض أنه مكان موبوء
بالجراثيم- دون أن يصابوا بالوباء؛ فوجود الفيروسات كان له فائدة قصوى؛ بحيث قضت
تماماً على البكتريا المسببة للمرض.
الفيروسات
من أكثر الكائنات الحية شيوعاً على سطح الأرض، ويتواجد منها في أمعاء الإنسان فقط
مليارات، تساعد الإنسان في مكافحة البكتريا الضارة والتخلص منها، وحسب الدكتور جرمي
بار من جامعة سان ديجو- كاليفورنيا. تعيش (البكتريوفاج) في كل شبر من الأرض، وتوجد
في أمعاء الكائنات الحية المختلفة؛ لكي تساعدها على التخلص من البكتيريا والجراثيم
الضارة، فهل يمكن اعتبار البكتريوفاج شراً؟
ما
يحوِّل الفيروسات إلى شر هو اعتداء الإنسان وعبثه بالتوازن البيئي، حيث تصبح هذه
الفيروسات في بيئة غير بيئتها الطبيعية، مما يحفزها على مهاجمة خلايا أخرى، مسببة
أمراضاً فتاكة، ولعل الشر المتطاير من الفيروسات هو تحذير شديد اللهجة للإنسان أن
يحافظ على التوازن البيئي، وألا يعتدي، وأن يتحمل مسؤولياته تجاه هذا الكون، ويحاول
فهم مكوناته بشكل سليم. إزدياد
مثال
الفيروسات يوضح كيف يمكن لشر غير مبرر من وجهة نظر بعض الفلاسفة أن يكون في
حقيقته شراً مبرراً، ولكن بسبب نقص
المعرفة لا نستطيع فهم كامل جوانبه، فالمسألة اعمق بكثير مما نتخيل، فلو افترضنا
أن لدينا القدرة على الحكم على شيء معين أنه شر غير مبرر فلابد من فهم العلاقات
المتشابكة التي أدت إليه.
منذ
أن امتلك هذا الإنسان الوعي، وأصبحت لديه حرية الإرادة وهو لا يكف عن التجريب، مثل:
استئناس حيوانات وطيور، وتربية أشياء ووضعها معاً، وحتى إجراء عمليات تلقيح
وتخصيب.
كل
هذه العمليات منذ فجر التاريخ لا بد أنها أنتجت في التوازن البيئي خللاً ما، والتاريخ
مليء بالأمثلة المنحرفة: عن قبائل تأكل ما لا يؤكل، وقبائل آكلة لحوم البشر، وأمثلة
عن عادات منحرفة وسلوكيات شاذة، وتصرفات الإنسان منذ فجر التاريخ، وفي أي بقعة على
سطح الأرض، لا بد أن يكون لها صدىً في النسيج الكوني، ولا يمكن الحكم بشكل صحيح
إلا من خلال فهم كامل لهذا النسيج الكوني، وهو أمر في غاية الصعوبة.
الشر
المجاني:
الشر
المجاني أشار إليه الفلاسفة بأمثلة شهيرة، مثل: موت غزالة في حريق غابة بشكل بطيء
ومؤلم، واغتصاب طفلة بعمر خمس سنوات، ثم قتلها على يد عشيق أمها.
المثال
الأول:
موت الغزالة بشكل بطيء ومؤلم في حريق الغابات هو من ضمن القوانين التي تسيِّر
الكون، والتي ترتبط بعضها ببعض بشكل ملتف، ويصعب فهمه بدون فهم جميع العلاقات
المرتبطة به.
مسألة
أنَّ حرق النار مؤلمٌ هي قانون، فلو أنها لم تكن مؤلمة لاندفعت الكائنات نحو النار،
ولكن التجريب الذي ينتقل من فرد إلى نسله هو ما يحافظ على الحياة وتطورها، ولولا
وجود الألم والرعب كما وضحنا لحدث خلل كبير في الاتزان الكوني، ولا شك أن النظر
لمثل هذه الحادثة بشكل منفصل يضعها في خانة الشر، ولكنَّ النظر إليها من وجهة نظر
تطورية لا يجعلنا نعتبرها كذلك؛ بل هي من حتميات الوجود والتقديرات الكونية التي
قال عنها الخالق قدَّر كل شيء تقديراً.
المثال
الثاني:
وهو اغتصاب طفلة بعمر خمس سنوات وقتلها على يد عشيق أمها، هذا –بالطبع- ليس ذنب
الطفلة الصغيرة، ولكنه شرٌّ بالفعل وقع من هذا العشيق على الطفلة، وهو ليس شراً
مجانيَّاً؛ بل هو شرٌ ماديٌّ ناتج عن فعل هذا الإنسان تجاه إنسان آخر.
هذا المثال شر ولكن هذا لا يعني أنَّ الله أراده
بل هي إرادة العاشق الذي فعل ذلك، ومن ضمن إرادته الحرة أيضاً، وأيُّ تدخلٍ سوف
يحوِّل هذه الإرادة الحرة إلى جبر، وتنهار معه حجة وجود الإنسان.
يجب
أن يسأل الفيلسوف نفسه سؤالاً: هل يجب على الخالق أن يتدخل ويخرق القوانين ويعطل
التقديرات حتى يوقف الشر، أم أنَّ التقديرات يجب أنْ تسير وفق قوانينها لتكون
منسجمة مع بعضها بعضاً.
حتى
خرق القوانين لابد أن يكون بقانون، أما محاولة إيقاف الشر خارج منظومة القوانين
والتقديرات هي العشوائية ذاتها، والتي لا تليق بإله حكيم عليم، والعالَم الذي
يطلبه الفلاسفة بدون شر هو عالم آخر
بقوانين أخرى؛ وهذا العالم إنما له
قوانينه وتقديراته التي لا يمكن أن يخرج عنها.
نستطيع
أن نستخلص أنَّ الشر في هذا الكون هو من فعل الإنسان بشكل حصريّ، ولا يوجد شر
مجاني أو شر غير مبرر؛ وإنما ما يُعتقد أنه شر غير مبرر سوف يتضح سببه ودوافعه
بالغوص معرفياً فيه، ومحاولة فهم أسبابه وتاريخه.
لقد
أشار كتاب الله لهذه الحقيقة من خلال سورة
الرحمن، التي أخبرتنا عن التوازن الوجودي في الكون، ونبهت الإنسان إلى الحفاظ على هذا التوازن؛ بحيث لو حدث خلل فإن من وظيفة ومسؤولية الإنسان هي
معالجة هذا الخلل.
ثلاث
آيات كريمة تتحدث عن هذا الاتزان وهي :
)وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا
وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)( (سورة الرحمن: آيات 7-9)
يقول
المفسرون في تفسير الآية الأولى: إنَّ الله سبحانه وتعالى وضع العدل بين خلقه، وفي
تفسير الآية الثانية: إن الله أمر بعدم بخس الوزن، وفي الآية الثالثة: افعلوه
مستقيماً بالعدل أو أقيموا لسان الميزان
بالقسط والعدل.
ذهب المفسرون في تفسير الميزان إلى الصورة
الذهنية عن الميزان المعروف، ولكنَّ المتتبع
لألفاظ كتاب الله وترتيب الآيات يجد أمراً مختلفاً.
الآية
الأولى
تتحدث عن رفع السماء؛ وهي بداية الخلق، ثم وضع الميزان؛ وهنا الميزان يعني التوازن
الذي وضع الله قوانينه في الكون، سواء توازن بيئيّ أو توازن بيولوجيّ أو حتى توزان
بين القوى المختلفة التي تحكم هذا الكون العملاق.
لقد عبر المفسر القديم عن هذا التوازن عندما
قال: وضع العدل بين خلقه؛ يقصد الإنسان أو حتى الحيوان، ولكنْ بسبب الشح المعرفي
لم يستطع الوصول للمفهوم الشامل للاتزان، الذي يشمل جميع مكونات الكون، سواء حية
أو غير حية أو حتى مرئية أو غير مرئية.
الآية
الثانية
تعزز هذه الفرضية؛ فلفظ [يطغى] يعني تجاوز الحد المسموح به، وتجاوز الحد في التصرفات
هو السبب الرئيس لاختلال التوازن الكوني، ولفظ [يطغي] يوحي بأن هناك مساحة
للحركة يستطيع الإنسان المناورة من خلالها قبل أن يصل لذروة الطغيان وتجاوز الحد، بينما
الميزان العادي والتعامل اليومي بين الناس لا يُسمح فيه بالتجاوز إطلاقًا، والذي
عبر عنه كتاب الله في سورة المطففين.
الآية
الثالثة
تدعو الناس بصيغة الجمع؛ أي تقصد مجتمعاً متكاملاً وليس فرداً فرداً لإقامة الوزن
بالقسط، والإقامة لا تكون إلا لشيء أصابه انحراف ؛ فكأن المنهج القرآني يطلب من
المجتمع التعاون على عدل الميزان الكوني، ويطلب منهم عدم التجاوز.
إنها المهمة الأساسية المنوط بها الإنسان؛ وهي
تحمل مسؤوليته تجاه الكون ومكوناته، والخطاب موجه للإنسان؛ لأنه بطبيعة الحال
يملك حرية الإرادة وحرية الاختيار، وإساءة استخدام الحرية قد تسبب خللاً في الاتزان
البيئي.
السؤال
الذي علينا أن نسأله الآن: لماذا يعبث الإنسان بالكون من حوله، أو بمعنى أكثر دقة
هل الإنسان مجبول على الخير أم على الشر؟
هناك
فريق من الفلاسفة يرى أن الأصل في الإنسان الخير، وهناك فريق آخر يرى أن الإنسان
ينزع إلى الشر، وفي السجال الذي دار بين جان جاك روسو وبين توماس هوبز،
وصف هوبز الإنسان بالوحشية والهمجية، وتوصل إلى أنه لا يمكنه التعايش بسلام
إلا من خلال مجتمع، وقواعد صارمة تكبح نزعاته الإجرامية وشهواته الهمجية، هذه
النظرة عارضها جان جاك روسو بشدة؛ فهو رأى أنَّ الإنسان كائن يحمل
الخير، ونقيٌّ طالما ظل بعيداً عن الفساد، وخصوصاً الفساد الطبقي، والظلم الذي
يمارَس في المجتمع.
بعض
الدراسات الحديثة أثبتت أن الحس الأخلاقي أو الخير الفطري لدى الإنسان يتبلور في
سن أصغر مما كان يعتقد؛ إذ إنَّ التجارب أثبتت أنَّ القدرة على التمييز بين الخير
والشر واختيار الشر بدت مبكرة جداً.
على
قناة (بي بي سي 2) تم عرض دراسة بغرض التعرف على قدرة الأطفال على التمييز بين
السلوك القويم والسلوك غير الحميد، وفي أيِّ عمر تتبلور هذه القدرة.
كرر
الباحثون العرض مرة أخرى بأشكال مختلفة
وألوان مختلفة عن التجربة السابقة؛ بهدف التعرف على على مدى تأثير اللون أو الشكل
على اختيار الأطفال، وبالفعل اختار الأطفال الشكل الأكثر تعاوناً.
في
عام 2010 تم التوصل للنتائج نفسها من خلال تجربة شبيهة في جامعة ييل الأمريكية، وفي 2017 تم إثبات التجارب ونتائجها من خلال
جامعة كيوتو باليابان أيضاً.
دراسات
عديدة أجريت في هذا الاتجاه توضِّح أن السلوك الطيب وحب المساعدة هو السلوك الغالب
على الأطفال الصغار، ومن أمثلة هذه الدراسات الدراسة التي تم إجراؤها في جامعة
هارفارد، تحت اسم مراقبة الأم.
في هذه الدراسة كان يتم وضع الصغار معاً
وإخضاعهم للمراقبة؛ وقد لاحظ الباحثون أنَّ الصغار كانوا يسلكون سلوكًا لطيفاً
تجاه بعضهم بعضاً وهم لا يعلمون أنهم مراقبون؛ مما يعزز فرضية أن السلوك الحميد لا
يُكتسب من خلال المراقبة والعقاب؛ بل هو سلوك طبيعي.
للشر مصادر متعددة، وكثير من النظريات حاولت
تفسير مصدر الشر وأين يكمن، منها:
✦
التحليل النفسي عند سيجموند فرويد:
يقول
فرويد إنَّ النفس البشرية تتكون من ثلاثة اقسام، وهي: ) الهو
ID،
والأنا EGO،
والأنا الأعلى (Superego
بالنسبة
إلى الهو أو :ID فهي غرائز الإنسان، ومنها: العنف، التهور، غير أخلاقي، جاف
الطباع، لا يعترف بالتقاليد والعادات، أناني. وهذه الغرائز تجعل للإنسان طبيعة
حيوانية؛ فهو لا يهمه سوى تحقيق مصالحه ورغباته بغض النظر عن أي شيء آخر.
الأنا
الأعلى:
هي مجموع العادات والتقاليد والأخلاق التي يكتسبها الإنسان من خلال البيئة التي
يعيش فيها، وهي في الغالب تجعله متسلطاً، جامد الفكر، مثالياً؛ والأمثل بالنسبة
إليه هو ما يراه المجتمع، بغض النظر عن رغباته هو شخصياً، وتكمن سعادته فيما يراه
ويقبله المجتمع الذي يعيش فيه.
أما الأنا أو الـEGO: فهي التي توازن بين متطلبات النفس الأولى (الهو، النفس الحيوانية) وبين متطلبات النفس الأنا العليا(Superego) ، إذ تجعل منه إنساناً عاقلاً متزناً واقعيأً، يحاول إرضاء رغباته بشكل معقول، وبقدر ما تسمح به الظروف.
يصدر الشر من الإنسان إذا تفوقت النفس الهو (ID)، وصار الإنسان أسيراً لرغباته، سائراً خلفها دون أن يهتم باعتبارات الخير والشر أو الخطا والصواب.
✦ النظرية السلوكية:
أهم
ما جاء في النظرية السلوكية أن البيئة هي العامل الأساسي الذي يعتمد عليه سلوك
الإنسان.
يقول عالِم علم النفس الأمريكي بورهوس
فريدريك سكينر: إن السلوك مجموعة استجابات ناتجة من تأثيرات البيئة
الخارجية، وهذا السلوك إما إن يتلقى تعزيزاً فيقوى ويحدث في المستقبل، أو أنه لا
يلقى تعزيزاً وبالتالي يضمحلّ ويقلّ احتمال حدوثه في المستقبل، فتلقي الدعم
الإيجابي والمكافآت تدعم السلوك وتساعد على ظهوره، بينما العقاب يقلل من الاستجابة.
✦
النظرية الإدراكية (علم النفس المعرفي):
إذا
كانت النظرية السلوكية قررت أن البيئة هي من تؤثر وتشكل سلوك الإنسان، فإن النظرية
الإدراكية تقول إنَّ طريقة فهم الإنسان لهذه البيئة هي من تقرر سلوكه، وهذه
النظرية تدرس وتهتم بطريقة فهم الإنسان لواقعه، فكلُّ إنسان لديه فهمه الخاص
اعتماداً على تجاربه المخزونة في الذاكرة، وتعتمد النظرية على وجود حالات ذهنية
داخلية لدى الإنسان، مثل: المعرفة، والرغبة، والإيمان، والدافع، والفكرة، بحيث
يصبح تصرف وسلوك الإنسان نتيجة لفهمه الشخصي لما يدور حوله، أو نتيجة لتفاعل هذه
الحالات مع بعضها بعضاً، والتي تمنحه فهمه الخاص به لما يحيط به بالنهاية.
✦
النظرية الوجودية:
تبعا
للنظرية الوجودية فإن الخير والشر هما خياران من خيارات الإنسان، ويتحمل الإنسان
مسؤولية أفعاله وخياراته، والواقع بالنسبة إلى النظرية الوجودية هو اشتباك الذات
الفردية مع البيئة المحيطة بطريقة تفاعلية؛ فالشخص هو الذي يخلق واقعه برأي النظرة
الوجودية، سواء كان خيراً أو شراً، وعلى الإنسان أن يتحمل نتيجة اختياراته.
تعتمد
النظرية العصبية البيولوجية على أن العوامل الجينية من أهم العوامل المسببة للشر، ومن
ضمن الملاحظات الجديرة بالاهتمام التي أشارت إليها هذه النظرية هو أن السلوك
العدواني في المجتمع يزداد لدى الأفراد الذين لديهم الجين الوراثي
(xyy)، بعض التجارب عزَّزت هذه النظرية، مثل
التجارب التي أجريت على (الغدة الهيبوسلامية Hypothalamus ) والتي توجد في قاع المخ، والتي أثبتت أن
السلوك العدواني قد يظهر على الإنسان في غياب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك؛ أي: أنه تأثير جيني.
النظرية
العصبية البيولوجية تشير إلى أن الشر يحدث نتيجة لتفاعلات في دماغ الإنسان، بحيث
يصل الإحساس بالخطر عن طريق حواس الإنسان المختلفة، وبالتالى يتخذ الإنسان سلوكاً
عدوانيًا.
✦
النظرية الدينية:
يلخص
المؤمنون وجود الشر بأنه حكمة الإله، من خلال النقاط التالية :
-
الله هو الأكثر حكمة.
-
حكمة الله تستلزم الحكمة وراء كل شيء موجود.
-
تقتضي حكمة الله وجود بعض الشرور لأسباب عميقة.
-
تقتضي حكمة الله وجود الشر لكي تتأهل الحياة لتكون اختباراً، ولا يمكن الكشف على
الفور عن كل شيء لمن يخضع للاختبار.
-
تقتضي حكمة الله الكشف عن بعض الأسباب الرئيسة وراء الشر؛ للمساعدة في دعم الناس
وهم يجتازون مصاعب الحياة.
أحد
الركائز الأساسية في النظرية الدينية وبالتحديد منهج أهل السنة أن الشر المحض ليس
له وجود، كما يقول ابن القيم. بمعنى أنه ليس هناك شر كامل، فما يمكن أن يكون شراً من جهة هو في الحقيقة خيرٌ من جهة أخرى .
للأسف
لم تفسر النظرية الدينية كثيراً من الأمور، واعتمدت بشكل كبير على الإيمان الغيبي
في مواجهة أمور يغلب عليها الجانب العقلي.
النظرة
الدينية (وأتحدث هنا عن نظرة التراث
الإسلامي) لمسألة الشر تقوم على أساس الخلق المنفصل، ولا تاخذ في اعتبارها مسألة
التطور؛ بسبب الإرث الثقيل الذي يؤمن بالخلق المنفصل للكائنات.
ولو
أن المفكر الإسلامي بحث قضية الشر في ضوء التطور لما حدثت مشكلة، ولما جاءت الردود
غامضة في كثير من الأحيان، فالتصور الديني يزعم أن خلف وجود الشر حكمة عظيمة قد لا
نعلمها، ولكنه لا يعطي تصوراً لهذه الحكمة في ضوء الخلق المنفصل.
يقول رجال الدين المعنيون بدراسة وجود الشر إنَّ
وجود الشر يتوافق تماماً مع وجود إله عليم
وقوي ورحيم، وأن الشر جزء من الابتلاء الذي يصيب الإنسان الذي هو نوع من الاختبار،
فإذا واجهت المتدين مشكلة الشر المجاني وقف حائراً، لماذا تتألم الغزالة في حريق
الغابة؟ ولماذا يتألم الطفل الصغير وهو لم يجن شيئاً؟ ولماذا يموت الطفل دون أي
ذنب اقترفه؟.
التطور
يجيب على هذه الأسئلة بسهولة؛ إنَّ ذلك يحدث بسبب القوانين والتقديرات التي تحكم
كل شيء، أما مسألة الخلق المنفصل فهي في حقيقتها لا ترتبط بالقوانين والتقديرات
بقدر ما ترتبط بالخوارق، وطالما أن الحياة مليئة بالخوارق فلماذا لا يتم خلق كون
بلا شر؟ أو كون يكون الشر فيه محدوداً جداً، ويستثنى منه الأطفال والكائنات الأخرى
؟
بعد
استعراض مختصر لبعض النظريات التي تحدثت عن وجود الشر، وكذلك النظرية الدينية
والتي جاءت في أغلبها في لغة خطابية تقوم على الإيمان الغيبي أكثر بكثير من
اعتمادها على العقل، وسوف نحاول فهم نظرية الشر من خلال كتاب الله، والتي جاءت في
سورة الفلق.
نظرية الشر في سورة الفلق:
نظرية
الشر هي خمس آيات في صورة بليغة موجزة، لتضع الخطوط الفاصلة والواضحة للنظرة
الدينية لمسألة الشر، وتجيب على السؤال الأكثر تحييراً: هل الله خلق الشر فجعله
ذاتاً منفصلة، أم أنَّ الشر من حتميات الوجود؟
ما
كان لنا أن نسبر أغوار سورة الفلق التي أسست وأرشدت لنظرية وجود الشر دون تحليل
دقيق لكل لفظ ورد في هذه السورة العظيمة؛ إذ ما الذي دعانا للقول إنَّ هذه السورة
العظيمة هي نظرية معرفية عن وجود الشر ؟
تكرار
لفظ [الشر] في السورة وذكره 4 مرات من إجمالي 5 آيات لابد أنه يلفت الانتباه.
الآية
الأولى:
)قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ(
-
جاء في تفسير الطبري:
«القول
في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ(
يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، أستجير بربّ الفلق من شرّ
ما خلق من الخلق. واختلف أهل التأويل في معنى (الفَلَق) فقال بعضهم: هو سجن في
جهنم يسمى هذا الاسم. عن ابن عباس قال: (الفَلَق): سجن في جهنم . عن السديّ يقول:
(الفَلَق): جُب في جهنم. عن أبي هُريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
قال:(الفَلَق): جبّ في جهنم مغطًّى.
وقال
آخرون: الفلق: الصبح.
عن
ابن عباس: )أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ( قال: (الفَلَق): الصبح . عن الحسن، في هذه الآية )قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ( قال: (الفَلَق): الصبح . عن سعيد بن جُبير، قال: (الفَلَق) : الصبح .
وقال
آخرون: (الفَلَق): الخلق، ومعنى الكلام: قل أعوذ بربّ الخلق. عن ابن عباس، في
قوله: (الفَلَق) : يعني: الخلق.» انتهى التفسير
هناك
تباين واضح في فهم مدلول كلمة الفلق، وهذا إن دل فإنه يدل على أنَّ التفسير جاء
اعتماداً على قدرة المفسِّر الشخصية في فهم الكلمة ومدلولها، وسوف نحاول فهم
التعبير القرآني وإلام يشير، وتحليل لفظ الفلق؛ لنرى ما هو هذا الفلق؟
جذر
كلمة [الفلق] كما في قاموس اللغة يدل على فرجة وبينونة، ويفلق الشيء أي: يجعله
ينفرج، والفلق نفسه هو الشيء القابل للانفراج، وهذا الانفراج سوف يُظهر شيئاً
مختفياً داخل هذا الفلق.
في
كتاب الله ذكرت مشتقات لفظ [الفلق] في أربعة مواضع، وهي كالتالي :
✦ )فَأَوْحَيْنَا
إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(
(سورة الشعراء : آية 63). في هذه الآية الكريمة لفظ [انفلق] ويعني انفراجاً أظهر
قاع البحر حتى يمر نبي الله موسى ومن معه.
✦ )إِنَّ اللّهَ
فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(
(سورة الأنعام : آية 95). لفظ [فالق] هنا
على وزن فاعل، ونتيجة هذا الفلق خرج النبات، ففالق الحب؛ أي: أحدث انفراجة في الحب
والنوى فخرجت النبتة منه.
✦ )فَالِقُ
الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(
(سورة الأنعام : آية 96 ). هذه الآية الكريمة تشبه الآية السابقة تماماً، غير أنَّ
الشيء الخارج أو المنبثق هو النور.
✦
الموضع الرابع جاء في الآية الأولى من السورة التي نحن بصددها :
الآية
الأولى: ) قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(
-
الآية تخاطب الإنسان بلفظ [قل أعوذ] أي أطلب المساعدة من رب الفلق، والفلق هنا
متعلق بالإنسان، وسوف يعضدد هذه الفرضية الآيات التالية لهذه الآية الكريمة .
-
الفلق هو هيئة أو كيان يحدث فيه انفراجة
فيظهر منه شيء ما.
-
التعبير القرآني )رب الفلق( يوحي أن هذا الفلق جاء بتدخل إلهي مباشر.
ومن خلال فهم نظرية التطور القرآنية التي أفردنا
لها الفصول الأولى من هذا الكتاب؛ يبدو لنا أن الفلق هو الكيان الذي تنبثق منه
احتياجات الإنسان.
الحاجات
الأساسية للإنسان حسب رأي العلماء تشمل سبعة احتياجات:
أولاً:
احتياج فسيولوجي (طعام - شراب -سكن..
إلخ).
ثانياً:
احتياج الأمن والاطمئنان.
ثالثاً:
احتياج اجتماعي، مثل: الحب والانتماء وتقبل الآخرين.
رابعاً:
احتياج تقدير الذات والثقة في النفس.
خامساً:
احتياج إلى تقدير المجتمع لأجل دورالإنسان
وجهوده.
سادساً:
الاحتياج إلى المعرفة.
سابعًا:
الاحتياج الجمالي.
هذه
الاحتياجات هي المحرك الرئيس لتطور الإنسانية، وهي المنشئة للسلوك، وهذه
الاحتياجات جميعها تبدو احتياجات مشروعة، بل
ضرورية لحياة الإنسان، ودونها تَفقد حياة الإنسان المعنى.
الاحتياجات
التي ذكرها العلماء، وما يستجد من احتياجات، هي الشيء الذي ينبعث داخل الإنسان
فيندفع لإشباع هذه الاحتياجات، وعملية انبثاق أو انبعاث هذه الاحتياجات هي عملية
الفلق داخل الإنسان، والتي –بالتالي- تخلق سلوك الإنسان وتصرفه، سواءٌ أكان خيراً
أم شراً وهذا ما عبرت عنه الآية التالية.
-
جاء في تفسير القرطبي:
«)مِن شَرِّ
مَا خَلَقَ (2)( قيل
: هو إبليس وذريته . وقيل جهنم .و قيل : هو عام ; أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز
وجل » انتهى التفسير.
في
حين أن التفاسير تقول إن الشر مخلوق في المخلوقات التي خلقها الله؛ نجد الآية تقول
شيئاً آخر، وهو أن الفلق هو ما يخلق التصرف أو السلوك، فإذا كان السلوك غير قويم؛
أي أنه سلوك شرير فهو مخلوق من احتياج الإنسان.
الفرق
بين تفسير المفسرين وبين ما نتبناه هو أن المفسرين يقولون: إنَّ الله خلق الشر في
الكائنات، لذلك نتعوذ بالله من هذا الشر الذي خلقه سبحانه، بينما الآيات تتحدث عن
أنَّ الفلق أو الاحتياج الذي سوف يحرك سلوك الإنسان هو ما يخلق الشر.
من
هنا يصبح الشر من حتميات الوجود (وجود الإنسان)، ومن لوازم التطور، وليس ذاتاً
منفصلة خلقها الله، كما يدعي كثير من الفلاسفة.
فحاجة
الإنسان للطعام أو الشراب سوف تدفعه للتصرف والبحث عن طريقة يجني بها المال ليحصل
على ما يريد، والوضع الطبيعى لسد هذا الاحتياج هو سلوك وتصرف سليم وصحيح لجني
المال، إما إذا انحرف السلوك فهنا يكون الاحتياج هو من خلق هذا الانحراف وأوجد الشر، وليس الله هو من أوجد الشر.
الآية الكريمة تقرر أن الله أعطى للإنسان حرية
التصرف وحرية الإرادة، ومن تمام هذه الحرية أن يملك الإنسان التصرف بشكل سوي، أو
بشكل منحرف.
ومن
هنا طلب الله من الإنسان الاستعاذة بالله ومراقبته، إذا دفعه الاحتياج إلى السلوك
المنحرف.
والسلوك
المنحرف لن يتم ولن تكتمل دورته إلا من خلال ثلاث محطات رئيسة، كما وضحها ربنا في
الآيات التالية:
الآية
الثالثة (المحطة الأولى): )وَمِنْ شَرِّ
غَاسِقٍ إِذَا وَقَب(
-
جاء في تفسير الطبري:
« )وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب( يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه.
وقال
آخرون: هو كوكب. وكان بعضهم يقول: ذلك الكوكب هو الثُّريا.عن أبي هريرة في قوله: )وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب( قال:
كوكب.قال ابن زيد، في قوله: )وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب( قال:
كانت العرب تقول: الغاسق: سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها
وترتفع عند طلوعها .
وقال
آخرون: بل الغاسق إذا وقب: القمر، ورووا بذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
خبراً.عن عائشة قالت: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم
قال: ))يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا
وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ))» انتهى التفسير.
جذر
كلمة [غاسق] هو غسق، وله أصل واحد وهو الظلمة كما جاء في قاموس اللغة، أما كلمة
[وقب] فلها أصل وهي غيبة شيء في مغاب .
مشتقات كلمة [غسق] في كتاب الله جاءت في أربعة
مواضع كما يلي:
✦ )أَقِمِ
الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ
قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(
(سورة الإسراء :آية 78). غسق الليل في الآية تعني ظلمة الليل أو انطماس الليل
✦ )هَذَا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(
(سورة ص : آية 57). غسَّاق يعني شيئاً مظلماً و كريهاً وسيئ الصفات لا شك.
✦ )إِلَّا
حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(
(سورة النبأ : آية 25).
✦
والآية الرابعة هي الآية التي نحن بصددها، فإذا كانت السورة تشير إلى احتياجات
ودوافع وبواعث وسلوك؛ فلابد أن يكون الغاسق على علاقة وثيقة بموضوع السورة.
الإنسان
تبعاً للنظرية الدينية، وكثير من التجارب العلمية، خيِّر بطبيعته، ولكن هناك عوامل
تحوِّل هذه الخيرية إلى شر، وهناك احتمالان لهذه العوامل الكامنة داخل النفس، وتزيد
تأثير الشر المخلوق من الاحتياج:
الاحتمال
الأول:
هو طرق التربية، والبيئة، والخبرات السيئة من المجتمع، ووجود نماذج منحرفة، وهذه
النقاط السوداء ما إن تتهيأ الظروف إلا تَظهر لتعزيز السلوك المنحرف وتقويته.
نفترض
أنَّ السلوك المنحرف نشأ من احتياج معين، مثل: احتياج الإنسان لتقدير المجتمع
وتكريمه له، ولم يجد الإنسان وسيلة شريفة لاكتساب تقدير واحترام المجتمع، مثل: عمل
مؤثر على سبيل المثال.
هنا قد يفكر الإنسان في الغش أو الكذب أو
النفاق؛ لكي يحصل على مكانة داخل المجتمع بشكل مزيف، وهذا السلوك المنحرف لو صادف
نقاطاً سوداء تُغذِّيه، مثل: نماذج وقدوات سيئة؛ فسوف يصبح السلوك أكثر عدوانية، وسوف
يكتسب وزناً زائداً، على الجانب الآخر لو أنَّ السلوك المنحرف لم يجد هذه النقاط
السوداء المتمثلة في نماذج وقدوات سيئة، وأن المجتمع والبيئة يعظمان قيم الصدق
والشرف؛ فسوف يصبح السلوك ضعيفاً للغاية، ويمكن أن ينتهي قبل أن يبدأ في الظهور.
الاحتمال
الثاني:
قد يكون الغاسق عوامل جينية، ولكنَّ منشأها الطبيعة الحيوانية للإنسان؛ فإذا كان
الإنسان قد تطور من كائنات أقل رقياً، فمن الوارد أن تكون العوامل الجينية البعيدة
التي توارثها من هذه الكائنات هي النقاط المظلمة لديه، والكائنات الأقل رقياً من
الإنسان ليس لديها منظومة أخلاقية، وما يحركها هي الغرائز فقط، فعندما تبرز
احتياجاتها فإنها تحاول إشباع رغباتها دون أي اعتبار، مثل: الحيوان المفترس الذي
يهاجم بكل قوة عند شعوره بالجوع، أو الحيوان الصغير الذي قد يهاجم بشراسة عند
شعوره الخوف.
قد
يكون الغاسق هو أحد الاحتمالين أو يكون كليهما، ولكنَّ المؤكد أنَّ النفس البشرية
فيها بعض النقاط المظلمة، سواء اكتسبتها من البيئة أو توارثتها من أسلافها، وتؤثر
في منظومة سلوكها، وإن وجدت الفرصة سانحة فربما تعزِّز وتقوي سلوك الشر في الإنسان.
الآية
الرابعة ( المحطة الثانية): )وَمِن شَرِّ
النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(
ماذا
قال التفسير عن هذه الآية الكريمة؟
-
جاء في تفسير الطبري:
«وقوله: )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( يقول: ومن شرّ السواحر الّلاتي ينفُثن في عُقَد الخيط، حين يَرْقِين عليها.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. عن ابن عباس )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
ما خالط السِّحر من الرُّقَي .عن الحسن )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
السواحر والسَّحرَة. عن معمر، قال: تلا قتادة: )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
إياكم وما خالط السِّحر من هذه الرُّقَى . عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: ما من شيء
أقرب إلى الشرك من رُقْية المجانين. عن قتادة، قال: كان الحسن يقول إذا جاز )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
إياكم وما خالط السحر. عن مجاهد وعكرِمة )النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
قال مجاهد: الرُّقَى في عقد الخيط، وقال عكرِمة: الأخذ في عقد الخيط .قال ابن زيد،
في قوله: )وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ( قال:
النفاثات: السواحر في العقد.» انتهي التفسير.
جذر
كلمة [النفاثات] هو نفث، وأصلها خروج شيء من الفم دون أدنى جرس كما في قاموس اللغة،
فإنْ كانت عملية النفخ هي عملية إزاحة الهواء بشكل قوي؛ فإنَّ عملية النفث هي
عملية إزاحة ولكن بشكل أقل وبصورة ليست مركزة.
كلمة [العقد] تعني مواقع الارتباط، ومنها العقد
الذي يربط بين اثنين، فيكون التعبير القرآني النفاثات في العقد تعني عملية خلخلة
هذه العقد أو إزاحتها أو التحلل منها.
النفاثات
هي الأشياء التي تدفع في اتجاه فك ارتباط
الإنسان بالتزاماته، والنفاثات في العقد
هي عدم وجود رقابة أو مسؤولية على تصرفات الإنسان؛ مما يشجع الإنسان على عدم
الالتزام، ويحفز لديه السلوك المنحرف.
النفاثات في العقد هي من أهم المحطات التي تساعد
على تقوية سلوك وتصرف الشر؛ فعندما تدرك النفس عدم وجود رقابة، أو مسؤولية معينة، أو
أمنت العقاب، تتمادى في سلوك الشر، ويتم تغذية الشرير بمزيد من العدوانية.
النفاثات
في العقد من أسباب الشر التي وجب على الإنسان التعوذ منها، وواجب المجتمع عدم
السماح لها بالوجود؛ فعدم وجود نظام اجتماعي وقانوني عادل وصارم يتم تطبيقه على
الجميع، أوعدم وجود قوانين رادعة، عامل أساسي يسمح للشر بالوجود، بينما النظم
القوية والمتماسكة تقلل من فرص وجود الشر.
لقد وصف التعبير القرآني
العُقد؛ أي: النظام الاجتماعي بدقة لا مثيل لها، إذ وصفه بالعُقد، وهي نقاط
الارتباط القوية التي تربط الأشياء بعضها ببعض.
القوانين
غير الرادعة هي أحد النفاثات في العقد، والمسؤول المتهاون هو كذلك أحد النفاثات في
العقد، والتسامح المجتمعي مع الانحراف هو
أحد النفاثات في العقد، وكل ما يمكنه إضعاف ارتباط الإنسان بالقوانين المنظمة
للمجتمع، وكل محفز على الخروج على النظام هو في الحقيقة النفاثات في العقد.
ولنفترض
أن مسؤولاً في شركة صارح موظفي خدمة العملاء أنه سوف يتساهل مع الموظفين في حال
الشكاوى، ماذا سوف تكون النتيجة؟ هذا المسؤول هو أحد النفاثات في العقد، وما فعله
هو في الحقيقة تحفيز السلوك غير السوي على الظهور لدى الموظفين، وإعطاء فرصة لوجود
الشر، وعلى العكس من ذلك فالمسؤول المنضبط يصير نقطة ارتباط قوية جداً تضعف السلوك
السيئ، وتعزز من وجود السلوك القويم.
الآية
الخامسة ( المحطة الأخيرة): )وَمِن شَرِّ
حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(
- جاء في تفسير الطبري:
« )وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( اختلف أهل التأويل في الحاسد الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرّ
حسده به، فقال بعضهم: ذلك كلّ حاسد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من
شرّ عينه ونفسه. عن قتادة )وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ( قال: من شرّ عينه ونفسه.» انتهى التفسير.
جذر [الحسد] كما جاء في
قاموس اللغة هو الحسد المعروف ولم يزد على ذلك، والمعنى المشهور للحسد هو تمني
زوال نعمة الغير، فإن كان تمني زوال نعمة الغير هو قمة هرم الشر؛ إلا أننا
يمكننا إضافة مدلول أكثر شمولية لمفهوم
الحسد، من خلال مقاربة صوت حصد مع حسد.
جذر كلمة [حصد] في قاموس اللغة يعني قطع الشيء، ومن
خلال كتاب الله سنجد أنَّ لفظ [حصد] يعني قطع الشيء بغرض جمعه، ومن ذلك حصاد
الزرع.؛ فحصد تعني تحصيل نتائج معينة بشكل إيجابي، مثال قول الله تعالى:
)قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ(
(سورة يوسف : آية 47).
بناء
على تقارب صوت [حصد وحسد]، واسترشاداً بما جاء في وصف الحسد، ومن خلال سورة الفلق؛
يبدو لي أن الحسد هو تحصيل نتائج بشكل سلبي، أو تحصيل نتائج سلوكيات تؤدي للشر، وعلى
ذلك يكون الحاسد هو الشخص الذي تجتمع فيه الشرور، أو يجني هذه الشرور، فالحسد هو
مجموع الشرور السابقة في الآية، بحيث إذا اجتمع سلوك منحرف مع غاسق ونقاط مظلمة في
نفس الإنسان، ومصدر يغذي ويقوي هذا السلوك؛ فإن النتيجة النهائية حاسد يجمع كل هذه
الشرور، ويبدو أنَّ الحسد هو شر مجاني نابع من ذلك الحاسد؛ وبمعنى الكلمة فشره
موجه ضد المجتمع أو الآخرين دون سبب حقيقي.
من خلال كتاب الله سوف نجد أنَّ لفظ الحسد ومشتقاته قد ذُكر في خمس مرات، في أربع آيات، كما يلي:
✦ )وَدَّ
كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(
(سورة البقرة: الآية 109). الحسد في هذه الآية الكريمة هو حسد مجاني؛ إذ يتمنى
هؤلاء الكافرون زوال إيمان المؤمنين بدون سبب مادي واضح، سوى شرٍّ متمكِّن من نفوس
هؤلاء الكافرين ووصل ذروته.
✦ )أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا(
(سورة النساء : آية 54). الحسد هنا موجه تجاه آخرين أيضاً، بسبب فضل الله الذي
آتاهم، فلم يصدر من هؤلاء الذين آتاهم الله من فضله أي فعل يستحقون عليه الشر.
✦ )سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ
كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا( (سورة الفتح: آية 11). هنا أيضاً يعتقد
المخلفون أن منعهم من المغانم إنما جاء بدون سبب، وهو فقط شر موجه إليهم ولا
يستحقونه، بالرغم من أنهم لم يشتركوا في الدفاع والتصدي للعدو؛ بل تخلفوا متعمدين،
وهذه الآية الكريمة توضح الفرق الجوهري بين الحسد الذي هو شر صرف وخالص، والشر
المسبَّب.
✦ )وَمِن شَرِّ
حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(
(سورة الفلق : الآية 5).
مما
سبق نجد أن الحاسد هو الشخص الذي يجمع المحصلة النهائية للشر، والمتمثلة كما ذكرنا
في كل المراحل السابقة، والتي تم تفصيلها من خلال سورة الفلق.
الاستعاذة جاءت في سورة الفلق من كل مرحلة من
مراحل تكوين الشر؛ ابتداء من بزوغ الحاجات وما يمكن أن تسببه من انحراف في السلوك، وكذلك كل غاسق إذا وقب؛ وهي العوامل الكامنة في النفس، سواء ناتجة عن
التربية والبيئة والخبرات السابقة أو العوامل
الجينية التي ورثها من أسلافه
السابقين.، أضف إلى ذلك النفاثات في العقد؛ وهي كل ما يساهم في فك ارتباط الإنسان
بمحيطه، ويغذي فيه الأنانية والفردية، ويحفزه على تنفيذ رغباته دون الاكتراث
بالآخرين، أو يؤمن له عدم مسؤولية أو محاسبة.
بعد
بيان مصادر ومنشأ الشر في السورة الكريمة، نجد خاتمة السورة تطلب من الإنسان
التعوذ من محصلة كل ما سبق؛ وهو الحسد، ومن الشخص الذي يجتمع فيه كل هذا الشر؛ وهو
الحاسد.
من
خلال تحليل الألفاظ نجد أن لفظ الحاسد أشمل بكثير وأعمق من ذلك الشخص الذي يتمنى
زوال النعمة عن غيره، فالحاسد شخص خطير؛ إذ تكمن فيه مجمع الشرور، فهو أقرب للمجرم
الذي قطع كل صلة بمن حوله، ومحمل بالحقد ناقم على المجتمع وأفراده، فهو شر يمشي
على الأرض، ومتطوع في نشر الأذى والضرر للغير، وتزايد أعداد الحاسدين في أي مجتمع
هو نذير شؤم وعامل أساسي في فناء المجتمع وانحطاطه، وكيف لا يفنى ولا ينحط وعوامل
الهدم تنتشر فيه مقابل عوامل البناء، و بذور الشر في كل أركانه؟
الحل
الوحيد للقضاء على أنماط الحاسدين داخل المجتمع هو فهم التوجيه الإلهي، وهذا
التوجيه بعضه يقع على عاتق الفرد نفسه، حتى لا يتحول إلى حاسد، وبعضه الآخر يقع
على عاتق المجتمع.
مسؤولية
الفرد ذاته تتمثل في ركنين أساسيين:
✦ أولهما: هو فهم مكمن الشر في النفس ومن
أين يأتي، فإذا فهم الإنسان كيف تحدث الأشياء استطاع التعامل معها بشكل صحيح؛
فمعرفة أن الشر يكمن في الحاجات التي يطلبها الإنسان، وأن هذه الحاجات قد تخلق
سلوكاً منحرفاً في طريق تحقيقها، يعطي
للإنسان فرصة لتلافي السلوك المنحرف من بدايته، وضبطه عند مرحلة التفكير.
النظرة الدينية التقليدية في فهم منشأ الشر، ومن
أين يأتي جعلت الإنسان مفعولاً به، وكأن الله قدَّر عليه الشر ولا مفر من ذلك، مما
خلق أجيالاً مستسلمة غير قادرة على محاربة الشر ووقف تمدده,. بينما النظرة
القرآنية تخبرنا أن الشر يكمن خلف حركة الإنسان ذاته ومحاولاته تلبية حاجاته
ورغباته، فالله سبحانه لا يخلق الشر، وإنما حركة الإنسان هي من تخلق الشر؛ لذا من
البديهيات أن ينتبه الإنسان لحاجاته ويحاول ضبط إشباعها، من خلال ميزان أخلاقي من
اللحظة الأولى، ولا يدع لها مجالاً أن تسوقه للسلوك المنحرف.
✦ الركن
الثاني:
من خلال البيان القرآني في دحض فكرة الشر في مهدها هو التعوذ بالله، بمعنى الحفاظ
على صلة بين الإنسان وربه، من خلال الدعاء والصلاة وطلب الهداية الدائمة. وهذه
العلاقة بين العبد وربه كفيلة بأن تمنح الإنسان قدراً من الطاقة الروحية، وتجعله
يصمد تجاه المغريات، ويئد أي سلوك منحرف في بدايته.
أما
مسؤولية المجتمع فتتمثل كذلك في ركنين:
أولهما: محاربة
النماذج السيئة، وإعلاء قيم الحق والخير، والاحتفاء بكل سلوك شريف، وتحقير كل سلوك
منحرف، من خلال منظومة تعليمية سليمة.
الركن
الثاني:
هو الرقابة الصارمة من خلال القوانين، وإنفاذ
العدالة، ومحاسبة كل مخطئ، دون أي اعتبارات أخرى؛ فنظام المساءلة القائم على
العدالة يضمن عدم التجاوز، ويلغي تماماً ركن النفاثات في العقد التي قد تغذي وتزيد
نار الشر.
إن
لم يلتزم الفرد بمحاربة الشر في نفسه، وكذلك يفعل المجتمع، من خلال القضاء على
مسببات ومصادر الشر فبئس الفرد وبئس المجتمع؛ إذ تتراوح مكانة المجتمعات بين
التقدم والانحطاط بقدر تطبيق محاربة الشر داخله، فخير المجتمعات تلك التي يتحلى
أفرادها بمراقبة ذاتية تردعهم عن السلوك المنحرف، و مجتمعات لا تتساهل مع
الانحراف وتحاربه، وشرُّها على الإطلاق
تلك التي تموج بأفراد يجهلون أكثر مما يعلمون، داخل مجتمعات تجعل الانحراف
مشروعاً.
بنهاية
تحليل ألفاظ سورة الفلق، وبيان نظرية الشر كما تحدث عنها القرآن الكريم، نكون قد
أدينا ما كنا نرغب في تأديته.
ومن
خلال السطور المتبقية سوف نلقي الضوء على تجربتين شهيرتين، ونحاول تطبيق النتائج
التي توصلنا إليها من خلالهما؛ لفهم كيف يؤثر تصرف الفرد والمجتمع في إذكاء الشر
داخل النفوس.
التجربة
الأولى: تجربة ملجرام
مصمم
هذه التجربة هو ستانلي ميلغرام، عالم عِلم النفس الاجتماعي بجامعة ييل
الشهيرة بالولايات المتحدة الأمريكية.
الاختبار كان بغرض دراسة مدى الانصياع
للسلطة، وقد ظهرت هذه الدراسة عام ,1963 من خلال مقالة علمية تحت عنوان دراسة
سلوكية الطاعة، ثم بعد ذلك تم تقديم الدراسة بشكل كامل عام 1974 في كتاب تحت عنوان
(الانصياع للسلطة، نظرة خارجية).
كان الهدف من الدراسة هو قياس مدى
استعداد المشاركين لطاعة السلطة إذا لزم الأمر تنفيذ أوامر تتناقض مع ضمائرهم، والدراسة
كانت عبارة عن إجابة للسؤال المحير والخاص بمحرقة الهولوكوست، وهو هل دور الجنود
الذين نفذوا الهولوكوست لم يتعد تنفيذ الأوامر ؟ أم أنهم شركاء في الجريمة؟
في
كتاب الله لدينا حالة مماثلة لهؤلاء الجنود، الذين ينفذون أوامر ضد المنهج
الأخلاقي وضد ضمائرهم لذا هم شركاء في الجريمة، وقد رصد لنا القرآن الكريم هذه الحالة من خلال
وصف جنود فرعون في الآيات التالية:
)فَالْتَقَطَهُ
آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(
(سورة القصص: آية 8).
)وَاسْتَكْبَرَ
هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا
لَا يُرْجَعُونَ(
(سورة القصص: آية 39).
)فَأَخَذْنَاهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الظَّالِمِينَ(
(سورة القصص: آية 40(
من
خلال الآيات الكريمة يبدو أن الجنود هم منفذون لإرادة فرعون في تتبع بني إسرائيل
وظلمهم، رغم وضوح الظلم على بني إسرائيل، مما جعل هؤلاء الجنود ضمن زمرة المجرمين؛ وهم مشاركون حقيقيون وليسوا مجرد منفذي أوامر
كما يعتقد بعض الناس، في محاولة للتبرير النفسي والهروب من المسؤولية.
اعتمدت
التجربة على ثلاثة اشخاص (المشرف - المشارك - الممثل)؛ دور المشرف هو
الإلحاح على المشارك حتى يكمل التجربة، والتي
كانت تقتضي صعق الممثل بالكهرباء في حالة عدم الإجابة الصحيحة، بغض النظر عن الألم
الواقع على الضحية (الممثل)، وكان على الممثل التظاهر بالألم عندما يتعرض
للصعق الكهربي، على الرغم من أنَّ الصعق غير حقيقي، والمشارك لا يعلم أن
الصعق غير حقيقي، ولا يعلم الغرض الحقيقي من التجربة.
ما
فعله ملجرام هو قياس كمية الألم الذي يمكن أن يسببها شخص عادي لشخص آخر، فقط
بسبب تنفيذ أمر من باحث مشرف على اختبار ذي سلطة مجردة، تتعارض مع مبدأ عدم إيذاء
الآخرين.
مبدأ عدم إيذاء الآخرين هو أحد المبادئ
الأخلاقية الأساسية، فماذا سيحدث عندما يلتقي هذا المبدأ وجهاً لوجه مع السلطة
التي تحاول دفع الشخص للطاعة، رغم تعارض أوامر السلطة مع المبدأ الأخلاقي؟
تمت
التجربة عن طريق إعلان في جريدة يطلب متطوعين نظير مبلغ مالي، للمشاركة في دراسة
تجريها جامعة ييل العريقة، وصاحبة الشهرة الواسعة في الدراسات الأكثر تأثيرًا.
في
البداية وقبل إجراء الاختبار، كان المشرف يخبر المشاركين أن الاختبار يهدف لقياس أثر العقاب في التعلُّم، وهذا الهدف
غير صحيح بالمرة، ولكنَّ إخفاء هدف التجربة الأساسي كان ضرورياً لنجاح التجربة.
يبدأ
المشرف بعمل قرعة وهمية بين المشارك والممثل، بهدف جعل المشارك يعتقد بأن الممثل
أحد المشاركين الحقيقيين، وكانت نتيجة
القرعة دائماً ما تضع المشارك في دور المعلم، وتضع الممثل في دور المتعلم، وهو
المطلوب في التجربة.
أثناء
الاستعداد للتجربة يصرِّح الممثل كجزء من التجربة بأن لديه مشاكل قلبية، ولكن ليست
خطيرة، وتبدأ التجربة بوضع كلٍّ من المشارك والممثل في غرفتين منفصلتين متجاورتين
بحيث يتواصلان بالكلام فقط .
يتم
الاتفاق مع المشارك بأنه سوف يقوم بتوجيه صعقة كهربية للممثل في حالة أخطأ الممثل
(المتعلم)، وكنوع من المصداقية يتم توجيه صعقة كهربية للمشارك شدتها 45 فولت، بوصفه
نموذجاً حقيقياً للصدمات الكهربية التي سوف يتم تعريض الممثل لها .
يجلس
المشارك في الغرفة المعدة له، وأمامه الممثل في الغرفة الأخرى، وأمامه على
الطاولة جهاز الصدمات الكهربية المصمم للتجربة، وله عدد من المفاتيح، وكل مفتاح يصدر صدمة كهربية مختلفة، تتراوح شدة
الصدمات من 30 إلى 450 فولت.
من
خلال ورقة تحتوي على مجموعة كلمات متقابلة، كان يجب على المشارك قراءة هذه الكلمات
كلها على مسامع الممثل، وعندما ينتهي المشارك من قراءتها كانت التجربة تقتضي أن
يعود المشارك ليقرأ كلمة كلمة، ثم يعطي أربع إجابات محتملة، وكان على الممثل
اختيار الإجابة الصحيحة عن طريق ضغط زر أمام الممثل يمثل رقم الإجابة الصحيحة، فإذا
اخطأ المتعلم (الممثل) كان على المشارك (المعلم) أن يخبره بانه اخطأ، ثم يخبره
بشدة الصعقة الكهربائية التي سوف يتلقاها الممثل، ومن ثم يقوم المشارك بضغط الصعقة
الكهربائية، أما إذا أجاب المتعلم فيكون على المشارك الانتقال إلى الكلمة التالية،
وهكذا حتى يحفظ الممثل كل الكلمات المكتوبة، وكان من المفترض أن يتم التدرج في
الصعقات الكهربية كلما أخطأ الممثل.
اعتقد
المشاركون أن الصدمات الكهربائية التي يوجهونها إلى المتعلم حقيقية، بينما في واقع
الأمر هي صدمات مزيفة؛ فقد كان يوجد صوت مسجل لصوت الممثل متأثراً بالصعقة
الكهربائية يصدر بمجرد الضغط على زر الصعقة من قبل المشارك.
بعد زيادة شدة الصعقات يبدأ الممثل (المتعلم) في
الضرب على الجدار الفاصل بين المشارك وبينه عدة مرات، ويشتكي من الوضع الصحي لقلبه،
عند هذه اللحظة عبَّر عدد من المشاركين عن رغبتهم في وقف الاختبار والاطمئنان على
المتعلم، وكثير من المشاركين توقفوا عند شدة 135 فولت؛ مشككين في مغزى الاختبار، وبعض
من المشاركين استمروا في الاختبار بعد أن طمأنهم المشرف بإعفائهم من أي مسؤولية، وبعض
المشاركين كانوا يضحكون بشكل انفعالي عند سماعهم صراخ المتعلم (الممثل).
إذا
أبدى المشارك رغبته في توقف الاختبار في
أي مرحلة كان المشرف يوجه إليه مجموعة من التنبيهات بشكل متسلسل، كالتالي:
1 ـ الرجاء الاستمرار.
2 ـ الاختبار يتطلب منك أن تستمر، استمر رجاء.
3 ـ من الضروري أن تستمر.
4 ـ ليس لديك خيار، يجب عليك الاستمرار.
فإذا
أصر المشارك على رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم وقف الاختبار ، وإلا فإن قيام المشارك بتوجيه الصعقة ذات الشدة 450 فولت
يعتبر نهاية الاختبار ، ومع تنفيذ المشارك للصعقة الأخيرة يتم التوقف.
نتائج
التجربة جاءت كالتالي :
مجموعة
التجارب الأولى التي أجراها ملجرام وصل فيها 65 % من المشاركين إلى الصعقة القصوى
وهي 450 فولت، رغم أنً كثيراً من المشاركين أعرب عن عدم ارتياحه لهذا الأمر، وكل
واحد توقف لحظات وأبدى شكوكاً نحو الاختبار، بل إن بعض المشاركين عبر عن رغبته في
إرجاع القيمة النقدية التي تسلمها نظير الاختبار، ولكنْ لم يُعلن أي مشارك رغبة
حاسمة في التوقف عن الاختبار قبل الوصول
إلى 300 فولت.
تم
إجراء الاختبار في أماكن مختلفة من العالم،
وكانت النتيجة مشابهة للنتيجة الأولى بشكل كبير، كما بينت التجربة أنَّ عدد
المشاركين المستعدين للاستمرار حتى الصعقة الأخيرة ترواح ما بين 61-66%، بغض
النظر عن زمان ومكان الاختبار.
لوحظ
أثناء الاختبار أنه لم يطلب أحد من المشاركين الذين رفضوا الاستمرار في
الاختبار إلغاء الاختبار وإيقافه، ولم يقم
أي شخص من المشاركين بمغادرة غرفة الاختبار للتحقق من سلامة الشخص المتعلم
(الممثل) دون طلب إذن بذلك.
النتائج من وجهة نظر ملجرم كانت مقلقة، إذ تُرجِّح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لكي تستطيع إبعاد الإنسان عن القسوة، فعندما تصدر الأوامر من سلطة فاسدة فإن نسبة كبيرة من الناس مستعدون للتنفيذ، دون الأخذ بالاعتبار طبيعة الأمر، ودون حدود يفرضها الضمير، طالما أنَّ الأوامر صادرة من سلطة شرعية حسب المتلقي.
نلاحظ
من خلال هذه التجربة والتي صُممت بالأساس لقياس مدى الانصياع للسلطة مقابل المبادئ
الأخلاقية، أنه بمجرد الحصول على تطمينات بأن المشاركين لن يكونوا معرضين للمساءلة
أدى ذلك إلى زيادة نسبة المشاركين الذين وصلوا للصعقة الأخيرة.
إنها
النفاثات في العقد التي ذكرها ربنا في سورة الفلق، فشعور الإنسان بأنه غير مسؤول، وأنه
بعيد عن المراقبة والمحاسبة، جعله يزداد عداوة، وعزز لديه صفة الشر.
ولو
تتبعنا التجربة من بدايتها لرأينا كيف تحول احتياج تعليم شخص إلى نوع من الشر، رغم
خيرية هذا الاحتياج، فلا شك أنَّ الحاجة لتعليم شخص ما هي حاجة نبيلة، فإذا
اعتبرنا أن التعليمات التي تلقاها المشاركون للتعامل مع المتعلم بالعقاب، وطرق
تدرج العقاب، هي خبرات المعلم التي اكتسبها من ثقافته وبيئته ونشأته، بحيث استدعى
هذه الخبرات في التعامل مع المتعلم؛ فإن إعفاءه من المسؤولية، وتلقيه تطمينات بأنه
لن يلاحق، عززت هذه السلوك العدواني (النفاثات في العقد)، وحولت احتياجاً نبيلاً
إلى مصدر من مصادر الشر.
لكن
ما الذي يجعل بعض المشاركين يقرر عدم استكمال الاختبار، وبعضهم الآخر يستكمل الاختبار ويصل إلى الصعقة
القصوى؟
من
وجهة نظري إنَّ هذا التصرف هو أساس حرية
الاختيار لدى الإنسان، والذي وصفه ربنا في سورة الشمس: )وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)( (سورة الشمس: آيات7-8)، فالنفس لديها حرية
الاختيار بين التقوى والسلوك القويم، والجنوح والانحراف، ودون هذه الحرية لا معنى
لوجود الإنسان من الأساس، وإذا كانت النفس في بعض مواطنها تأمر الإنسان بالسوء
لتحقيق غرض ما؛ فإن النفس اللوامة التي تَلومه وتُقرِّعه على الانحراف -كما ذكر
القرآن- حاضرة حتى تعيده إلى مربَّع الخيرية مرة أخرى:
)وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(
(سورة البلد : آية 2)
النفس
الأمَّارة بالسوء تقف حائطاً أمام النفس اللومة، فإذا تغلب هذا السوء، وأخذ في
الظهور؛ فإن التربية والثقافة والتعليم له دور في إذكاء هذا السوء أو في تثبيطه، وكذلك
القوانين والروابط المجتمعية عليها دور آخر، في تثبيط وإخماد السلوك المنحرف، ولكن إذا بزع السلوك المنحرف، ووجد تربة خصبة، من
خلال تربية وتنشئة سيئة، ووجود مجتمع مهلهل؛ فإن المحصلة النهائية هي شخص كتلة من
الشر تمشي على الأرض؛ المتمثل في الحاسد.
من
هنا نجد أنَّ الأشخاص الذين فضلوا الانسحاب تغلبت نفوسهم اللوامة، واستطاعت إيقاف
سلوكٍ كان ظاهره الإضرار بالمتعلم (الممثل)، بينما لم يتوافر نفس القدر من اللوم
للآخرين؛ وتمادوا في سلوكهم رغم ظهور علامات الضرر على المتعلم.
إننا
أمام تفاعلات معقدة ومتشابكة، منها ما هو خاص بالنفس وحرية الإرادة، ومنها ماهو
متعلق بالمجتمع والبيئة؛ ليعطي بالنهاية سلوكَ خيرٍ أو سلوك شر.
التجربة
الثانية: تجربة سجن ستانفورد
في
أغسطس 1971 تم إجراء تجربة سجن ستانفورد بجامعة ستانفورد الشهيرة؛ في محاولة
لاستقصاء الآثار النفسية المرتبطة بالاستجابة الإنسانية للآسر، قام بالتجربة فريق
بحثي بإشراف الدكتور فيليب زيمباردو، وقد قام بدور السجناء والحراس
متطوعون؛ في تجربة لمحاكاة الحياة في السجن بشكل كامل.
تمت
التجربة كسابقتها عن طريق الإعلان في الجرائد عن طلب متطوعين بمقابل مادي؛
للمشاركة في محاكاة سجن مدتها أسبوعان، وتم اختيار 24 متطوعاً؛ بناءً على الصحة
البدنية والاستقرار النفسي، وكان غالبية المتطوعين من العِرق الأبيض، ومن الطبقة
المتوسطة، وجميعهم طلاب في المرحلة الجامعية.
تم
تقسيم المجموعة إلى مجموعة سجناء، ومجموعة حراس بالتساوي، عن طريق القرعة دون أيِّ
تدخل بشري، وتم إعداد السجن في قبو في جامعة ستانفورد، وقد وضع البروفيسور زيمباردو
مجموعة من التعليمات والقيود على المشاركين؛ لمنع الاختلالات في الشخصية، وانتفاء
الهوية الفردية، ومنع الهذيان.
تم
تسليم الحراس عصا شرطة، وملابس عسكرية اختارها المشاركون بأنفسهم من محل بيع ملابس
عسكرية، بالإضافة إلى نظَّارة عاكسة؛ لتجنب التواصل البصري مع المساجين.
كان
الحراس يعملون على شكل دوريات، بخلاف المساجين المتواجدين بشكل دائم، إذ كان
مسموحاً للحراس بالعودة لمنازلهم بعد انتهاء دوامهم المتفق عليه، لكنَّ اللافت
للنظر أنَّ بعض الحراس تطوعوا لساعات إضافية، رغم أنَّ هذا الوقت دون أجر!
أما
بخصوص المساجين فكان رداؤهم فضفاضًا من دون ملابس داخلية، وصنادل مطاطية، وقد تم
الرمز لكل مسجون عن طريق رقم معين، وتم وضع الأرقام على ملابسهم، بالإضافة لذلك
ارتدى المساجين قبعات من البلاستيك؛ لكي تبدو رؤوسهم محلوقة بالكامل، وتم وضع
سلسلة عند الكاحل كمنبه دائم لهم بأنهم مسجونون ومضطهدون.
قبل
بداية التجربة تم جمع الحراس لحضور جلسة تمهيدية عن التجربة، لم يتلقوا فيها أيَّ
تنبيهات أو خطوط، باستثناء عدم السماح لهم باستخدام العنف الجسدي، وتم تحفيزهم
بالقول إنَّ إدارة السجن تقع على عاتقهم، وأنَّ لهم أن يديروه كما يشاؤون.
ملخص
ما قاله البروفيسور زيمباردو للحراس كان:
«يمكنكم أن تولِّدوا إحساساً بالخمول لدى السجناء،
ودرجة ما من الخوف، ومن الممكن أن توحوا لهم بشيء من التعسف يجعلهم يشعرون بأنكم
أنتم ونحن والنظام جميعاً نسيطر على حياتهم، سوف لن تكون لهم خصوصيات ولا خلوات، سنسلبهم
من شخصياتهم وفرديتهم بمختلف الطرق. بالنتيجة سيقود كل هذا إلى شعورٍ بفقدان
السيطرة من طرفهم، وبهذا الشكل سوف تكون لنا السلطة المطلقة، ولن تكون لهم أي سلطة»
في
المقابل قيل للسجناء أن ينتظروا في بيوتهم حتى يحين موعد استدعائهم دون تحذير، وتم
اتهامهم بالسطو المسلح، واعتقالهم من قبل قسم شرطة حقيقي، من خلال اتفاق ومساعدة
قدَّمها القسم في هذه المرحلة فقط من الاختبار.
بمجرد
اعتقال السجناء تم إخضاعهم لإجراءات اعتقال مطابقة تماماً للإجراءات الحقيقية، بما فيها التسجيل وأخذ
البصمات والتقاط الصور، كما تم تلاوة حقوقهم عليهم وهم تحت الاعتقال، ثم نقلهم إلى
السجن المعد للاختبار، ومن ثم تم تفتيشهم عراة وتنظيفهم ومنحهم هويات جديدة.
مر
اليوم الأول في التجربة دون أي شيء يستحق التعقيب، بينما في اليوم الثاني بدأ
المساجين في تنفيذ عصيان، فتطوع الحراس للعمل ساعات إضافية للقضاء على العصيان
والتمرد، دون أي إشراف من المسؤولين عن التجربة، وحاول الحراس تفريق السجناء
وأخذوا في تحريض بعضهم ضد بعض، من خلال تقسيم السجناء إلى مجموعة جيدين ومجموعة
سيئين، ووضع كل مجموعة في غرفة منفصلة؛ لكي يوهموا السجناء أن بينهم مخبرين تم
زرعهم بطريقة سرية بين السجناء، وقد نجحت خطة الحراس واختفى التمرد، ولم يظهر بعد
ذلك أي تمرد بشكل كبير.
تحول
السجن بشكل سريع إلى مكان منفِّر وغير صحيٍّ، حتى إنَّ الدخول إلى الحمامات أصبح
امتيازاً يمكن أن يتم حرمان السجين منه، وأُجبر المساجين على تنظيف الحمامات
بأيديهم دون استخدام قفازات، وكثيراً ما كان يتم حرمان السجناء من الطعام بوصفها
وسيلة للعقاب، وأُجبر السجناء السيئون على النوم عراة في الزنازين، وتم حرمانهم من
الفرش والوسائد، وتعرض السجناء للإذلال والتحرش الجنسي من قبل الحراس.
يقول
البروفسيور زيماردو إنَّ السجناء استجابوا بثلاث طرق: إما المقاومة بنشاط، أو الانهيار، أو الرضوخ بالطاعة (حالة
السجين المثالي).
في اليوم الرابع من التجربة سرت إشاعة عن خطة
فرار يقوم عليها المساجين، وهنا حاول دكتور زيمباردو والحراس أن يحوِّلوا
التجربة إلى حقيقة، عن طريق الاستعانة بمبنى سجن للشرطة الحقيقية في المدينة؛
بهدف ضمان الأمن,. لكنَّ قسم الشرطة رفض الفكرة.
مع
تقدم التجربة زاد السلوك العدواني والسادي عند بعض الحراس، وخصوصاً في أوقات الليل
إذ ظنُّوا أن الكاميرات لا تعمل بالليل، يقول المشرفون على التجربة إنَّ واحداً من
كل ثلاثة حراس أظهر سلوكاً ساديًا حقيقياً، وعندما تم إيقاف التجربة لاحظ المشرفون
على التجربة أن بعض الحراس أبدوا انزعاجاً من إيقاف التجربة قبل موعدها المحدد.
يقول
دكتور زيمباردو إن المشاركين تقمصوا أدوارهم تماماً، فقد عُرض على السجناء أنَّ بإمكانهم تقديم
طلبات لتخفيض مدة السجن مقابل تخفيض الأجر المتفق عليه، فوافق أغلبية السجناء، وتقدموا
بطلبات لتخفيض المدة مقابل تخفيض الأجر، ولكن تم رفض طلباتهم، لكن لم يقرر أيٌّ من
السجناء الانسحاب من الاختبار، بالرغم من
أنهم لن يخسروا أكثر مما تقدموا هم بالتنازل عنه سلفاً؛ وهو الأجر المتفق عليه، مما
أثار الاستغراب لدى المشرفين على التجربة.
ظهرت
اضطرابات عاطفية على السجناء، وشاعت بينهم مظاهر البكاء، وعانى اثنان منهم صدمات شديدة؛ تطلبت استبدالهم وإعفاءهم من
التجربة.
بعد
هذا التغيٌّر الدراماتيكي في سلوك السجناء وسلوك الحراس، قرر البروفيسور زيمبادرو
إيقاف التجربة قبل الموعد المحدد.
تعتبر
هذه التجربة عرضاً لأنماط الطاعة والانصياع التي يبديها الناس، عندما يتعرضون
لنظام إيدلوجي مدعوم اجتماعياً ومؤسسياً.
ومن خلال تجربة ملجرم، وتجربة سجن ستانفورد، أمكن
إثبات أن الواقع أو البيئة هي ما تُسبب سلوك الأفراد أكثر من أي شيء موروث في
شخصيتهم.
كلٌّ
من التجربتين يدعم فكرة النفاثات في العقد، والتي ذكرها كتاب الله، إذ يبدو جلياً
تأثير السلوك وتَحوُّله إلى سلوك عدواني في غياب سلطة ورقابة حقيقية، وأنَّ أيَّ
تطمينات بعدم المسؤولية هي نوع من فك عرى روابط المجتمع، وحافز كبير على تعزيز
سلوك الشر.
أعتقد
الآن أن قراءتنا لسورة الفلق سوف تختلف تماماً بعد فهم نظرية الشر القرآنية :
)قُلْ أَعُوذُ
بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا
وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ
إِذَا حَسَدَ (5)(
(سورة الفلق).
**تم بحمد الله**
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق