Translate

الفصل الخامس - "طيراً أبابيل"

الفصل الخامس

"طيراً أبابيل"

 

الفيل الذي ذكر في كتاب الله, وليس له وصف سوى حيوان الفيل المعروف,  ثم نسجت قصة حول هذا الفيل ينتابها كثيرٌ من الشكوك, ثم إسقاط كل هذا على كتاب الله؛ جعل من هذه السورة القرآنية تبدو للباحثين وكأنها أسطورة, وانطلق الباحثون من تكذيب رواية جيش أبرهة والتشكيك في صحة وقائعها كما وردت في كتب التفسير, إلى تكذيب كتاب الله واتهامه بأنه غير دقيق, فهل رؤية التفسير عن سورة الفيل كما وصلتنا صحيحة؟ أم أنّ هذه السورة تحمل نظرية معرفية أعمق بكثير من مجرد سرد واقعة حسب فهم الناس ومعارفهم المتواضعة.

 

(الْفِيلُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلُ، لَهُ ذَنَبٌ وَبِيلٌ، وَخُرْطُومٌ طَوِيلٌ)

هذه بعض النصوص الذي يقول بعض المحققين إنها منسوبة لمسيلمة الكذاب؛ محاولا تقليد القرآن الكريم.

 رغم سذاجة التعبيرات المذكورة، والتي للأمانة تبدو غريبة عن لسان العرب، وما عهدناه من تعبيرات شعرية قوية، وأنّ مثل هذه التعبيرات من وجهة نظري لو قيلت على أسماع العرب آنذاك لأصبحت مجال تندر وسخرية، إلا أنّ وجود مثل هذه النصوص تعطينا لمحةً كيف ينظر البعض لكتاب الله.

مقارنة مقولات مسيلمة - إلى آيات القرآن الكريم- هي مقارنة تبدو شعريةً ساذجة  لا تغوص ولا تعبر عن كتاب الله، بل هي أقرب لمقارنة نص أدبي بنص أدبي، لا يأخذ في حسابه الحقائق والمعارف التي يعبر عنه النص بشكل حقيقي. التحدي الذي جاء في كتاب الله للناس أن يأتوا بسورة من مثله ليس تحديا بسيطاً، ولو ظنت العقول أنّ التحدي هو بسبب البلاغة المعروفة لدى العرب فربما يأتي شخص يدعي أنه استطاع أن يأتي بآيات وسور، كما جاء في القرآن. )وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( (سورة البقرة: آية 23 ).

هناك بعض المشككين في بلاغة القرآن، بل من هؤلاء من ادعي أنّ هناك نصوصاً أكثر بلاغة من النصوص في كتاب الله.

هذا التشكيك الذي يقوده بعض المحسوبين على اللغة يبدو في كثير من الأحيان منطقياً؛ بسبب تبّني النظرية الاصطلاحية في فهم ألفاظ كتاب الله، ولكن عن طريق استخدام النظرية التوقيفية، وفهم مدلول كلمة [عربي] في كتاب الله سوف يزول كل لبس.

 فكتاب الله ليس كتاباً للشعر أو النثر أو للنصوص الأدبية، وإنما هو كتاب نظريات علمية يعبر عن حقائق مطلقة، وهذا هو السرّ الذي لا يمكن للبشر أنْ يأتوا بمثله؛ لأنه –ببساطة- لا يستطيع كائن من كان وصف شيء وصفاً دقيقاً إلا العالم بصفات وخصائص وعلاقات هذا الشيء. (انظر الجزء الثاني - الفصل الأول).

قَصْرُ كتاب الله على مسألة النصوص وحبكتها، وقياس هذه النصوص على ما أنتجه الناس، لا يمكن أن يكون حكما منصفا؛ لأن هذا الحكم ينطلق من مسلمات بشرية في اللغة لفهم كتاب الله، بينما كتاب الله نفسه يقول: إنّه يجب الانطلاق منه ذاتياً، وفهم ألفاظه العربية التي تخبر عن نفسها وحقيقتها من خلال كتاب الله ذاته.

هذا المنهج هو الذي نستخدمه، وهو الذي استطعنا من خلاله استنباط كل هذا الكم من المعارف، وهو القادر على التنبؤ بمعلومات علمية لم تُكتشف بعد، بل قادر على قيادة الإنسان لفهم الكون، من خلال فهم اللفظ القرآني بشكل صحيح. 

سورة الفيل نموذج لهذه النظريات المعرفية التي يزخر بها كتاب الله، والتي تخبرنا بمعلومات غاية في الدقة، وسوف تخبرنا بهذه الطريقة بمعلومات ومعارف لا حدود لها، فقط إذا حاولنا فهم كلماتها، واستطعنا تحليل ألفاظها بشكل منهجي وعلمي. الكلمة الواحدة تحمل من المعرفة ما يمكن أن يفتح لنا أبواباً لا حصر لها، في فهم هذا الكون وفهم قوانينه.

لا يمكن الادعاء أبداً أنّ أي محاولة من محاولات فهم اللفظ القرآني قد وصلت للنهاية، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولكن ما يمكننا قوله أننا فتحنا طريقاً لفهم اللفظ القرآني بشكل علمي ومنهجي، ينتظر باحثين ومدققين لاستخراج الكنوز المعرفية خلف كل كلمة وكل تعبير وكل قصة.

هذه السورة العظيمة مثال صارخ لما يمكن أن يسببه اعتناق نظرية الاصطلاح، حيث فهم اللفظ كما فهمه الناس في القديم، وما يمكن أن يكون قد طرأ عليه من تحريف وتزييف مقابل فهم اللفظ القرآني، من خلال وروده وتحليله في كتاب الله نفسه.   

الفيل الذي ذكر في كتاب الله، وليس له وصف سوى حيوان الفيل المعروف،  ثم نسجت قصة حول هذا الفيل ينتابها كثيرٌ من الشكوك، ثم إسقاط كل هذا على كتاب الله؛ جعل من هذه السورة القرآنية تبدو للباحثين وكأنها أسطورة، وانطلق الباحثون من تكذيب رواية جيش أبرهة والتشكيك في صحة وقائعها كما وردت في كتب التفسير، إلى تكذيب كتاب الله واتهامه بأنه غير دقيق، فهل رؤية التفسير عن سورة الفيل كما وصلتنا صحيحة؟ أم أنّ هذه السورة تحمل نظرية معرفية أعمق بكثير من مجرد سرد واقعة حسب فهم الناس ومعارفهم المتواضعة.

دعونا في البداية نستعرض ما قيل عن هذه السورة العظيمة من خلال التفسيرات التقليدية، ونعرج قليلاً على التفسيرات غير التقليدية:

✦ في تفسير البغوي جاء ما نصّه: 

« )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ( كانت قصة أصحاب الفيل -ذكره الواقدي-:

ثم إنّ أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله ، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها مستخفياً، فدخلها ليلاً فقعد فيها وتغوط بها، ولطخ بالعَذِرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعَذِرة ؟ فقيل له : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك: ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم يُر مثله عظماً وجسماً وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة من الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه الفيل، فسمعت العرب بذلك فأعظموه، ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن -يقال له : ذو نفر- بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر ، فقال: أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً.

ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، وأخذ نفيلاً، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة؛ فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك، ليس لك عندنا خلاف، وإنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال، مولى لهم، فخرج حتى إذا كان (بالمغمس) مات أبو رغال، وهو الذي يُرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة، يقال له : الأسود بن مسعود ، على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.

ثم إن أبرهة بعث حباطة الحميري إلى أهل مكة، وقال: سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم، فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم .

فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ولا لنا به يد إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له، فإنّ هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم- عليه السلام-، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة .

قال: فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب، فأتاه فقال : يا ذا نفر، هل عندك من (غناء) فيما نزل بنا؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً، ولكن سأبعث إلى أنيس، سائس الفيل، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس، فأتاه فقال له: إنّ هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي، أحب، ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة، الذي يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال ، يستأذن إليك وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه، ثم قال لترجمانه قل له : ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، وقد زهدت فيك، قال [عبد المطلب] : لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل، وإنّ لهذا البيت ربا سيمنعه ، قال ما كان ليمنعه مني، قال فأنت وذاك ، فأمر بإبله فردت عليه.

فلما ردت الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال، تخوفاً عليهم من معرة الجيش، ففعلوا ، وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول: يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا، إنّ عدو البيت من عاداكا،  امنعهم أن يخربوا قراكا.

ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس، قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه وهيأ فيله، وكان فيلاً لم يرَ مثله في العظم والقوة، ويقال كان معه اثنا عشر فيلاً.

فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال: ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، فبرك الفيل فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم .

وخرج نفيل يشتد حتى صعد في الجبل، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجران في رجليه، وحجر في منقاره، أمثال الحمص والعدس، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك، وليس كل القوم أصابت، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل [مهلك].

بعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل يتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.

قال الواقدي: وأما محمود -فيل النجاشي- فربض ولم يسر على الحرم فنجا ، والفيل الآخر شجع فحصب.

اختلفوا في تاريخ عام الفيل؛ فقال مقاتل: كان قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين سنة. وقال الكلبي: بثلاث وعشرين سنة .

و الأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قوله - عز وجل -: )ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل( ؟ قال مقاتل : كان معهم فيل واحد . وقال الضحاك: كانت الفيلة ثمانية . وقيل اثنا عشر، سوى الفيل الأعظم، وإنما وُحد لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم» انتهى التفسير.

هذه قصة أصحاب الفيل كما يرويها أصحاب التفسير، ويجب ألا يفوتنا اختلاف المفسرين حول عام الفيل نفسه، والذي قال عنه بعضهم: إنّه كان قبل مولد الرسول بـ25 عاماً، وقال بعضهم: بل كان قبل مولد الرسول بـ 40 عاماً، ولكنّ الرواية المتفق عليها أنّ عام الفيل كان عام مولد الرسول.

كذلك هناك اختلاف على عدد الفيلة المصاحب لحملة أبرهة، هل هي واحد أم ثمانية أم اثنا عشر؟.

هذا الاختلاف إنما هو دليل على محاولات المفسرين تفسير السورة رغم صعوبة الحصول على المعلومات، وفي ظل مسميات تعتمد على لسان العرب، وليس على اللسان العربي الذي جاء به القرآن.

بعض المعاصرين ونتيجة لأبحاث ترفض واقعة الفيل من أصلها؛ حاول تفسير السورة الكريمة على أنها تقصد قوم لوط.

يستند هؤلاء الباحثين على أنّ لفظ [فيل] تعني ضعف الرأي وهزاله، فيقولون: إنّ أصحاب الفيل تعني أصحاب الرأي الضعيف، أو الرأي السخيف، ثم يسترشدون بالحجارة  التي  أهلكت أصحاب الفيل ومقارنتها بالحجارة التي أهلكت قوم لوط، وعلى ذلك يقولون: إنّ سورة الفيل تقصد قوم لوط.

الحقيقة أنّ سورة الفيل لا تمت بصلة للقصة التي تربينا عليها، وهي قصة هدم الكعبة، ولدينا بحث تاريخي مفصل عن حادثة الفيل هذه، نُشر في مجلة الرسالة العدد  349 عام 1940م للدكتور إسماعيل أحمد أدهم يفند فيه الحادثة تاريخياً.

يقول الدكتور أدهم: إنّ الرأي كان سائداً في الدراسات التاريخية على أنّ المراجع اليونانية لم تذكر شيئاً عن علاقة أهل الحبشة بأرض الحجاز، ولا عن حادثة الفيل؛ غير أنّ المستشرق "تيودور نولدكة" أجهض هذا الادعاء، عندما نشر أبحاثاً أشارت إلى أنّ المؤرخ اليوناني "بروكوب" قد ذكر دخول الأحباش أرض الحجاز بتحريض من الروم.

وغياب المصادر التاريخية المعاصرة عن المؤرخين العرب، لفترة طويلة جعل المؤرخين العرب يتناولون أحداث العصر القديم معتمدين على معارفهم الشخصية، مما جعلهم ينسجون حولها أساطير وحكايات لا أساس لها من الصحة.

 على هذا الأساس تحتل المصادر التاريخية اليونانية مكانةً مرموقةً تاريخياً؛ بسبب معاصرتها للأحداث التي جرت، إذ يمكن فهم طبيعة الأحداث على ضوءٍ من هذه الدراسات.

في السنة الخامسة من حكم الإمبراطور "جوستيان" عام 530م -حسب المؤرخ اليوناني "بروكوب"- استولى الأحباش على اليمن، وبعد استقرار الأحباش في اليمن أرسل الإمبراطور جوستيان سفيراً للنجاشي يعرض عليه عقد حلف ضد الفرس، فيكون دور الأحباش هو مواجهة الفرس من جهة بلاد العرب الموازية لحدود الجزيرة العربية، كان هذا الحلف بمنزلة متنفس للإمبراطورية الرومانية، يتم بموجبه تخفيف الضغط عن الروم، خلال صراعهم مع الفرس على تخوم الحدود الفاصلة بين الامبراطوريتين، وهذه الواقعة حسب المصادر التاريخية كانت عام 540 م.

كانت الصلات بين  الإمبراطور والنجاشي تعتمد على الصلة الدينية بين الاثنين؛ مما شجع الإمبراطور جوستيان لطلب مساعدة النجاشي  في حربه ضد الفرس. 

فكرة مساعدة الروم من خلال مهاجمة الفرس عن طريق الأحباش لم تكن فكرة قابلة للتطبيق؛ بسبب طبيعة التضاريس في جزيرة العرب، التي تمنع تقدم الأحباش لمهاجمة الفرس على حدود جزيرة العرب، بالإضافة إلى ذلك لم يكن للأحباش أسطولٌ بحري قوي يمكنهم من خلاله مهاجمة الفرس عبر الخليج الفارسي وقتها.

أدرك النجاشي هذه الحقيقة فظل يُسوّف مرةً ويعتذر مرةً من الإمبراطور في تقديم العون، ومع اشتداد الحرب بين الروم والفرس أرسل الإمبراطور رسولاً إلى النجاشي يطلب منه المساعدة، فاضطر النجاشي أنْ يطلب من عامله على اليمن وهو "أبرهة" أنْ يرسل جزءاً من قواته شمالاً؛ على زعم التحرك للتعرض للحدود الفارسية، والطريق الطبيعي الممتد من اليمن وحتى حدود فارس يمر بمكة، وينتهي عند وادي الرمة أحد روافد الفرات قديمًا.

بدأ الأحباش في التحرك شمالاً، وعند وصولهم إلى الحجاز كان التعب قد نال منهم، وفشا فيهم المرض والجدري الذي أفني معظم الرجال وفتك بالجنود، فاضطر الأحباش أن يسحبوا قواتهم، ويعتذروا بخسائرهم إلى الروم، ويقفوا عند هذا الحد.  هذا التحرك  العسكري الذي نفذه الأحباش، بجيش ضخم بالنسبة إلى العرب وقتها؛ أرعب العرب، واعتقدوا أنّ الأحباش يبيتون لهم الشر، ولما أصيب الجيش بالجدري وفتك المرض بالجنود أيقن العرب أنّ ذلك من أثر التدخل الإلهي، ومن هنا نسج العرب رواياتهم حول واقعة الفيل. 

من ناحية أخرى يروي الدكتور الأدهم في بحثه التاريخي، أنّ الرواية التاريخية في المصادر العربية التي تحكي تعرض أبرهة للكعبة تقول: إنّ السبب وراء ذلك هو بناء هيكل جديد في صنعاء اليمن، ورغبة أبرهة في انصراف الناس عن الكعبة. غير أنّ المؤرخ "أوزيل" في بحثه عن تاريخ الكنيسة يتناول بالذكر النصارى من العرب، وقساوستهم أصحاب المأثر، ولا يذكر أي شيء عن أبرهة أو بناء هيكل صنعاء، ومن المعروف أنّ المسيحية كانت منتشرة في نجران، وفي بعض مناطق اليمن، وقد كان في اليمن قساوسة في عهد الأحباش، وربما كان لهؤلاء القساوسة كنيسة وهيكل قد اعتنوا به بما يليق بمكانتهم بوصفهم نصاري حاكمون للبلاد وقتها، مما أوهم العرب بقصة التنافس بين الهيكل والكعبة، ولو فرض أنّ أبرهة أراد الناس أن تحجّ إلى هيكله فسوف يكون الأمر مقصوراً على النصارى فقط، وهؤلاء النصارى منصرفون عن الكعبة بحكم شعائرهم، ولو أنّ هذا الحادث كان بمنزلة تبشير للعرب فكان لابد من ذكر حادثة كهذه في كتب الكنيسة الشرقية.

على ذلك يرى الدكتور الأدهم في بحثه: أنه لا محل لقبول ادعاء رواة العرب عن سبب حملة أبرهة في بلاد الحجاز.

اللافت للنظر ذلك الاتفاق بين رواة العرب على تسمية حملة أبرهة بسفر الفيل؛ وذلك بسبب الاعتقاد أنّ الحملة كانت تضم عدداً من الفيلة، وكثير من المؤرخين يميل  إلى إنكار وجود الفيلة في حملة أبرهة؛ بسبب طبيعة هذا الحيوان الذي يحتاج لكميات كبيرة من المياه، والتي يصعب بل يستحيل معها تسيير الفيلة في صحراء نجران في ظل قلة وجود الماء.

عندما تقدم الأحباش شمالاً، وما كادوا يقتربون من مكة حتى ألمّت بهم كارثة أودت بحياة كثير من الجنود، وبعض المراجع العربية ترجح أن تكون الكارثة هي مرض الجدري.

يري الباحث أنّ قصة تعرض الأحباش لمكة وهم في طريقهم إلى فارس، وأنّ القصد منها هدم الكعبة وصرف الناس عن البيت الحرام؛ ما هي  إلا أسطورة نشأت بعد ظهور الإسلام وأصبحت الكعبة قبلة المسلمين.

مما لا شك فيه أنّ ارتباط قصة الفيل بميلاد الرسول أعطى زخماً إضافياً لقصة الفيل، وجعل هلاك جيش أبرهة معجزةً تبشّر بميلاد الرسول الكريم، وتصبح دليلاً مادياً على نبوة رسول الله.

من خلال التتبع التاريخي لتوقيت حملة الأحباش التي كانت عام 540 م، وميلاد الرسول صلوات ربي عليه كان عام 570 م،  تبدو الصلة بين الواقعتين مقطوعة.  رأينا اختلاف المفسرين في تحديد توقيت حملة الفيل، وعلى سبيل المثال يقول البغوي: إنّ سفر الفيل حدث قبل ميلاد الرسول بنحو أربعين سنة، ومحمد بن السائب الكلبي  يذكر أنّ سفر الفيل كان قبل ميلاد الرسول بثلاث وعشرين سنة.

من خلال المصادر التاريخية نجد أنّ خلفاء أبرهة حكموا اليمن حوالى 31 سنة، وكثيرٌ من المصادر العربية تقول إنّ الرسول وُلد بعد خمسين سنة من استيلاء الأحباش على اليمن، وأنّ الأحباش تمّ طردهم بعد عامين من ميلاد الرسول، وهذا يثبت أنّه لا علاقة بين مَقدم حملة أبرهة وميلاد الرسول.

بعد هذا التحقيق التاريخي نجد أنّ حملة الفيل وفكرة هدم الكعبة، وربط ذلك بميلاد الرسول؛ تبدو رواية ضعيفةً لا تؤيّدها الدلائل التاريخية، فضلاً عن الدلائل المنطقية والعقلية.

بالإضافة إلى ما سبق هناك بعض النقاط لابد أن نشير إليها:

النقطة الأولى: هي أنّ سورة الفيل تتحدث عن هلاك أصحاب الفيل، بينما حتى الروايات العربية والإسلامية تقول إنّ أبرهة نفسه عاد إلى اليمن ببقية جنوده؛ فإذا كان هذا الأمر عقاباً لأبرهة من الله كما يعتقد المفسرون، فكيف نجا أبرهة نفسه وعاد إلى اليمن، برغم أنه هو العقل المدبر وهو القائد؟

قذف الجيش بحجارة وكأنها عقاب إلهي لا تستقيم ونجاة أبرهة نفسه وباقي جيشه، ولكنّ هلاك أو إبادة الجيش بسبب الجدري أو تفشي الطاعون هي الرواية الأكثر تماسكاً.

النقطة الثانية: هي أنّ الكعبة وقتها كانت تحت إمرة المشركين، وهؤلاء المشركون كانوا قد نصبوا حول الكعبة عشرات الأصنام، وأبرهة كما تروي كتب التاريخ من النصارى ومن أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا شك هم أحقُّ بالله من المشركين عبّاد الأصنام بنص كتاب الله، فكيف يتم إهلاك أهل الكتاب مقابل مشركين وكفار يعبدون الأصنام؟

النقطة الثالثة: هي أن الكعبة دُمرت وهُدّمت أكثر من مرة في التاريخ الإسلامي نفسه، ولم نرى طيراً أبابيل يرمي المجرمين الذين هدموا الكعبة وأحرقوها؛ فقد ضرب الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة بالمنجينق خلال حربه مع عبد الله بن الزبير، وكذلك فعل  الطاهر القرمطي  وهدم الكعبة، وقتل ما يقرب من ثلاثين ألف حاج، وقال قولته الشهيرة: «أنا، أنا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا»، لقد فعل القرامطة الأفاعيل بالكعبة، وردموا بئر زمزم بجثث القتلى، واستبقوا الحجر الأسود لسنوات، ومع ذلك لم نرى طيراً أبابيل ترميهم بشيء.

عندما نضع كل هذه المعطيات جنباً إلى جنب سوف ندرك أنّ قصة هدم الكعبة من خلال جيش أبرهة هي مجرد أسطورة، وبسبب سورة الفيل واعتقاد المفسرين أنها تخص هذه الحادثة، أصبح هذا الاعتقاد راسخاً لدى المسلمين، بأنّ سورة الفيل تصف حادثة محاولة هدم الكعبة وانتقام الله من جيش أبرهة.

النقطة الرابعة والأخيرة: هي أنّ السورة لا تحوي أيّ إشارة للبيت الحرام أو للكعبة؛ حتى نستطيع الجزم أنّ أحداث السورة تدور حوله، فكيف لا يكون هناك أي ذكر للمحور الرئيس الذي دارت حوله القصة؛ وهو البيت الحرام؟

 من خلال المنهج الذي نستخدمه في فهم وتحليل اللفظ القرآني سنجد أنّ سورة الفيل تبوح لنا بنظرية معرفية؛ أشمل وأعمق بكثير من مجرد حادثة عليها شكوك قبل أنْ يأذن الله للرسالة الخاتمة أنْ تظهر للوجود.

مفاتيح هذه السورة العظيمة تكمن في كلمة الفيل التي سميت السورة باسمها، وكما نحب أنْ نقرّر دائماً أنّ الأسماء في كتاب الله أسماء حقيقية، تصف المسمى وتعبر عن خصائصه، وعلى ذلك فإنّ مسمى الفيل هو أحد هذه الألفاظ المليئة بالمعرفة.

مدلول كلمة الفيل:

لفظ الفيل ذُكر في كتاب الله مرةً واحدة، وهي التي نحن بصددها في سورة الفيل؛ مما يجعل مسألة تتّبع اللفظ غايةً في الصعوبة.

في قاموس اللغة جذر كلمة [فيل] تعني الضعف والاسترخاء، ويقال فيل رأيه؛ أي ضعف رأيه.

مسألة ضعف الرأي لابد أنْ نتوقف عندها، ونربطها بالجذر الثنائي للكلمة؛ لمحاولة فهم كلمة [فيل] ماذا تعني:

إنسان ضعيف الرأي: يعني رأيه غير ذي قيمة، أو رأيه متروك، أو رأيه مهمل؛ وهذه الفرضية سوف نجد صداها من خلال فهم الجذر الثنائي للكلمة. 

الجذر الثنائي [فل] كما في قاموس اللغة: أصلٌ صحيح يدل على الانكسار و الانثلام. من الملاحظ أنه عند إضافة حرف ثالث للجذر الثنائي [فل] فإنّ الكلمة الثلاثية تعطي معنى الترك أو القطع أو الإبعاد أو الفصل.

مع إضافة حرف الجيم تصبح الكلمة [فلج] هو فرجة بين شيئين متساويين، والفلج في الأسنان هو التباعد وإذا أضيف حرف الحاء أصبحت الكلمة [فلح] وهو شق الأرض، وإضافة حرف الذال تجعل الكلمة [فلذ] وهي تصف شيئاً مقطوعاً من شيء،      كلمة [فلق] تعني فرجة أو تباعد، وكلمة  [فلو] تعني قطع، ويقال فلوته أمه أي قطعته، وكلمة [فلت] تعني الذهاب أو الفصل أو القطع.

هكذا نجد أنّ الجذر الثنائي [فل] يحمل خصائص الذهاب أو القطع أو التباعد.

في كتاب الله نجد كلمة [أفل] الواردة في سورة الأنعام، والتي تدلّ على الذهاب أو الاختفاء، قد عزّزت فرضية أنّ الجذر الثنائي يحمل خصائص الذهاب والتباعد والاختفاء.

)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ( (سورة الأنعام :آية 76 ).

من هنا يمكننا القول إنّ لفظ [فيل] تعني شيئاً بعيداً أو منقطعاً أو متروكاً أو شيئاً ذهب وغير موجود.

قد يكون العرب سمّوا هذا الحيوان ضخم الجثة بالفيل؛ لأنّ هذا الحيوان غير موجود بأرض العرب، فكأنهم سموه بصفة وخاصية نسبية؛ فإنْ كان هذا الحيوان غير موجود بالنسبة إلى العرب أو بعيداً عنهم، فإنّ تسميته بالفيل تسمية صحيحة، ولكنّ التسمية القرآنية غير ذلك.

التسمية القرآنية تسمية حقيقة، بل هي الحقيقة المطلقة، فإذا استخدم القرآن لفظَ [فيل] وهو يحمل خصائص التباعد والذهاب والاختفاء، فلابد أنْ يكون هذا الشيء بالفعل غير موجود أو مختفٍ أو غير متاح.

وعندما تذكر الآية الكريمة تعبير أصحاب الفيل فهي تتحدث عن المصاحبين للتباعد أو الترك أو الاختفاء، وصاحب الشيء يعني الملازم لهذا الشيء، فأصحاب الفيل هم من جرى عليهم الاختفاء أو بالتعبير العصري الانقراض.

سورة الفيل تحكي قصة انقراضٍ وقع على مخلوقات غير الإنسان؛ لأن الإنسان ببساطة ما زال موجود.

الآية الأولى: )ألَمْ ترَ كيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأّصحابِ الفيل(

 يتبين لنا من خلال الآية الأولى أنّ الله يخبرنا عن حادثةٍ ما في تاريخ الحياة، عن مخلوقات أصابها الاختفاء، وهي غير موجودة فعلياً الآن؛ أي أنها انقرضت.  

الآية الثانية : )أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل(

[الكيد] في اللغة هو المعالجة بشدة؛ كما جاء في قاموس اللغة، أمّا في كتاب الله نجد أنّ لفظ ]الكيد] جاء مع الله في أكثر من موضع، كما في سورة الأعراف )وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( (سورة الأعراف: آية 183)، وكذلك جاء الكيد منسوباً للناس كما في سورة الأنفال وسورة يوسف )ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ( (سورة الانفال: آية81 )، )قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( (سورة يوسف: آية 5)، وجاء كذلك لفظ ]الكيد] مع الشيطان كما في سورة النساء )الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا( (سورة النساء: آية76)

من خلال الآيات الكريمة ومن خلال جذر الكلمة في قاموس اللغة يتضح لنا أنّ الكيد هو معالجة شيء، أو ترتيب ما يغلب عليه الشدة والانتقام.

✦ من هنا نجد أنّ المخلوقات التي تتحدث عنها الآية الكريمة لديها درجة وعي ما، إذ كان لها ترتيب انتقامي بدرجة ما.

ولا شك أنّ كثيراً من المخلوقات لديها درجات من المعرفة والوعي متفاوتة، كما أشرنا إلى ذلك في (الجزء الثاني - فصل منطق الطير) عن النمل والهدهد، وكيف أنّ هناك درجة من المعرفة والوعي لا يمكن تجاوزها.

✦ نخلص إلى القول إنّ الانقراض المعني هو انقراض خاص بأحد المخلوقات؛ بسبب تصرفاتها ومعالجتها للأمور بدرجة من الشدة و الانتقامية.

الآية الثالثة: )وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ(

قبل الشروع في فهم هذه الآية الكريمة سوف نحاول استعراض ما قاله الطبري ونَقَله حول هذه الآية:

✦ «وقوله: )وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ( يقول تعالى ذكره: وأرسل عليهم ربك طيراً متفرقة، يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى; وهي جمع لا واحد لها.

عن ابن عباس، في قوله: )طَيْرًا أَبَابِيلَ( قال: يتبع بعضُها بعضاً. عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنه قال في: )طَيْرًا أَبَابِيلَ( قال: هي الأقاطيع، كالإبل المؤَبَّلة. عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى )طَيْرًا أَبَابِيلَ( قال: متفرّقة. عن الحسن )طَيْرًا أَبَابِيلَ( قال: الكثيرة. عن أبي سلمة، قال: الأبابيل: الزُّمَر. عن مجاهد في قول الله: )أَبَابِيلَ( قال: هي شتى متتابعة مجتمعة.عن قتادة قال: الأبابيل: الكثيرة. قال ابن زيد: في قوله: )طَيْرًا أَبَابِيلَ( قال: الأبابيل: المختلفة، تأتي من ها هنا، وتأتي من ها هنا، أتتهم من كلّ مكان.» انتهى التفسير.

في فهم لفظ [أبابيل] وجوه عدة؛ كما بيّنها المفسرون، منها: التتابع أو أقاطيع أو كثيرة أو المختلفة.

كلمة [أبابيل] من الكلمات صعبة التحليل؛ بسبب ورودها في كتاب الله مرة واحدة، وبسبب اختلاف المفسرين حولها.

ومن خلال فهم الكلمات المتقاربة والتي تحتوي على الجذر الثنائي [بل] يمكن لنا أنْ نحصل على معلومة ذات قيمة، ثمّ نضمّ هذه المعلومات لباقي المعطيات كي نستخرج الفائدة.

في قاموس اللغة كلمة [أبل] لها ثلاث اصول، الأصل الأول: هو الإبل وهي معروفة، الأصل الثاني: الاجتزاء (الاقتطاع)، الأصل الثالث: الثقل.

كذلك في كتاب الله توجد كلمات قريبة من كلمة [أبابيل] يمكن الاستعانة بها، وهي كلمة  [وابل]، وكلمة [وبيلًا].

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( (سورة البقرة: الآية 264).

الوابل: هو المطر الشديد أو الثقيل المتتابع.

)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا( (سورة المزمل: الآية 16).

لفظ [وبيلا] هنا أيضاً يعني الشديد الخاطف.

أصل كلمة [وبل] كما في قاموس اللغة: شدة بالشيء وتجمع.

ومن خلال دمج جميع المعطيات نجد أنّ لفظ [أبابيل] تصف حالةً من التجمع والثقل والتتابع والسرعة، ولو حاولنا تقريب هذه الكلمة لكلمة متداولة فلن نجد أفضل من كلمة [وابل]، التي تصف القذائف على أنها سريعة ومتتابعة وكثيفة.   

يقول المفسرون: إنّ الطير في الآية الكريمة هي الطير التي تطير بجناحيها في السماء، ومنهم من وصفها وصفاً دقيقاً وكأنه ينظر إليها.

من خلال الآيات الكريمة لا نرجّح أبداً أنّ الطير المذكورة هي الطير المعروفة لدينا، بل هي أشياء طائرة تفوق سرعتها سرعة الطيور؛ وذلك لعدة أسباب:

اولًا: لفظ [أبابيل] وما يعنيه من السرعة والتتابع والثقل لا يعزز فرضية أنّ الطير هي الطير الذي نعرفه؛ لأنّ الطير من أهم صفاته وخصائصه الخفة وسرعته معقولة وليست سرعة عالية.

ثانيًا: هناك آية في كتاب الله ذكرت لفظ [طائر يطير بجناحيه]، وهذا يعطي الفرصة -ضمنياً- بالقول إنّ هناك طائراً لا يطير بجناحيه، وربما الطير الأبابيل هي أحد أنواع الطير هذا.

)وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"( (سورة الانعام : الآية 38).

ثالثًا: الآية التالية في سورة الفيل، ومدلول لفظ [ترميهم]؛ يؤكد أنّ المقصود ليست الطيور التي نعرفها.

الآية الرابعة:  )تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ(

هذه الآية  تعطينا دليلاً قوياً على أنّ الطير ليست طيورنا المعروفة، بل هي قذائف أو مذنبات طائرة في الفضاء؛ لأن لفظ [ترميهم] في أول الآية خارج مقدرة الطيور، فالطيور كما ذكر القرآن لا ترمي وإنما تلقي كما حكى القرآن عن نبي الله سليمان والهدهد.

)اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ( (سورة النمل: آية 28).

الإلقاء هو إسقاط شيء، أو نزول شيء، وإن شئت قلت بالدفع الذاتي، بينما الرمي مختلف تماماً فهو إلقاء الشيء عن طريق قوة دافعة مؤثرة عليه، كما ورد في المواضع التي ورد فيها الرمي في كتاب الله: 

)فلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (سورة الأنفال: آية 17).

الرمي في هذه الآية الكريمة نتيجة لقوة بدنية من الرامي، فتكتسب الرمية قوة بقدر قوة الرامي أو قوة  الآلة الرامية.

)إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ( (سورة المرسلات : آية 32).

الحديث في الآية الكريمة عن نار جهنم وهي ترمي بشرر كالقصر، والشرر الذي ترميه النار مندفع بقوة التفاعلات الناتجة والطاقة الكامنة، وليس بقوة دفع  حرة مثل السقوط الحر.

التناسق البديع بين لفظ [أبابيل] ولفظ [ترميهم] يرسم صورة لقذائف متتابعة وسريعة قادمة من الفضاء، وتكاد تخبر عن نفسها بأنها أجسام طائرة كثيفة، حدث لها انفجار وتطايرت أجزاؤها لتصيب أصحاب الفيل.

إنّ لفظ [حجارة من سجيل] يضيف بعداً آخر لهذه المقذوفات، وكنا قد بيّنا في الجزء الأول مفهوم كلمة [الحجارة] عندما تحدثنا عن حجارة جهنم، وكيف أنّ الحجارة تختلف عن الصخور، إذ الحجارة هي مكونات من طبقات ترسيبية، تمت على مراحل زمنية طويلة، بينما الصخور هي تكوينات تمت بسرعة عالية، وعلى ذلك قلنا إنّ لفظ الحجارة ينطبق تماماً على التكوينات الرسوبية، أو ما يعرف مجازاً بالصخور الرسوبية، بينما لفظ  الصخور يصف الصخور النارية حصراً.

ولو حاولنا فهم كلمة [سجيل] التي وَصفت الحجارة نجد أنّ جذر [سجيل]  اللغوي  هو سجل، وله أصل واحد: وهو انصباب  الشيء بعد امتلائه، ويقال للضرع الممتلئ: لبن سَجْل.

ورد جذر كلمة سجيل في كتاب الله في أربعة مواضع، منها ثلاثة مواضع بصيغة [سجيل]، وموضع واحد بصيغة [سجل]:

الموضع الأول: )يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ( (سورة الأنبياء : آية 104 ).

السجل في هذه الآية الكريمة هو الشيء الذي يحتوي على مجموعة من الكتب، والسجل يصف حالة متكدسة؛ لأنّ الآية الكريمة تصف طيّ السماء، وتشبّه هذا الطي بأول الخلق.

وأول الخلق نستطيع إدراكه من خلال الآية الكريمة التي وصفت بداية خلق السموات والأرض،  في سورة  الأنبياء نفسها، بأنهما كانتا رتقاً، أي كتلة مكثفة أو مكدسة:

)أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ( (سورة الأنبياء : الآية 30) .

من هنا نستطيع القول إنّ السجل الذي شبه الله به طيّ السماوات هو عبارة عن طبقات مكدسة.

هذا الوصف الدقيق للفظ [سجل] يتلوها [سجيل] يعطينا لمحة عن خصائص وصفات هذا السجيل، والذي من خصائصه الكثافة العالية بسبب تكديس طبقاته.

فكأن الحجارة المقذوفة هي حجارة ممتلئة، أو ذات كثافة عالية، وهو ما ينطبق على النيازك الساقطة من السماء.

الآيات الباقية عن السجيل في كتاب الله تعطينا لمحة أخرى كما سوف نرى:

الموضع  الثاني:  )فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ( (سورة هود: الآية ).

نلاحظ في هذه الآية الكريمة، والخاصة بعذاب قوم لوط، أنّ كتاب الله استخدم لفظ [أمطرنا] ولم يستخدم لفظ [رمينا] وكذلك الآية التالية:

الموضع الثالث: )فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ( (سورة الحجر: آية 74).

الشيء نفسه هنا، يقول كتاب الله: إنّ حجارة من سجيل كانت على هيئة أمطار بينما في الآية التي نحن بصددها يقول ربنا عن الطير: )ترميهم بحجارة من سجيل(.

يبدو لي أنّ هلاك قوم لوط كان عن طريق سقوط حجارة من نيازك تساقطت عليهم أيضاً، بينما الانقراض الذي تتحدث عنه سورة الفيل كان عن طريق رمي أو قذف هذه الحجارة.

قد يقود هذا الفرق إلى فهم النشاط النيزكي؛ فإذا كان الانقراض عن طريق وابل من القذائف، فهذا يدل على  نشاط عال جداً، والتي نرجح أنها كانت قبل وجود الإنسان، ثمّ نجد أنّ النشاط قد قل بشكل ملحوظ وأصبحت الحجارة تتساقط كهيئة الأمطار.

الفرق بين )وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل( و)ترميهم بحجارة من سجيل( يخبرنا بالكثير، ويؤيّد فرضية أنّ الذي رمى ليس هو الطير العادي المعروف لدينا،  وإنما نشاط غير عادي للنيازك، إذ عندما تقترب من الغلاف الجوي تنفجر أو تتحطم،  وتنطلق بفعل قوة التفجير هذه إلى الأرض، لتصيب هذه الكائنات وأدت إلى انقراضها.

الآية الخامسة: )فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ(

تقول التفسيرات إنّ العصف المأكول هو بقايا النباتات عندما تأكلها البهائم.

ومن خلال قاموس اللغة نجد أنّ جذر كلمة [العصف] وهو العين والصاد والفاء، له أصل واحد، وهو الخفة السرعة.

في كتاب الله وردت كلمة [عصف] ومشتقاتها في سبعة مواضع؛ ثلاثة منها بصيغة [عصف[ وأربعة بصيغة [عاصف] .

وُصفت الرياح بأنها عاصفة أو ريح عاصف، ولا شك أنّ الرياح يمكن أنْ ينطبق عليها السرعة والخفة، ولكنْ من خلال الآية التالية سندرك بعداً آخر لكلمة [عاصف] وهي جاف، وعلى ذلك يكون العصف  يصف شيئاً جافاً.

)وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ( ( سورة الرحمن : آية 12).

لقد ذهب المفسرون إلى أنّ العصف هو الشئ الجاف كذلك.

من هنا يجب أن نتساءل: ما الذي جعل هذه المخلوقات تشبه الشيء الجاف المأكول؟

من خلال الآيات السابقة التي تقول إنّ الطير ترميهم بحجارة من سجيل يكتمل المعنى، فيبدو جلياً أنّ هذه المخلوقات تمت إبادتها عن طريق قذائف من الفضاء،  تسببت في جفاف أبدانهم وهلاكهم.   

من خلال تتبع الآيات نستطيع القول إنّ سورة الفيل تصف مشهداً حدث في التاريخ، عن انقراض مخلوقات على سطح الأرض، وكان هذا الانقراض نتيجة قذائف من السماء (نيازك) أحرقتهم، أو تم تسخين الجو بصورة جعلت أجسادهم تبدو جافة تماماً.

لدينا في التاريخ القصة المشهورة عن أشهر حادثة انقراض للكائنات، وأشهرها انقراض الديناصورات، والتي تبدو متطابقة مع أحداث سورة الفيل.

توجد نظريات عدة عن الانقراض الكبير، وخاصة انقراض الديناصورات، لا يزال العلم حائراً بكيفية انقراض هذه المخلوقات، وبهذه السرعة والفجائية.

سورة الفيل أجابت على هذا السؤال كما يبدو لي، ورجّحت نظرية هلاك هذه الكائنات؛ عن طريق طيرٍ أبابيل؛ وهي النيازك المتتابعة الساقطة على الأرض. سوف نلقي في السطور القادمة الضوءَ على بعض المعلومات الخاصة بالديناصورات، ثم نختم هذا الفصل بنظرية الانقراض القرآني كما أتصورها.

انقراض الديناصورات:

الديناصورات حيوانات ضخمة، كانت تعيش على الأرض منذ عصور سحيقة، وهي لا شك كانت الحيوانات السائدة في هذه الأزمنة.

قدّر العلماء فترة حياة الديناصورات على الأرض بحوالي 160 مليون سنة، ويعرف الجميع بل يعتبر من المسلمات أنّ الديناصورات قد اختفت بشكل مفاجئ ومحير قبل 65 مليون سنة، وإلى الآن يعتبر اختفاء الديناصورات لغزاً محيراً، وليس من السهل الإجابة القطعية حسب النظريات العلمية.

جانب ليس بالقليل من الباحثين والمهتمين بشأن هذه المخلوقات العجيبة، يميل إلى فرضية أنّ انقراض الديناصورات تمّ عن طريق اصطدام كويكب بالأرض، أياً كان السبب فإنّ النتيجة التي لا يستطيع إنكارها أحد هو أنّ جميع أنواع الديناصورات انقرضت بشكل مفاجئ، إضافة إلى أكثر من نصف أشكال الحياة على سطح الأرض اختفى تماماً.

تنتمي الديناصورات إلى فصيلة الزواحف، والتي يُعتقد أنها ظهرت على الأرض في بداية العصر الترياسي، أي قبل 230 مليون سنة، وتنوعت الديناصورات بشكل سريع حتى أصبحت هي الكائنات ذات السيادة، والأكثر تنوعًا، والأكبر ضخامة على سطح الأرض.

إنّ دراسة التاريخ الطبيعي للديناصورات ليس بالأمر اليسير؛ بسبب صعوبة الحصول على الأحافير الخاصة بهذه الكائنات العملاقة، والتي اكتشف العلماء حتى يومنا الحالي أكثر من ألف نوع من هذه الكائنات. 

وإلى جانب الديناصورات عاشت أنواع أخرى من الكائنات، منها: التيروصورات؛ وهي زواحف مجنحة ضخمة التكوين، إذ كان يبلغ عرض أجنحة أنواع منها إلى ما يقارب 10 أمتار.

وبالإضافة إلى اليابسة كان هناك كائنات عملاقة أيضاً تعيش في البحار، من فصيلة الزواحف أيضا، وتشبه إلى حد كبير الديناصورات، مثل: البيلزوصور؛  المشهور بالرقبة الطويلة، والموزاصور يصل طوله إلى 17 متر، ويعتبر من أضخم المخلوقات اللاحمة التي عاشت على الأرض على مر التاريخ.

ومع اختفاء الديناصورات اختفت أنواع أخري عديدة، مثل: الزواحف السمكية،  والزواحف الميزية (الموزاصورات)، والبلصورات، والزواحف المجنحة (البتروصورات )، وكذلك معظم أنواع الطيور المعروفة وقتها، وأنواع كثيرة من الثدييات.

هذا الانقراض الكبير والمفاجئ يعرف في أوساط العلماء والباحثين باسم انقراض العصر الطباشيري الثلاثي، وقد حاول كثير من العلماء تفسير هذا الانقراض المحير من خلال مجموعة نظريات.

أكثر هذه النظريات شهرة هي نظرية الاصطدام، التي تفترض أنّ كويكباً اصطدم بالأرض وقتل العديد من الكائنات في ذلك الوقت، وسيظل العلم والبحث في حركة مستمرة كهذه، في محاولة دؤوبة لفهم الآفاق وسبرها، سواء المكانية على مستوى الكون، أو الآفاق الزمنية في الماضي، أو حتى المستقبل، وفي السطور القليلة القادمة سوف نحاول التعرف على أهم النظريات التي حاولت تفسير الانقراض الكبير. 

✦ نظرية  تغير المناخ:

يعتقد العلماء أنّ المناخ في العصور القديمة كان  مختلفاً تماماً عمّا هو عليه الآن. ومستوى البحر في الماضي كان أعلى من المستوى الحالي، بما يقارب 200 متر، وكانت درجات الحرارة متقاربة لدرجة كبيرة؛ فقد كان الفرق بين أكبر درجة وأقل درجة مسجلة على سطح الأرض هو 25 درجة مئوية فقط، كذلك فإنّ معدلات درجات الحرارة في الغلاف الجوي كانت أعلى من معدلها الحالي بكثير .

فهذه التغيرات صاحبها زيادة كبيرة في نسبة ثاني أكسيد الكربون، وزيادة نسبة الأكسجين، إلى ما يقرب من  35 %.

وفي نهايات العصر الطباشيري تراجع معدل الثورات البركانية بشكل كبير؛ مما أثّر على انخفاض نسبة ثاني أكسيد الكربون، وبالتالي انخفضت درجة الحرارة، وتراجعت نسبة الأكسجين بشكل كبير.

وهذا التغير المناخي، وانخفاض نسبة الأكسجين بشكل كبير؛ هو ما سبّب انقراض الديناصورات برأي العلماء، فلم تستطع الديناصورات التكيّف مع هذا المناخ، ولم تتحمل أجهزة التنفس لديها نقص الأكسجين فهلكت، وانقرضت تمامًا.

✦ نظرية الاصطدام:

هذه النظرية هي الأكثر شهرة، والتي اقترحها الدكتور "والتر الفاريز"، فهي تنصٌّ على أنّ كويكباً ضخماً اصطدم بالأرض في أواخر العصر الطباشيري، وهو الذي تسبّب في فناء هذه المخلوقات، من الأدلة  التي  ساقها دكتور الفاريز، وتدعم نظرية الاصطدام؛ هو القول بأنّ طبقات الأرض في ذلك العصر كانت محمّلة بنسبة عالية من فلز الإريديوم، وهو فلز يوجد بغزارة في الأجسام الفضائية،  برغم الأدلة العملية على هذه الفرضية إلا أنّ العلماء ما زالوا محتارين، وغير واثقين تماماً من نظرية الاصطدام هذه، وغير قادرين على تحديد هل الديناصورات كانت تتناقص بشكل طبيعي؟ أم أنها كانت تحيا حياة طبيعية، وتتكاثر بانتظام، دون أيّ مؤشر على أنها في طريقها للانقراض؟.

رغم أنّ بعض العلماء يؤكدون أنّ اصطدام الكويكب بالأرض  قد سبب انخفاض درجة الحرارة؛ فإنّ هناك على الجانب الآخر علماء آخرون يتبنون وجهة نظر على النقيض، ويقولون إنّ اصطدام الكويكب قد رفع من درجة الحرارة بشكل كبير على سطح الأرض.

انقراض الديناصورات السريع جعل العلماء يقولون: إنّ فناء هذه الكائنات تم عن طريق مباشر؛ وهو اصطدام الكويكب بالأرض، وعن طريق غير مباشر؛ وهو ارتفاع درجة الحرارة الناتجة عن الاصطدام، ثم انقرض الجزء الباقي نتيجة لانخفاض درجة الحرارة، والتي انخفضت بفعل حجب ضوء الشمس من قبل الغبار الناتج عن الارتطام.

في محاولة لفهم مصدر الكويكب الذي اصطدام بالأرض، ونتج عنه حفرة ضخمة، أطلق عليها العلماء "فوهة شيكسولوب"، وعن طريق استخدام برامج المحاكاة على جهاز الكمبيوتر؛ استنتج العلماء أنّ مصدر هذا الكويكب هو كويكب عملاق يسمى المعمداني  ( Baptistina) ونسبة هذا الاحتمال هو 90%.

 كويكب "المعمداني" يقع ضمن الكويكبات بين المريخ والمشترى، ويبلغ قطره حوالي 160 كيلو متر، ويفترض العلماء أنّ كويكباً آخر اصطدم بكويكب المعمداني؛ مما أدى إلى تحطمه، وتحوله إلى عنقودٍ كويكبي لا يزال موجوداً حتى اليوم.

 وعن طريق المحاكاة ظهر أنّ بعضاً من أجزاء الحطام توجه إلى الأرض، وأحد هذه الأجزاء المحطمة كان نيزكاً ذا قطر 10 كيلو متر اخترق الغلاف الجوي، واصطدم بشبه جزيرة "يوكاتان" وتسبب في فوهة "شيكسولوب".

✦ فرضية النجم الثنائي الافتراضي:

هذه الفرضية من الفرضيات المثيرة للجدل، والتي تقول إنّ عبور النجم الثنائي الافتراضي "نيميسس" خلال سحابة "أورط" (سحابة أورط تحيط بالمجموعة الشمسية، وتعتبر مع حزام "كايبر" المصدر الرئيس للمذنبات في مجموعتنا الشمسية) وهو ما سبّب خروج بعضها، واصطدام أحدها أو بعضها بالأرض؛ مما سبّب بالنهاية فناء وانقراض أغلب  الكائنات الموجودة وقتئذ.

المحصلة النهائية لاصطدام المذنبات أدى إلى انخفاض درجة الحرارة بشكل سريع؛ وذلك سبب فناء الديناصورات.

 ✦نظرية مصائد دكن  : Deccan Traps

مصائد دكن هي عبارة عن تكوينات حمم بازلتية، ظهرت نتيجة ثورات بركانية كبيرة، مما شكل هضاباً وجبالاً مختلفة في أمكان متفرقة من سطح الكرة الأرضية. ويقول العلماء الذين يتبنون وجهة النظر هذه: إنّ هذه التكوينات ظهرت قبل 65 مليون سنة، وبالتالي تسببت في انقراض الديناصورات.

بالرغم من أنّ الدلائل تقول: إنّ هذه التكوينات البركانية ظهرت على مدار مليون سنة؛ مما يعني أنّ انقراض الكائنات كان بشكل تدريجي، وليس بشكل مفاجئ كما تقول بذلك نظرية الاصطدام.

يقول العلماء في محاولة لتفسير عملية الانقراض من خلال نظرية مصائد الدكن: إنّ هذه التكوينات البركانية قد تكون سببت انقراض الكائنات من خلال عدة طرق، من هذه الطرق: هو إطلاق كمية من الغازات في الجو؛ الذي سبب حجب ضوء الشمس؛ مما أثر على نمو النباتات، وحدثت مجاعة أفنت الديناصورات بعد فقدانها مصدر غذائها، ثم  انقرض بعد ذلك أكلات اللحم.

ومن الاحتمالات التي يرجحها العلماء من خلال هذه النظرية هو أنّ النشاط البركاني غير العادي قد أدي إلى انبعاث ثاني أكسيد الكربون بكثافة؛ مما جعل الأرض تعاني احتباساً حرارياً، والذي أثّر بدوره على الحياة والاتزان البيئي، وسبب الانقراض.

 ✦فرضية الفشل في التأقلم مع الظروف المتغيرة:

كانت النباتات عارية البذور مثل الصنوبر هي النباتات السائدة حتى منتصف العصر الطباشيري، ثم حدث تحول لتصبح النباتات المزهرة مغطاة البذور هي السائدة. والدلائل المتحجرة تُظهر أنّ بعض أنواع الديناصورات تغذت على نباتات مغطاة البذور، بينما استمرت معظم الأنواع الاخرى في الاعتماد على النباتات عارية البذور بوصفها غذاء رئيساً.

وبسبب هذا التغير البيئي يقول الباحثون المؤيدون لهذه النظرية: إنّ الديناصورات لم تستطع التكيّف مع الظروف الجديدة؛ مما أدى إلى انقراضها.

 ✦نظرية الانقراض القرآنية كما أتصورها:

من خلال النبذة المختصرة عن النظريات التي تحاول تفسير كيفية انقراض الديناصورات، نجد أنه ما زالت عملية الانقراض لغزاً محيراً، ومن خلال سورة الفيل والتي قمنا بتحليل ألفاظها نستطيع أنْ نقف على الملخص التالي:

1. عملية الانقراض حدثت، وأصحاب الفيل تعني أصحاب الانقراض.

2. لم تعين السورة مخلوقاً بعينه، ولكن وصفت حالة عامة من الانقراض، وهو ما تحدثت عنه الدلائل الأحفورية من أنّ ما يقارب من 60% من الكائنات الحية في العصور الغابرة قد حدث له انقراض.

3.  عملية الانقراض حدثت بسبب تصرفات هذه الكائنات العدوانية؛ فلا نستبعد أنْ كان لهذه الكائنات وعي بدرجة ما.

4.  عملية الانقراض تمّت عن طريق رمي أو قذف حجارة مذنبات، والرمي كان كثيفًا للغاية، ولم يكن مجرد اصطدام كويكب واحد بل وابل من القذائف بالأرض.

5. عملية الانقراض حدثت بسرعة كبيرة جدًا، وقد تكون هذه القذائف قد أصابت الكائنات بشكل مباشر، أو أنها تسببت في رفع درجات الحرارة، حتى إنّ هذه الكائنات أصبحت جافة تماماً كالعصف المأكول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة