الفصل الرابع
"الأنعام"
من هنا نستطيع القول إنّ
الأصل في مسألة الطعام هو المنع, وليس الإباحة, فليس مسموحاً للإنسان أنْ يتناول
كلّ ما طالته يداه ويأكله, وإنما إحلال الأكل مختصٌّ ببهيمة الأنعام فقط من
بين المخلوقات والكائنات الأخرى التي تعيش
معنا على الأرض. هذه القاعدة القرآنية
العظيمة تكف يد الإنسان عن تناول ما لا يجب تناوله, وتكفّه عن الاعتداء على
المخلوقات الأخرى؛ بدعوى أنها مباحة له يفعل فيها ما يشاء.
الجدل حول
نظرية التطور هو جدل قديم حديث، فما بين مؤيد ومعارض يقدّم كل حزب أدلته، ويدحض
أدلة الجانب الأخر، ولا يبدو في الأفق القريب أن أياً من الحزبين مستعدٌ لتقبل
وجهة النظر الأخرى.
ربما يعتقد القارئ أننا
مولعون بالعلم، لدرجة أننا نحاول بكل السبل تطويع اللفظ القرآني لكي يلائم مكتشفات
العلم وبعض الظواهر الطبيعية؛ إلا أنّ هذا الفصل سوف يثبت للمنصف أننا نسير خلف
المنهج الذي نتبناه في كتابنا، لا يضرّنا توافق النتائج أو تضاربها مع الحقائق
العلمية أو المعلومات التاريخية، ونحاول تحليل اللفظ القرآني واستنباط المعلومات
قدر استطاعتنا مسترشدين أحياناً بالمعلومات العلمية.
وإن كنا من خلال الفصلين
السابقين قد تناولنا مفهوم التطور بصفة عامة، وتطور الإنسان بصفة خاصة، وتوصلنا لنتيجة مفادها أنّ التطور
عملية تتبع السنن والقوانين والتقديرات الإلهية التي تخضع لها كل المخلوقات على
سطح الأرض، إلا أنّ هناك استثناء كما يبدو لنا.
سوف نتعرض في هذا الفصل
لمعلومات لا تتفق مع العلم الحديث، أو على الأقل ليس هناك إشارة لهذه المعلومات من
قبل في المراجع العلمية، وكذلك الفكر التقليدي القائم على النظرة الدينية
المتوارثة لا يتماشى مع ما ذهبنا إليه.
على ذلك نحب أن نؤكّد
مراراً أنّ كلّ ما ورد في كتاب (تلك الأسباب) هو اجتهاد؛ تبعاً لمنهج محدد يقوم
على تحليل اللفظ القرآني، ويسلك دائماً لغة الاحتمالات، وإن كان لدي درجة عالية من
اليقين بكل معلومة دوّنتها وكل فكرة سجلتها؛ فعلى ذلك لا أطلب من القارئ الإيمان
بما أكتب، وإنما اختبار ما يقرأ والبحث خلفه، سواء على المستوى اللغوي أو على
المستوى العلمي، وذلك بعد الاطلاع على المنهج المستخدم في هذا الكتاب.
عند الحديث عن الطور
وإثبات أنّ التطور عملية طبيعية مستمرة، وأنّ الخلق بدأ من خلية واحدة، فلم يكن
منصفاً أن نمرَّ على آية كريمة وشواهد عديدة في كتاب الله تعطي صورة مغايرة لما
ذهبنا إليه، عن صنف المخلوقات التي تعيش على هذا الكوكب معنا.
إنها الأنعام التي يقول
عنها ربنا في كتابه إنه أنزلها للإنسان، ثم يحدد صفاتها، ويشير إلى فائدتها.
غزيرة المعلومات عن تلك
المخلوقات ومتشعبة وثمينة الفوائد، لذا سوف نحاول قدر استطاعتنا الوقوف على بعضٍ
منها وفهم دلالتها.
لقد ذُكرت الأنعام في كتاب الله في ثلاثين
موضعًا، كل آية كريمة تعطينا لمحةً، وتفتح لنا باباً لفهم كثير من الأمور المبهمة.
سوف نحاول استقراء بعض الآيات المتعلقة بعملية
وجود الأنعام وفائدتها، فوجود سورة كاملة في كتاب الله باسم الأنعام دليلٌ دامغ على تفرد هذه المخلوقات بصفات
وخصائص جديرة بالبحث والدراسة.
- المشهد الأول في خلق الأنعام:
المشهد الرئيس الذي لفت
انتباهنا إلى خلق هذه المخلوقات بطريقة متفردة عن بقية المخلوقات جاء في سورة
الزمر، حيث الحديث عن بداية الخلق ونزول الأنعام في تعبيرين قرآنيين منفصلين:
)خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن
بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ( (سورة الزمر : الآية 6 ).
كنا قد عرجنا على الشطر
الأول من الآية عند الحديث عن التطور، وكيف أنّ الآية دلالة واضحة على أنّ الخلق
بدأ من وحدة واحدة أو خلية واحدة؛ عندما قال ربنا )خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ(، الشطر الثاني: )ثم جعل منها
زوجها( تدلُّ
على أنَّ هناك تحولاً حدث، بحيث أنتجت النفس الواحدة زوجها، وذلك اعتماداً على
مدلول كلمة [جعل]، والتي تفيد التحول الجزئي.
هذا الجعل الذي ذكره ربنا في كتابه قد يكون هو
التحول من التكاثر اللاجنسي إلى التكاثر الجنسي، والذي تحدثنا عنه في فصل الإنسان.
بعد هذه المقدمة عن الخلق الأول، ثم التحول
في شكل التكاثر في المخلوقات، جاء ذكر الأنعام بشكل منفصل، حيث يقول ربنا: )وَأَنزَلَ
لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج(
دعونا نستعرض التفاسير
في قول ربنا: )أنزل لكم من
الأنعام ثمانية أزواج(
✦ يقول
الطبري في كتابه :
«
وقوله:
)وَأَنـزلَ
لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ( يقول تعالى ذكره: وجعل لكم من الأنعامِ
ثمانية أزواج من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين، ومن الضأن اثنين، ومن المعْز اثنين،
كما قال جل ثناؤه: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ
الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .عن مجاهد، قوله: )مِنَ
الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ( قال: من الإبل والبقر والضأن والمعز. عن قتادة، قوله: )وَأَنـزلَ
لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ( من الإبل اثنين، ومن
البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، من كلّ واحد زوج.» انتهي التفسير .
المفسر جعل كلمة [أنزل]
مرادفة لكلمة [جعل]، في حين نجد كلمة [أنزل] جاءت في كتاب الله تدل على إنزال شيء من
علو، ولا يمكن أن يكون مرادفها [جعل]، جاءت كلمة [أنزل] في مواضع عديدة في كتاب
الله تدل على إنزال الكتاب، أو إنزال الماء، أو إنزال الهدى، أو إنزال المن
والسلوى، أوإنزال الحديد.
مدلول التعبير القرآني )أنزل لكم( جاء
في كتاب الله في موضعين: أحدهما يصف نزول الماء من السماء، والآخر يصف نزول
الأنعام.
التعبير القرآني )أنزل لكم( هو إشارة للطريقة التي وجدت بها الأنعام على
هذا الكوكب، فالآية الكريمة صريحة، تحدثت عن خلق الإنسان، وذكرت التعبير القرآني )خلقكم(، ثم ذكرت التحول الذي طرأ على المخلوقات عندما
ذكرت الآية الكريمة تعبير )جعل منها(، وبدلا من القول [خلق لكم من الأنعام] جاء التعبير القرآني مباشراً بعبارة
مباشرة )أنزل لكم(. الآية
الكريمة تتحدث عن الخلق أو بداية وجود الأشياء، والاعتقاد بأنّ [الخلق والجعل
والإنزال] في الآية نفسها تحمل المعنى نفسه، أو ما هي إلا كلمات مترادفة، تعاملٌ
لا يليق بكلمات الله المليئة بالمعرفة؛ فإنْ لم يكن لفظ [الإنزال] قد أثار حفيظة
الباحثين في آية تتحدث عن بداية الخلق، فلماذا لم تثر حفيظتهم الأزواج الثمانية
تحديداً من الأنعام التي قص القرآن علينا قصة نزولها؟ً ، وإن كان الأمر هو مجرد [خلق
أو جعل]، فماذا عن بقية الأنعام خلاف الأزواج الثمانية؟ ولماذا الأزواج الثمانية بالتحديد؟
بالرغم من أنّ لفظ أنزل
جاء دوماً مع أشياء تنزل من أعلى، إلا أنّ هناك بعض الآيات التي قد تُشكل على
الناس، ويبدو من التفسير التقليدي أنها لا تعني النزول من أعلى؛ مما يجعل الأنعام
تدور في نفس الفلك.
الآية الأولى: )وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ
مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(
(سورة البقرة : الآية 57).
قد سبق شرح هذه الآية في
فصل الطور، حيث إنّ المن والسلوى هو رغد العيش والوفرة، أو ما يمكن أن نسميه
البركات أو زيادة الانتاج، وهذه البركات هي معنى حسي، وليست شيئاً مادياً، مثلها
مثل الهدى والبينات التي يقول الله سبحانه وتعالى أنه أنزلها في آيات
أخرى.
وإذا فسر المفسرون المن
بأنه طائر، والسلوى بأنها الحلوى؛ فهنا يحدث ارتباك في فهم المقصود بمعنى أنزل
المن السلوى، ولكن إذا كانت المن والسلوى تعنى الرغد والبركات وطيب العيش فليس
هناك ما يدعو للاستغراب إطلاقاً من استخدام لفظ [أنزل]؛ لأنّ هذه البركات تتنزل من
أعلى، مثلها مثل جميع المعاني الحسية، مثل
الهدى والرحمة.
الآية الثانية: )يَا بَنِي
آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا
وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ( ( سورة الأعراف : آية 26 ).
هذه الآية الكريمة من
أكثر الآيات إشكالاً على الناس؛ حيث ذهب المفسرون إلى القول: إنّ اللباس هو ما
يلبس من الثياب؛ وسوف نتعرض لهذه الآية في الفصل القادم عند الحديث عن بداية
التطور المعرفي، وإعداد آدم لتولي المسؤولية، ولنحاول هنا فهم ألفاظ الآية الكريمة
وفهم مدلولها.
[السوءة] كما سوف يأتي، ومن
خلال اللغة: هي كل ما يسوء الإنسان أو يكره أن يطلع عليه الآخرون.
لو حاولنا فهم [السوءة] بتعبيرات عصرنا الحديث
فنحن نتحدث عمّا يسمى: الفضيحة، أو ظهور عيوب الإنسان وتجاوزاته.
وسوءة آدم عندما أكل من الشجرة هي حدوث خلل في
النظام، وتساقط أوراق الشجر إعلاناً عمّا اقترف، وبما جنت يداه، وليست السوءة مختصة
بالاعضاء التناسلية كما ذهب المفسرون، وإنما هي ظهور أمره وافتضاحه، والذي كان يرغب أن يكون
مستوراً.
التعبير القرآني )أنزل عليكم( تدل على شيء يحيط بالإنسان، ونلاحظ أنّ تعبير [أنزل عليكم] دائماً يرد
في وصف أشياء حسية، وليست مادية مثل: أنزل عليكم من الكتاب، وأنزل عليكم أمنةً
نعاساً:
)وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ
هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( (سورة البقرة: الآية 231).
)ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم
مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل
لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا
فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( (سورة آل عمران:الآية 154).
لا شك أنّ تعبير [أنزل
لكم] يختلف عن تعبير [أنزل عليكم]، ومن خلال تتبع التعبير القرآني، واعتماداً على
ما سبق نستطيع القول إنّ اللباس الذي يواري السوءة هو الستر، أو الشيء الذي يحجب
العيوب عن الآخرين.
إنَّ ستر الله هو اللباس
الذي أنزله على الإنسان الذي يفعل أمرَ سوء ثم يستره الله؛ فعدم افتضاح أمر
الإنسان، وبيان سوءته للناس هو فعل الستر الجميل الذي أنزله الله على عباده؛ بحيث
يبدو الإنسان في حال طيبة رغم أفعال لو اطلع عليها الناس لما رأوا فيه خيراً أبداً.
تفسير اللباس في الآية
الكريمة بالستر يعززه كذلك لفظ الريش الذي جاء في الآية الكريمة، ويعتقد الناس أنه
نوع من اللباس المادي؛ لكن لفظ ريش كما جاء في قاموس اللغة يعني حُسن الحال، وليس نوعاً
من اللباس المادي، بل إنّ حسن الحال شيء معنوي، ويتفق تماما مع مفهوم الستر.
الآية الكريمة ترشدنا
لمبدأ هام جداً، هو الرصيد الإلهي من الستر وحسن الحال الذي تكفل الله بهما لكل
إنسان لا يتمادى في المعاصي، إذ إنّ الإنسان
يظل في نعمة وحال طيب، ويظن به الناس خيراً طالما لديه رصيد من الستر الإلهي، على
الجانب الأخر التمادي في الاغتراف من الذنوب هو المنذر بنزع اللباس، ونزع حسن
الحال، وافتضاح ما كان خافياً عن الآخرين.
الآية التالية دليل أخر على
أنّ المقصود باللباس هو الستر، وليس لباساً مادياً يغطي العورة كما ذهب بعض
المفسرين.
)يَا بَنِي آدَمَ لَا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ
يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ
يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا
جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ( (سورة الأعراف : الآية 27).
لا يظنّ أحد أنّ الشيطان
في هذه الآية له سلطان مادي أو يستطيع نزع لباس الإنسان المادي، والمقصود به
الثياب، ولكنّ أقصى ما يفعله الشيطان هو تحفيز الإنسان على المعاصي حتى يعتادها، ومن
ثم ينزع عنه اللباس وهو الستر وحسن الحال الظاهر منه للناس؛ فليس للشيطان أي سلطان
مادي على الإنسان يستطيع من خلاله إجباره على شيء أو الإضرار به بشكل مباشر، وهذا
المفهوم نجده في كتاب الله من خلال الآية الكريمة في سورة إبراهيم:
)وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ
إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم
بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (سورة إبراهيم : آية 22).
بعد تحليل التعبير
القرآني )أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(
وكذلك التعبير القرآني )أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا(
نستطيع القول إنّ لفظ أنزل في كتاب الله
متعلق بالإنزال من أعلى، وأنّ التعبير القرآني )أنزل لكم( يصف
إنزال الأنعام بشكل حقيقي ليستفيد منها الإنسان.
الأنعام مخلوقات يبدو أنها جاءت لمنفعة الإنسان
تحديداً، وهي أحد المكونات الرئيسة في المنظومة البيئية على سطح الأرض، وحلقة
غذائية بالغة الأهمية بالنسبة إلى الإنسان.
إنّ نزول الأنعام
يشبه بشكل كبير نزول الماء أو نزول الحديد الذي تحدثت عنهم آيات كريمة في
كتاب الله.
ومن خلال إلقاء الضوء
على مفهوم نزول الماء ومفهوم نزول الحديد كما جاء في كتاب الله؛ سوف يصبح لدينا
تصور كامل عن مفهوم نزول الأنعام.
أولًاً: نزول الماء:
أول ما يتبادر إلى
الذهن عند سماع الآيات القرآنية التي
تتحدث عن نزول الماء هو نزول الماء من السحاب، وهي الظاهرة المتكررة التي نستطيع
متابعتها بشكل دوري، لكنّ المدقق في
الآيات القرآنية التي تصف هذه الحالة، والمتابع لسياق الآيات، سوف يكتشف أنّ بعض
الآيات تخبرنا بالنشأة الأولى للماء، وليست مجرد دورة طبيعية للمياه على سطح الأرض؛
كما نرى في الآيات التالية:
)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ( (سورة البقرة : الآية 22).
في هذه الآية الكريمة
يبدو واضحاً أنّ الحديث منصبٌّ على بداية الخلق؛ حيث كانت الأرض فراشاً، والسماء
بناء، ومراحل التسوية والتمهيد الأولى والتي كان من ضمنها -كما يبدو- نزول الماء
من السماء.
الآية التالية تضيف لنا دليلاً أخر على أنّ
المقصود بنزول الماء من السماء هو مصدر الماء الأول؛ وليس تساقط المطر من السحاب:
)إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( (سورة البقرة : الآية 164).
نلاحظ في الآية الكريمة
أنها بدأت بخلق السماوات والأرض، ثم اختلاف الليل والنهار، وهذه الدلائل تشير إلى
البدايات، ثم ذكرت الآية أنّ الفلك تجري
في البحر بما ينفع الناس، وهو مظهر من مظاهر الحياة اليومية، ثم ذكرت أنزل من
السماء من ماء، وهذا الماء كان سبباً في إحياء الأرض بعد موتها، ثم بثّ فيها من كل دابة، و)بث فيها من
كل دابة( عودة
مرةً أخرى للبدايات، ثم تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض.
هذه الآية اشتملت على تعبيرين مختلفين عن الماء؛
أولهما: الماء الذي أنزله الله من السماء، وهو بداية الخلق، وبداية ظهور الماء على
الأرض، والثاني: هو السحاب، وهو مصدر الماء اليومي، والخاضع لدورة المياه الطبيعية،
وعبّر عنه ربنا بقوله بين السماء والأرض، وليس كما عبر عن الماء الأول بأنه أنزله من
السماء، برغم أنّ الآية تحمل الكثير، وليس من السهل فهمها بشكل كامل؛ إلا أنه
يمكننا استنتاج الفرق بين ماء السماء الذي نزل لإحياء الأرض، وماء السحاب في دورته
الطبيعية وهو بين السماء والأرض.
الآيات التالية في سورة
الواقعة تعطي دلالةً أخرى وبرهاناً على هذا الماء الذي أنزله الله في بداية تكوين
الأرض، والحديث في سورة الواقعة عن خلق الأشياء وبداية نشأتها، ومن ضمن هذه
الأشياء الماء الذي قال عنه ربنا إنه انزله من المزن:
)أَفَرَأَيْتُمُ
الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ
نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا
تَشْكُرُونَ (70)( (سورة الواقعة: الآيات 68-70).
ما هو المزن؟ تقول
التفاسير: إنّ المزن هو السحاب، ولكن كما نعلم أنّ الترادف بشكل كامل غير وارد في
اللغة العربية، ولو حاولنا فهم الحالة التي يصفها المزن؛ ومن خلال قواميس اللغة
سنجد: أنّ وصف المزن بالسحاب هو أحد مدلولات الكلمة، والتي يبدو أنّ هذا الوصف عَرف
طريقه إلى معاجم اللغة من خلال التفاسير التي حاولت فهم الكلمة من سياق الآية
القرآنية.
من ناحية أخرى نجد أنّ ابن فارس أورد مدلولاً
للكلمة؛ وهو النمل الأبيض، وفي كتاب
الاشتقاق لابن دريد: المزن هو السحابة البيضاء، ويقال سُمي النمل الأبيض
مزناً؛ بسبب حركته وسرعته وبياض لونه.
من هنا نستطيع أنْ نستخلص
الحالة التي يصفها المزن: بأنّها حالة من البياض ومن الحركة .
والسحاب الممطر ليس أبيض؛
بل هو كما سماه القرآن ظلمات وسحاب مركوم.
وقد يكون المزن هو أجسام
يغلب عليها البياض، متحركة تنزل من السماء، وهي مصدر هذا الماء، أو أنها كرات من
الثلج الأبيض تساقطت من الفضاء في بداية تكوين الأرض، وكانت هي مصدر الماء، أو أحد
أهم مصادر المياه على الأرض.
لكنْ هل هذا الوصف ينطبق
على أي نظرية من نظريات تفسير نشأة الماء على الأرض؟
لا يمكننا الجزم بأنّ
هناك نظريةً صحيحةً ومؤكدةً مائة بالمائة استطاعت تفسير نشأة الماء على سطح الأرض،
إلا أنّ هناك رأياً علمياً يشير إلى أنّ مصدر المياه على الأرض جاء من خارج الكرة
الأرضية، وبعض هذه النظريات تقول: إنّ الماء جاء إلى الأرض عن طريق اصطدام
المذنبات بسطح الكرة الأرضية؛ حيث إنّ المذنبات تحتوي على صخور وجليد وأحادي ثاني أكسيد
الكربون وغاز الميثان والأمونيا.
فقد يكون المزن هو
الجليد الأبيض؛ والذي هو أحد مكونات تلك المذنبات، والتي كانت تسقط بكميات كبيرة
في بداية تكوين الأرض؛ مما جعل الأرض تحتوي على كميات كبيرة من المياه.
يبدو أنّ عملية وجود
الماء على هذا الكوكب عملية ليست سهلة بالمرة؛ فلدينا آية كريمة تتحدث عن خروج
الماء من الأرض في سورة النازعات، وسياق الآيات يتحدث أيضاً عن بدايات الخلق:
)أَأَنتُمْ أَشَدُّ
خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا
(28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ
دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)( (سورة النازعات: آيات
27-31)
بما أنّ لدينا آيات
تتحدث عن نزول الماء من السماء في بدايات الخلق، وآيات أخرى تتحدث عن خروج الماء
كما ورد في سورة النازعات من الأرض، فيصبح لدينا احتمالان لوجود الماء على سطح هذا
الكوكب:
الاحتمال
الأول: في بداية نشأة الأرض تم قذفها بعدد كبير جداً من المذنبات، والتي
تحتوي على كتل من الجليد، فغاصت هذه المذنبات في باطن الأرض؛ بسبب هشاشة السطح
وقتها، واستقرت داخلها، ومع مرور الوقت واستقرار القشرة الأرضية شيئاً فشيئاً، وخلال
مرحلة الثورات البركانية الكثيفة التي انتابت الكرة الأرضة بعد ذلك؛ خرج هذا الماء
من باطن الأرض على هيئة بخار ماء، وتكثف في الغلاف الجوي، ثم سقط على هيئة أمطار، وكوَّن
المجاري المائية المختلفة.
الاحتمال الثاني: هو أنّ الماء كان من ضمن مكونات الأرض، وكان في
باطنها، فخرج مع الثورات البركانية، ولكنّ هذا الماء كان غير كافٍ؛ وتمّ إمداد
الأرض بمياه أخرى، عن طريق الجليد الموجود
في المذنبات.
نعود لفعل [أنزل] الذي
عبّر به ربنا عن نزول الماء، وسواء فعل [أنزل] يعبر عن مصدر الماء الأول أو عن
نزول الماء من السحاب من خلال الدورة الطبيعية
فهو في كلا الحالتين يعبر عن نزول شيء من أعلى؛ مما يدفعنا للقول بأنّ نزول
الأنعام يتبع نفس الآلية.
ثانيا: نزول الحديد:
توجد سورة كاملة في كتاب
الله تسمى سورة الحديد، وتوجد فيها إشارة إلى مصدر الحديد وكيف وصل إلى الأرض.
)لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( (سورة الحديد: آية 25).
يمثل وجود الحديد على
سطح الأرض لغزاً محيراً للعلماء؛ إذ كيف تشكّل الحديد وكيف وصل إلى الأرض، ولعل
هذه الآية تشير إلى نزول الحديد، أو على الأقل الحديد السطحي؛ أي الموجود على سطح
الكرة الأرضية من أعلى، وعن طريق النيازك التي ضربت وتضرب الأرض بصفة مستمرة.
تعتبر النيازك هي المصدر
الرئيس للحديد على سطح الأرض، ولكنّ المشكلة تكمن في الحديد الموجود في قلب الكرة
الأرضية، فهل هو قادم من مصدر خارج الأرض؟ أم أنّه جزء من تركيب الأرض؟
الآية التي بين أيدينا
تشير إلى نزول الحديد من خارج نطاق الكرة الأرضية، وليس كما يدّعي بعض المفسرين أنّ
المقصود بنزول الحديد هو ليونته وتسخيره للإنسان، بحيث أصبح الإنسان قادراً على
تشكيل الحديد؛ والقدرة على تشكيل الحديد مشروحة بالكامل من خلال الفصول القادمة
وعند الحديث عن نبي الله داوود.
وإذا كان اللفظ القرآني
يشير إلى مسألة نزول الحديد من خارج الكرة الأرضية؛ فكذلك الشواهد العلمية تكاد
تؤكد مسألة نزول الحديد واستحالة تكوينه على الأرض.
ما هي قصة الحديد؟
هذا الكون المترامي
الأطراف يمثل غاز الهيدروجين حوالي 74% من مكوناته التي استطاع الإنسان الوصول
إليها، ويأتي غاز الهيليوم في المرتبة الثانية، ويمثل 24% من مكونات الكون.
لك أنْ تتخيل أنّ عنصرين فقط من عناصر الكون يمثّلان
ما يقارب 98% من مكونات الكون، بينما باقي العناصر والتي تصل إلى أكثر من مائة
عنصر لا تمثل إلا نسبة 2% من مكونات الكون.
هذه الوفرة في غاز
الهيدروجين قادت العلماء إلى استنتاج أنّ غاز الهيدروجين هو الوحدة الأساسية التي
كونت باقي العناصر؛ عن طريق دمج نوى الهيدروجين مع بعضها بعضاً أو مع عناصر أخرى
في شكل متسلسل.
وعملية الاندماج النووي تتم في قلب النجوم؛ حيث
تحتاج عملية الاندماج إلى درجات حرارة مرتفعة للغاية لا تتوافر بسهولة، وعملية الاندماج
تبدأ عن طريق أصغر النوى؛ حيث تتّحد نواتان صغيرتان سوياً لتكوين نواةٍ أثقل لعنصر
جديد، وعملية الاندماج عملية مستمرة؛ إذ تتكون عناصر أثقل فأثقل في شكل تفاعلٍ
متسلسلٍ حتى الوصول إلى عنصر الحديد، ومن ثم
يتحول قلب النجم إلى حديد، ثم ينفجر ويتناثر في الفضاء.
في حالة الشمس نجد أنّ
غاز الهيليوم يتكون نتيجة اندماج نواتين من نوى الهيدروجين؛ مما يتسبب في ارتفاع
درجة الحرارة، وهذا الارتفاع في درجة الحرارة يحفز اندماج نوى من ذرات الهيدروجين مع
نوى من ذرات الهيليوم، مكونةً عناصر أثقل، مثل الليثيوم، هذا وكلما ارتفعت درجة
الحرارة حدث اندماج آخر، في شكل تفاعل متسلسل، وتظهر تبعاً لذلك عناصر مختلفة، مثل: الكربون والأكسجين إلخ...
إنّ أعلى درجة حرارة
للشمس هي درجة حرارة باطنها، وتصل إلى 15 مليون درجة مئوية، ويقول العلماء إنّ درجة
حرارة الشمس يمكن أنْ تصل إلى مائة مليون درجة مئوية عندما تتحول نصف كمية
الهيدروجين في الشمس إلى هيليوم، وهذا الارتفاع الكبير في درجة الحرارة سوف يحفز
ذرّات الهيليوم على الاندماج لتكوين عناصر أعلى، مثل: الصوديوم والكربون.
عند درجة حرارة تساوي
ستة مائة مليون درجة تبدأ العناصر الأثقل في التكوُّن؛ حيث يتحول الصوديوم إلى مغنسيوم،
ويستمر التفاعل المتسلسل، وينتج عناصر مثل: الألومنيوم والسليكون والكبريت
والفسفور والكلور والبوتاسيوم والكالسيوم.
إنّ كل اندماج يحدث تزيد معه درجة حرارة النجم ( الشمس نجم
متوسط)، وبالتالي يتم تحفيز عناصر أخرى على الاندماج، ومن ثم تكوين عناصر جديدة.
عندما تصل درجة الحرارة
إلى ألفي مليون درجة مئوية تبدأ عناصر مثل: التيتانيوم والفاناديوم والكوبلت
والنيكل والكروم في التكون، وهي عناصر تحتاج لكمية مهولة من الطاقة.
عملية تكوين الحديد نفسه
تحتاج إلى طاقة أعلى بكثير من الطاقات السابقة، وهذه الطاقة لا تتوافر إلا في
النجوم العملاقة، فعندما يتحول قلب النجم إلى حديد تنفجر هذه النجوم، وتسمى:
المستعرات العظمى.
عند الانفجار تتناثر أجزاء
النجم في الفضاء وتسبح في السماء، وعندما تدخل نطاق جاذبية أحد الأجرام السماوية
تنجذب إلى هذا الجرم وتسقط عليه؛ وهذا هو تفسير العلماء لوجود الحديد على الأرض.
الشمس في مجموعتنا هي
عبارة عن نجم متوسط الحجم، وهي غير قادرة على تصنيع هذا الحديد، لذا اقترح العلماء
تصوراً آخر؛ وهو أنّ النجوم خارج مجموعتنا الشمسية هي مصدر الحديد الموجود في
الأرض، وفي باقي كواكب المجموعة الشمسية، وحتى أنه مصدر الحديد الموجود داخل الشمس
نفسها.
الشواهد العلمية تؤيد
فكرة نزول الحديد على الأرض من خارج نطاق مجموعتنا الشمسية حتى، واللفظ القرآني
يشير إلى عملية النزول هذه بألفاظ واضحة وصريحة.
والألفاظ القرآنية متوافقة مع الرؤى العلمية.
✦ لذا يمكننا
الآن استنتاج ما يعنيه التعبير القرآني الخاص بنزول ثمانية أزواج من الأنعام، فنزول
هذه الأزواج يعني أنها لم تتطور من أفراد سابقة، وليس لها أسلاف على الأرض، وإنما
جاءت للأرض من خارج نطاقها.
لكن هل نزول الأنعام
يعطى احتمالاً على أنّ هذه الأنعام كانت في عالم آخر من هذا
الكون اللانهائي؟
قد تكون هذه الآية
الكريمة إشارة إلى وجود حياة أو حيوات متعددة في هذا الكون، وفي جانب منه لا نعلم
عنه شيئاً.
إنّ كل الاحتمالات قائمة،
ولا نستطيع نفي أو إثبات أي شيء في الوقت الحالي، وربما دراسة مستفيضة للفظ
القرآنيّ تعطينا مزيداً من الملامح عن أصل هذه الأزواج الثمانية، ومكان نشأتها، بل
كيف وصلت إلى هنا أيضاً؟
✦ الخطوة التالية في
بحثنا هذا هي محاولة تحديد هذه الأزواج الثمانية من خلال كتاب الله.
في سورة الأنعام توجد
إشارة لا يمكننا تجاوزها على هذه الأزواج الثمانية، ومن خلال مشهد قرآني بديع، بدأ
بذكر نعمة الله في أنه انشأ جنات معروشات وغير معروشات، ثم ذكر الأنعام في الآية التالية معطوفة على
الإنشاء، ثم تفصيل هذه أزواج الثمانية:
)وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ
جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ
مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ
مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا
تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۖ مِّنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنثَيَيْنِ ۖ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
(143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ۗ قُلْ
آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ
الْأُنثَيَيْنِ ۖ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ
بِهَٰذَا ۚ فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ ۗ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)( (سورة الأنعام: آيات
141-144).
عندما فسر المفسرون قول
الله تعالى )ومن الأنعام
حمولة وفرشاً(
قالوا إنّ المقصود ما يُستخدم من هذه الأنعام في حمل الأشياء، مثل الإبل والبقر، ومنها ما لا
يستخدم في الحمل لصغر حجمه، مثل الضأن والماعز.
لكن إذا حاولنا فهم لفظ [حمولة] ولفظ [فرش] فكلا
اللفظين لهما علاقة مباشرة بمسألة الطعام، وليس هناك إشارة لمسألة حمل الأمتعة أو
الركوب، إذ يقول ربنا في الآية الكريمة نفسها )كُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللَّهُ(، فالأنعام
الحمولة والفرش هي أنعام تؤكل، ويمكننا فهم مدلول كلمة حمولة من خلال (الآية 146)
في سورة الأنعام، حيث يقول ربنا إنه حرَّم على بني إسرائيل كل ذي ظفر، ومن البقر
والغنم حرم عليهم شحومها، إلا ما حملت ظهورها.
)وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا
أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ
جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ( (سورة الأنعام : آية 146).
يبدو أنّ المقصود
بالأنعام الحمولة هي ما تحمل الدهن، أو الغنية بالدهن، وهذا الوصف ينطبق تماماً
على البقر والإبل والغنم.
بينما لفظ [فرش] يعني شيئاً
آخر، وهو ما سوف نحاول تحليله في السطور التالية:
الفرش في اللغة: هو
انبساط وتمهيد، ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله نجد أنّ من خاصية الفرش أيضاً
الخفة: )يوْمَ
يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ( (سورة القارعة : آية 4).
فمن خلال مدلول كلمة [فرش]، ومن خلال مقابلة
الكلمة مع كلمة حمولة ومدلولها، يتبين لنا أنّ المقصود بالفرش هو الأنعام صغيرة
الحجم فقيرة الدهن، وهي في الأغلب الطيور الداجنة.
وما يدفعنا للقول إنّ الأنعام
تنقسم إلى قسمين: حمولة؛ أي تحمل الدهن، وفرشاً؛ أي خفيفة وفقير الدهن، هو الإشارة
القرآنية في الآية الكريمة عن تحريم رب العالمين كل ذي ظفر، والبقر والغنم.
التعبير القرآني استخدم كل ذي ظفر للتعبير عن أنعام
معينة، ثم أشار إلى البقر والغنم واحتوائهم على شحوم كما جاء في الآية الكريمة.
✦ وعندما
حاول المفسرون تفسير كل ذي ظفر قالوا: إنها الطيور مثل النعام، والإوز، بالإضافة إلى الإبل؛ كما جاء في كتاب الإمام
الطبري:
«القول
في تأويل قوله: )وَعَلَى
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ(
-قال
أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود )كل ذي ظفر(، وهو
من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط .
ذكر
من قال ذلك:
-عن ابن عباس
قوله: )وعلى الذين
هادوا حرمنا كل ذي ظفر(، وهو
البعير والنعامة .
-عن سعيد: )وعلى الذين
هادوا حرمنا كل ذي ظفر(،
قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع.
-عن مجاهد
قال: )كل ذي ظفر( ،
النعامة والبعير .
-عن قتادة: )كل ذي ظفر(،
قال: الإبل والنعام، ظفر يد البعير ورجله، والنعام أيضًا كذلك، وحرم عليهم أيضًا
من الطير البط وشبهه، وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع.» انتهى الاقتباس من التفاسير.
برغم أن المفسرين قالوا
إنّ ذي ظفر تشمل جنس الطيور، مثل: النعام والاوز والبط، وكذلك الإبل، إلا أنّ
المدقق سوف يدرك أنّ الإبل لا يمكن اعتبارها من ذوات الأظافر؛ فهي مشقوقة القدم، مثلها
مثل البقر، وهي كذلك حاملة للشحوم.
أضف إلى ذلك أنّ لفظ [ظفر] في اللغة يعني القوة
في الشيء والغلبة والقهر، وهو ما يتوافق مع مفهوم الأظافر لدى الطيور مثل الدجاج
والأوز والبط والنعام؛ حيث أرجلها أقرب لما نسميه بالمخالب.
هذا التحليل يقودنا
مباشرة إلى الأزواج الثمانية من الأنعام، وهي اثنين من الضأن، واثنين من الماعز، واثنين
من الإبل، واثنين ومن البقر.
الأزواج الثمانية على
هذا النحو هي النواة الأولى لهذه الأنعام على الأرض؛ إذ كل نوع من هذه الأنواع
الأربعة يشمل ذكراً وأنثي لأجل أنْ يتم التكاثر بالطريقة التي يتم بها التكاثر في
جميع المخلوقات المشابهة.
كما عوّدنا القرآن
الكريم أنّ الأسماء تصف حالات معينة؛ فإننا نرجح أنّ كل صنف من هذه الأنعام ربما
يشمل تحته مجموعة متنوعة من نفس الفصيلة، تطورت من الفصيلة الأم.
البحث الدقيق والمتأني
هو القادر فقط على تحديد المقصود بالإبل، وخصوصاً أنّ لفظ [بعير] ولفظ [ناقة] من
ألفاظ القرآن، وقد يكون لفظ [إبل] يضم الجِمال
التي نعرفها، ويضم كذلك حيوانات اللاما، والتي يعتبرها العلماء من نفس الفصيلة.
لفظ [البقر] يبدو كذلك اسماً
لفصيلة معينة، وليس اسمَ جنس البقرة المعروفة، وقد ينطوي تحت هذه الفصيلة كثيرٌ من
الكائنات.
إذا كان رأي العلم أنّ
الخِراف وما نطلق عليه نحن الماعز يقع تحت رتبة البقريات، فإننا لا نستبعد أبداً
أنّ لفظ [البقر] أو [بقرة] هو وصفٌ لكل حيوان يقع تحت هذه الفصيلة.
وحادثة بني إسرائيل
وارتباكهم عندما قال لهم نبي الله موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، يمكن أنْ
تمدّنا بمعلومة عن فصيلة الأبقار هذه:
)وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ ( (سورة البقرة: آية 67).
برغم أنّ المفسرين قالوا
إنّ هذه القصة تدل على تعنّت بني إسرائيل وعدم رغبتهم في تنفيذ الأمر الإلهي، إلا أنّ
المتتبّع للآيات الكريمة يدرك تماماً الحيرة التي وقع فيها بنو إسرائيل، ورغبتهم
في معرفة هذه البقرة، ويبدو أنّ اختيار بقرة كان اختياراً ليس سهلاً، وخصوصاً إذا
كان لفظ [بقرة] يعني فصيلاً معيناً، يقع تحته مجموعة كبيرة من المخلوقات.
فلك أن تتخيل أنّ البقر
المعروف لدينا، والجاموس، والبقر الفريزيان، والبقر الوحشي، ومجموعة كبيرة تدخل
ضمن مسمى البقر، ثم يأتيك أمرٌ إلهيٌ بذبح بقرة.
قد يقول إنسان: كان
يجزيهم أنْ يذبحوا أيّ بقرة، دون السؤال عن التفاصيل أو معرفتها؛ وهذا الرأي له
وجاهته، لكن بالنظر إلى طبيعة بني إسرائيل التي تميل إلى السؤال والتدقيق ما كان
لهم أن ينفذوا هذا الأمر إلّا بعد أنْ يثقوا أنهم على الطريق الصحيح، لذا بادروا
نبي الله موسى بالسؤال عمّا هي هذه البقرة؛ حتى يتم تقليل المجموعة التي يتم
الانتقاء والاختيار منها:
)قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا
فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا
مَا تُؤْمَرُونَ( (سورة البقرة : آية 68).
ورغبة منهم في أن يكون
اختيارهم صحيحاً مائة بالمائة استفهموا مرة أخرى من نبي الله موسى عن لونها؛ رغبة
في تضييق الفارق:
)قَالُوا
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ
إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ( (سورة البقرة : آية 69).
وما يدفعنا للقول إنّ
بني إسرائيل لم يكونوا متعنتين؛ بل كانوا يسألون رغبة في معرفة المطلوب بالضبط، هو
قولهم في الآية التالية: إنا إنْ شاء الله لمهتدون.
)قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ( (سورة البقرة : آية 70).
إنّ قول بني إسرائيل: إنا إن شاء الله لمهتدون؛
يدلّ على رغبةٍ منهم في الوصول للحقيقة، وقولهم: إنّ البقر تشابه علينا؛ يدل على
أنّ هناك مدىً متسعاً من الكائنات التي ينطبق عليها لفظ [البقر]، وليس كما نعتقد
هو البقر الذي نعرفه نحن، أو نعرف صنفاً واحداً منه.
إذا كان المفسر القديم رأى
أنّ موقف بني إسرائيل يدل على خبث وعدم رغبة في تنفيذ أمر الله، دون دليل حقيقي
على ذلك سوى انطباعات من آيات أخرى، فليَ الحق في الاعتقاد أنَّ بني إسرائيل في
هذا الموقف كانوا يرغبون في معرفة نوع البقرة بشكلٍ صحيح، معرفة يقينية، بدليل إخبار
القرآن أنهم قالوا: وإنا إن شاء الله لمهتدون
المسميات في كتاب الله تصف حالةً معينة، ولا تصف
جنساً محدداً؛ بحيث إذا انطبقت الحالة على جنس معينٍ تصحُّ معه تسمية هذا الجنس
بهذه الحالة.
لذلك لو تمكّنا من فهم
التسمية في كتاب الله لزالت كل غرابة، ولأدركنا أنّ مسمى [بقر أو بقرة] هي مسمىً
لحالةٍ معينة، قد تشمل مدىً واسعاً من الكائنات، يشترك جميعها في أغلب الخصائص
والصفات.
إنّ لفظ [بقرة أو بقر]
يشبه بشكل كبير أن نقول: حيوان مجتر؛ أي يجتر الطعام ، أو -بشكل دقيق- حيوان مشقوق
الإصبع، وبالمنطق نفسه سنجد أنّ الإبل تصف
فصيلاً كاملاً من الحيوانات، وكذلك الضأن يصف فصيلاً كاملاً، والماعز أيضاً هو وصف
لفصيلٍ كاملٍ من الكائنات.
عدم شيوع الأنعام
المختلفة في أرض العرب مثل: النعام والإوز والبط والدجاج، يجعلنا نتريّث قليلاً في
قبول تسمية العرب للضأن على أنه الخراف، والماعز هي الماعز المعروفة.
لابد من البحث تاريخيّاً
وعلميّاً ولغويّاً بشكل دقيق؛ لفهم أصل هذه المسميات، والتي ربما نخصص لها فصلاً
في أجزاء قادمة.
بالرغم من أنّ التصنيفات
العلمية وضعت البقر والضأن والماعز تحت نفس الفصيلة، والتي تسمى بقريّات، والتي
انحدرت -كما تقول النظريات- من حيوان يشبه الغزال الحالي صغير الحجم، إلا أنّ
اختلاف المسميات يدفعنا للقول إنّ المسميات الثلاث إضافةً إلى الإبل قد وُجدت على
الأرض من أصولٍ مختلفة، وليست من أصل واحد.
ما أستطيع قوله الآن أنّ
لدينا ثمانية أزواج من الأنعام نزلت إلى الأرض، وأنّ دلالة الألفاظ تقودنا للقول إنّ هذه
الانعام تشمل البقر وما يقع تحته، والإبل والخراف والماعز المعروف، وكذلك كائنات
مثل الدجاج، أو ما ندعوه الطيور الداجنة بصفة عامة، وهي كل ذي ظفر كما ذكر القرآن.
وإن كنا لا نملك أدلةً
كافيةً على أنّ البقر والإبل لم تتطور من أسلاف سابقة؛ فلدينا بعض الآراء العلمية التي
تزعم أنّ الدجاج وبعض الطيور الداجنة تطورت من الديناصورات!
التنوع البيولوجي المذهل
لأكثر من 10 آلاف نوع من الطيور هو لغز
محير للعلماء؛ إذ التفاصيل الجزيئية لهذه المخلوقات غير معروفة بشكل كامل، كما أنها
تسبب ارتباكاً لكثير من العلماء.
إلا أنّه من خلال دراسةٍ
قام بها فريق علميٌّ من جامعة "كينت" البريطانية، بقيادة الدكتور "دارين
جريفين" توصلت إلى أنّ الدجاج والديك الرومي هما الأقرب إلى الديناصورات.
ويعتقد العلماء أنّ
الدجاج والديك الرومي قد انحدروا من أسلافهم الديناصورات، ثم تابعت هذه
المخلوقات التطور بعد انقراض الديناصورات.
تقول الدراسة إنّ كلاً
من الدجاج والديك الرومي قد عانيا أقل عدد
من التغيرات الجينية من مثيلاتها من الطيور الأخرى؛ بسبب تطورها عن الديناصورات.
عن طريق جمع المعلومات اللغوية ومن خلال تحليل اللفظ القرآني، إضافة إلى
المعلومات العلمية؛ يمكننا القول إنّ احتمالية أن يكون الدجاج أو فصيلة الطيور
الداجنة من ضمن الأزواج الثمانية التي
ذكرهم القرآن، وأشار إلى نزولهم دون خلقهم، أو دخولهم ضمن مجموعة المخلوقات التي
قال عنها إنها خلقت من نفس واحدة.
اعتقاد العلماء بأنّ
الدجاج والديك الرومي قد مرَّا بأقلّ عدد من المتغيرات الجينية مقارنة بأنواع
الطيور الأخرى؛ يبدو لنا دليلاً معقولاً على نزول هذه المخلوقات إلى الأرض بشكل
منفصل، غير أنّ العلماء يقولون إنّ هذه المخلوقات تطورت عن الديناصورات، لذا أجد
نفسي مدفوعاً من خلال تحليل اللفظ القرآني للقول بأنّ هذه المخلوقات لم تتطور من
أسلاف سابقة، ووُجدت على الأرض بشكل منفصل، ثم تطورت بعد ذلك.
وربما بحث دقيق عن الأزواج
الثمانية، أو الأصناف الأربعة من الأنعام، ودراسة سلسلة تطورها بشكل علمي سوف يثبت
أنّ هذه الأصناف الأربعة لم تتطور من أسلاف سابقة، وإنما وُجدت على الأرض بشكل
منفصل.
متى نزلت هذه الأنعام إلى الأرض ؟
إلى الآن لا يوجد أي
إشارة لفظية يمكننا الاعتماد عليها في تحديد متى وُجدت تلك الأزواج الثمانية على
الأرض، في المقابل هناك بعض الإشارات
العلمية ترجح أنّ بعض هذه الأنعام ظهر منذ ما يقرب من 60 مليون سنة، كما في موضوع
الدجاج، أي تقريباً بعد الانقراض الكبير الذي حدث على الأرض، والذي سوف نتناوله من
خلال سورة الفيل في الفصل القادم.
ولا نستبعد أن يكون الانقراض
الكبير هو الحدث الهام في تاريخ الكرة الأرضية، والذي كان بمنزلة الإعلان عن قدوم الإنسان وتطوره على هذه الأرض.
ولو فرضنا أنّ الانقراض
الذي حدث منذ ما يقرب من 65 مليون سنة كان يؤسس لمرحلة سيادة الإنسان، فإنه يمكننا
القول إنّ وجود الأنعام ربما يكون كان مصاحباً لتلك الفترة.
هل الأزواج الثمانية هي فقط الأنعام أم أنّ هناك أنعاماً أخرى ؟
لا شك أنّ هناك أنعاماً
أخرى، والتي وصفها ربنا بأنها آكلات العشب، وأنّ منها ما يُركب ومنها ما يؤكل، ومجموعة
الآيات التالية تعطي وصفاً تفصيليًا لمسمى الأنعام:
)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ( (
سورة غافر : الآية 79 ). فالأنعام منها ما يركب، ومنها ما يؤكل، كما توضح الآية، ودون
حاجة لأي توضيح.
)إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ
الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا
كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ( (سورة يونس: الآية 24).
فالأنعام
تأكل من نبات الأرض؛ أي آكلات عشب.
)وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ( (سورة النحل :الآية 66).
)وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم
مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا
تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ( (سورة النحل :الآية80 ).
هذه الآية الكريمة
تمنحنا بعض المعلومات الإضافية عن هذه الأنعام، إذ منها ما له صوف، ومنها ما له
وبر، ومنها ما له شعر.
ولدينا هنا ملاحظة جديرة
بالاهتمام، إذ إنّ الإشارة أنّ الانتفاع قد يكون من جلود وأصواف وأوبار وأشعار
الأنعام حصراً، ولا يجب أن يتعدى للمخلوقات الأخرى، والتى يبدو أنّ لها دوراً
مختلفاً في الاتزان البيئي، وليست مخصصة للإنسان، مما يدق جرس إنذار في وجه أولئك
الذين يعيثون في الأرض قتلاً لكائنات ليست من الأنعام؛ من أجل جلودها، أو من أجل
منافع أخرى.
على ذلك يمكننا القول إنّ
الأنعام تشمل كل آكلات العشب تقريباً، ولكنّ المخصص بالنزول هو الأزواج الثمانية التي
ذكرها الله في كتابه، والتي نعتقد أنها هي الأزواج الثمانية في سورة الأنعام.
إنّ حيوان الفيل والخنزير يبدو لنا من الأنعام؛
لأنها آكلات عشب، والحصان والحمار كذلك من الأنعام، والأنواع الأخرى عدا الأزواج الثمانية
تبدو لنا أنها عانت التطور من أنواع سابقة، بخلاف الأزواج الثمانية التي أنزلها
الله للإنسان، والتي لم يحدث له تطور من أنواع سابقة.
- المشهد الثاني في خلق الأنعام:
إذا كانت الأنعام نزلت
دون تطور من أفراد سابقة على الأرض، فهل حدث لها تطور منذ وجودها وحتى اليوم ؟
بمعنىً آخر هل قوانين التطور انطبقت عليها مثل باقي المخلوقات؟
في سورة الشورى آية
كريمة تشير بلطف إلى مبدأ انتشار الأنعام، واتباعها قانون المخلوقات على الأرض؛
حيث يقول تعالى )فَاطِرُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ
الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ( (سورة الشورى: الآية 11 ).
إذا استطعنا فهم لفظ [يذرؤكم]
فسوف ندرك المقصود، فماذا قال المفسرون عن مدلول لفظ يذرؤكم؟.
✦ جاء
في تفسير الطبري :
«اختلف أهل التأويل في معنى قوله: )يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ( في
هذا الموضع، فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه. عن مجاهد، في قوله: )يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ( قال:
نسل بعد نسل من الناس والأنعام. عن السديّ، قوله: )يَذْرَؤُكُمْ( قال:
يخلقكم.
وقال آخرون: بل معناه:
يعيشكم فيه. عن ابن عباس، قوله: )جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ( يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. عن قتادة )يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ( قال: يعيشكم فيه.» انتهى التفسير.
لفظ [ذرأ] كما قال
المفسرون يعني: نسلٌ من بعد نسلٍ، ومن خلال اللغة نجد أنّ لفظ [ذر] تعني اللطف
والانتشار، أما [ذُرئ] فلها أصل هو يُبذر ويُزرع.
من هنا نجد أنّ لفظ [ذرأ] يعني على وجه التحديد الذرية
.
والآية الكريمة أشارت
إلى أزواج من أنفسنا، وأزواج من الأنعام، وكلاهما يتبعان قانون الذرية؛ وهو انتقال
الجينات عبر التزاوج، مما يشير إلى خضوع الأنعام لقانون التزاوج المنطبق على جميع
الكائنات، وبالتالي ما يجري على الكائنات من تطور وطفرات سوف يجري على المخلوقات
المنتسبة للأنعام تبعاً.
هناك أيضا إشارة إلى
تنوع مصادر المخلوقات في سورة يس عندما يقول ربنا: )سُبْحَانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ
وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ( (سورة
يس : آية36).
الآية تشير إلى وجود الأزواج في النبات وفي
أنفسنا، والتي أثبتنا من خلال الفصول السابقة عملية التطور التي جرت عليها، وكذلك
التحولات التي حدثت فجعلت الكائنات تتكاثر جنسياً بدلا من التكاثر اللاجنسي؛ فيبدو
أنّ هذه التحولات كانت على مستوى الخلايا الحية (الحيوانية) من جهة، وعلى مستوى
الكائنات النباتية من جهة أخرى.
الشطر الأخير في الآية
والذي يشير إلى خلق الأزواج مما لا نعلم، يبدو لي أنه يشير إلى الأنعام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ فنزول الأنعام
أو وجودها دون تطور من أفراد سابقة يجعلها مبهمة لنا وغير مؤكدة المصدر، ولا
نستطيع على وجه الدقة تحديد من أين جاءت.
- المشهد
الثالث في خلق الأنعام:
أصل كلمة [أنعام] هو نعم،
وأصلها كما في قاموس اللغة: ترفه وطيب عيش
وصلاح، وبالنظر إلى الأنعام بصفة عامة نجد أنها كما يقول ربنا وفّرت للإنسان مصدر
غذاء هاماً، وهو اللحوم والألبان، وكذلك استطاع الإنسان ركوب بعض هذه الأنعام؛ مما
سهّل له عملية التنقل، واستخدم بعضها لمساعدته في كثير من شؤون الحياة.
)وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ( (سورة النحل: الآية 5)
)زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ
الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( (آل عمران: الآية 14).
منافع الأنعام عديدة على
جميع المستويات، حتى على مستوى الجلود و القرون والأظافر والأجزاء الداخلية، كلها
مدّت الإنسان بأنواع عديدة من الفوائد.
ولكن هل تؤكل الأنعام
جميعها؟ وهل فصّل الله في كتابه ما يحلّ من الرزق وما لا يحلّ، أم لم يفعل؟
من تبعات عدم فهم ألفاظ
القرآن مسألة غريبة، اختلف فيها الفقهاء، وهي مسألة أكل الضبع، وهو الحيوان
المفترس، والتي يضع لها الفقهاء عنوان (حكم
أكل الضبع)
رغم بساطة المسألة
وبديهية طرحها، من أن الضبع حيوان مفترس وآكل لحوم، إلا أنّ الفقهاء اختلفوا في
حكم أكل هذا الحيوان.
ولكن لماذا حدث الاختلاف
على هذا الحيوان بالذات؟
من وجهة نظري أنّ
الاختلاف يرجع لسببين: السبب الأول يعود إلى البيئة في الجزيرة العربية والتي يبدو أنها كانت تستسيغ أكل هذا
الحيوان، ولم تجد نصاً صريحاً حسب فهمها يحرم هذا الحيوان بالذات، بل حاولت
استبعاده من آكلات اللحوم، والتي تسمى "السباع" بتبريرات غريبة كما سوف
نرى، والسبب الثاني: هو عدم القدرة على فهم التعبيرات القرآنية بشكل سليم، مما جعل
الأمر مشوشاً لدى الكثيرين.
أختلف الفقهاء في مسألة
تحريم أو حِلّ أكل الضباع، فقد أفتت مجموعة من الفقهاء بجواز أكل الضباع، وهو مذهب
الشافعية والحنابلة، استند الفقهاء على
رواية لجابر بن عبد الله عندما سأله سائل عن حكم أكل الضبع، إذ سأله السائل: هل
الضبع صيد هي؟ قال جابر: نعم، قال: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله؟ قال:
نعم.
ولم يقف العلماء على أثر
يثبت أنّ رسول الله أكل لحم ضبع.
وورد عن عكرمة أنه رأى
لحم الضبع على مائدة ابن عباس، وكذلك استدل الشافعي على جواز أكل الضبع بأن لحم
الضباع كان يباع ويشترى بين الصفا والمروة
في مكة المكرمة.
على الجانب الأخر هناك
فريق من الفقهاء يرون حرمة أكل الضباع، مستندين إلى حديث رواه مسلم أن الرسول نهى
عن أكل كل ذي ناب من السبع، وكذلك حديث خزيمة عن النبي، عندما سأله عن أكل الضبع، فقال
الرسول: أوَيأكل الضبع أحد؟ وسأله عن أكل الذئب، فقال: أوَيأكل الذئب أحد فيه خير؟.
والقائلون بجواز أكل
الضبع لم تقنعهم أدلة القائلين بعدم جواز أكل الضبع، إذ يرون أنّ الضبع ليس من
السباع العادية (أي لا يعتدي على الإنسان)، لذا لا يشمله التحريم كالسباع التي
تهاجم الإنسان.
لا شك أنّ الانطلاق من
مسلمات غير دقيقة يقود إلى نتائج مغلوطة، وهذا ما حدث بالضبط في مسألة ما هو مباح
وما هو غير مباح من الطعام.
من القواعد الشرعية الأساسية
في فهم ما هو مباح وما هوغير مباح من الطعام هي
القاعدة الفقهية الأصيلة (الأصل في الأشياء الإباحة) والتي تؤسس لكثير من
القواعد الفقهية في التشريع، يستدل القائلون بهذه القاعدة على مجموعة آيات في كتاب
الله وهي كالتالي:
الآية الأولى: )هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا( (سورة البقرة: آية 29).
هذه الآية لا تدل على أنّ
الأصل في الأشياء الإباحة، وإنما تقريرٌ من رب العالمين على أنّ ما في الأرض يسير
في نظام متوازن لخدمتنا، وليس معنى ذلك أننا نأكله أو نسخّره مثلا بالركوب أو حمل
الأمتعة، وهو لا يؤكل ولا يسخّر، وإنما يلزمنا فهم وظيفة الأشياء وعملها في هذا
الكون لكي نستطيع التعامل معها بما تستحق، ويكون هذا التعامل منسجماً مع القوانين
الكونية التي أرشد ربنا إليها.
الآية الثانية: )قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ( (سورة الأعراف : آية 32).
هذه الآية
أيضًا تقرر أنّ الطيبات حلال لعباده، الحِل هنا على شرط الطيبات، وليس حلالاً غيرَ
مشروط، ولا يمكن أنْ يُفهم من هذه الآية أنّ الأصل في الأشياء الإباحة.
الآية الثالثة: )قُلْ لَا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً) (سورة
الأنعام : آية 145).
هذه الآية هي حجر الأساس
في فهم القاعدة الفقهية (الأصل في الأشياء الإباحة)، حيث يرى الفقهاء من خلال هذه الآية أنّ الله لم
يجعل التحريم أصلاً، بل جعل الإباحة أصلاً، ولعل الفقيه لم ينتبه لبداية الآية؛
حيث يقول الله: لا أجد فيما أوحي إلي، أي مَرجع كل شيء إلى الوحي.
هذه الآية بالتحديد لا يمكن فهمها بمعزل عن
الآية الأولى في سورة الأنعام، التي حددت ما يجوز أكله من خلال الوحي نفسه:
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ
مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ
يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(
(سورة المائدة : الآية 1).
هذه الآية الكريمة تضع
النقاط على الحروف، وتعلن أنّ الأصل في مسألة الطعام هو المنع أو عدم
الإباحة؛ إذ إنّ معنى قول الله: أحلت لكم
بهيمة الأنعام، أنّ باقي المخلوقات الأخرى لا يحل أكلها.
مثال ذلك في كتاب الله: أحل الله ليلة الصيام الرفث إلى النساء، وعلى
ذلك الأصل في الصيام المنع، والاستثناء هو الرفث ليلة الصيام.
)أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ
لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ
لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ
مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى
الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ
حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( (سورة البقرة : آية 187).
ذَكر التعبير القرآني
العظيم جواز الاستفادة من المخلوقات الأخرى، وبالتحديد الأنعام، في موضعين: جاءت
مرة بصيغة (أحلت لكم بهيمة الأنعام) في سورة المائدة، ومرة جاءت في سورة الحج
بصيغة (أحلت لكم الأنعام) بدون بهيمة.
سوف نلاحظ أنّ حِل بهيمة
الأنعام خاصٌّ بالطعام، ويمكن استنباط ذلك من سورة الحج، حيث ذَكَر ربنا أنَّ
بهيمة الأنعام رزقٌ من لدنه، نأكل منها ونطعم الفقير.
)لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ
لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا
رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ( (سورة الحج: آية 28)
بينما الآية الكريمة
التي جاءت بصيغة الأنعام دون لفظ بهيمة فتدلّ على المنافع بصفة عامة، حيث يقول
ربنا أنّ لنا فيها منافعاً إلى أجل مسمى، وإنْ كان ذكر البيت العتيق يوحي أنّ المقصود
هو منفعة الأكل:
)وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ
(30)حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا
مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
(33)( (سورة الحج : آيات 30-33).
من هنا نستطيع القول إنّ
الأصل في مسألة الطعام هو المنع، وليس الإباحة، فليس مسموحاً للإنسان أنْ يتناول
كلّ ما طالته يداه ويأكله، وإنما إحلال الأكل مختصٌّ ببهيمة الأنعام فقط من
بين المخلوقات والكائنات الأخرى التي تعيش
معنا على الأرض.
هذه القاعدة القرآنية العظيمة تكف يد الإنسان عن
تناول ما لا يجب تناوله، وتكفّه عن الاعتداء على المخلوقات الأخرى؛ بدعوى أنها
مباحة له يفعل فيها ما يشاء.
هذه الأمم من المخلوقات لها وظائف عديدة في هذا
الكون، منها ما نعلمه ومنها ما لم نحط به خُبراً، فلابد من الالتزام بالتعليمات
القرآنية بعدم التعدي على المخلوقات الأخرى بأي حجة كانت.
لو فهم الفقهاء أنّ الأصل
في الطعام هو المنع، بحيث لا يتم إطلاق يد الإنسان للفتك بالمخلوقات غير المخصصة
للأكل؛ لما اختلفوا في جواز أكل الضبع، وهو حيوان من آكلات اللحوم، ولا ينتمي
لفصيلة الأنعام آكلات العشب، فضلاً عن
كونه من بهيمة الأنعام، التي جاء الخطاب للإنسان بالاستفادة من لحومها.
الإرشاد الإلهي القاضي بأنه
أحلّ لنا بهيمة الأنعام يدحض أي فكرة بجواز أكل آكلات اللحوم، أو أياً من الأنعام
بخلاف بهيمة الأنعام.
لسنا في هذا الفصل بصدد
تفنيد المباح وغير المباح من أنواع المأكولات بصفة عامة، فهناك آيات كريمة فصّلت
طعام البحر، وآياتٌ أشارت إلى لحوم الطير، وآياتٌ تحدّثت عن النبات الذي تخرجه
الأرض، وتحتاج لفصل كامل للحديث عنها، أما هنا فيكفينا الإشارة إلى الأنعام آكلات
العشب وما يحل منها، كما ذكر كتاب الله.
وبعد بيان القاعدة
القرآنية في ما يحل أو ما لا يحل أكله، وبيان عدم دقة القاعدة الفقهية (الأصل في
الأشياء الإباحة) الخاصة بالطعام، لابد أن نركّز الجهد في محاولةٍ لفهم ما هي
بهيمة الأنعام؟
بهيمة الأنعام:
جذر كلمة [بهيمة] هو بهم،
وكما جاء في قاموس اللغة: هو أنْ يبقى الشيء لا يُعرَف المأتى إليه، أو اللون الذي
لا يخالطه غيره سواداً، ومن صفات كلمة [بهم] التفرد وعدم الوضوح، كما هو واضح من
جذر الكلمة.
ويبدو لي أن إصبع الإبهام سمي كذلك بسبب انفراده
عن بقية الأصابع، إذ يأخذ اتجاهاً مختلفاً عن اتجاه الأصابع الأخرى.
لسان العرب يطلق على
الإبل والبقر والغنم بهيمة الأنعام، ويبدو لي أنّ هذا الوصف مطابق لبهيمة الأنعام،
ولكن يمكننا إضافة الطيور الداجنة إلى هذا الوصف، بحيث تدخل هذه الطيور تحت مظلة
بهيمة الأنعام إلى حين تحليل ألفاظ مثل الضأن والماعز، وفهم صفاتها وخصائصها.
يبدو لي أنّ وصف هذه المخلوقات بأنها بهيمة
الأنعام إنما جاء بسبب تفردها عن بقية الأنعام من حيث مسألة التطور؛ إذ إنها تختلف
عن بقية الأنعام، بل بقية المخلوقات في أنها لم تتطور من أفراد سابقة.
لا يمكننا أنْ نُغفل
شيئاً هاماً بخصوص الأنعام بصفة عامة، وهو أنّ أجهزة الإدراك لديها بسيطة ومتواضعة
نوعاً ما، في حين أنّ الجهاز الهضمي لديها ذو كفاءة عالية. كما وصف كتاب الله
الذين لا يعقلون ولا يفقهون بوصف الأنعام؛ إشارة إلى ضعف الحواس لدى هؤلاء الذين لا يعقلون.
فالسمع والبصر والإحساس
هي النقاط الرئيسة للإدراك والوعي، وعندما يصيبها عطبٌ يصبح الوعي غير كامل، ووصف
هؤلاء المكذبين بالأنعام يشير إلى أنّ الأنعام بطبيعتها لا تملك وعياً وإدراكاً ذا
كفاءةٍ عالية؛ نتيجةً لتواضع حاسة السمع والبصر والإحساس لديها.
)وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ
بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ( (سورة الأعراف: الآية 179 ).
)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا( (سورة الفرقان : الآية 44).
فهذا الضعف في الحواس
لدى الأنعام، وتواضع إدراكها يبدو متوافقاً تماماً مع وظيفتها، ومع عملها الأساسي
على هذا الكوكب، إذ إنها حلقة وسيطة في نقل الطاقة للإنسان، من خلال الاستفادة
منها بوصفها غذاءً، وكذلك المنافع الأخرى، مثل: الركوب أو الاستفادة من منتجاتها.
- المشهد الرابع في خلق الأنعام:
تعتبر الأنعام إحدى
حلقات الهرم الغذائي، والتي من خلالها يمكن انتقال الطاقة من النباتات إلى الإنسان،
وهي حلقة من حلقات توازن البيئة.
يتربع على قمة الهرم الغذائي الإنسان والمفترسات،
والتي بدورها تتغذى على آكلات العشب، وآكلات العشب تتغذى بدورها على النباتات.
حتى يكتسب جسم الإنسان
وزناً قدره واحد كيلو جرام، يلزمه تناول
عشرة كيلو جرامات من لحوم الأنعام، والتى بدورها يجب أن تكون قد أكلت ما يقارب 100
كيلو جرام من الأعشاب، وهذا يعني أنّ طاقة 100 كيلو جرام من الأعشاب انتقلت
للإنسان في صورة 10 كيلو جرام من اللحوم، من خلال الحلقة الوسيطة وهي الأنعام.
هذا التصميم البديع جزء
من التوازن البيئي، وأيّ عبث بهذا التوازن نذير شؤم، ويمكن أنْ يسبّب أضراراً لا
حصر لها؛ بسبب العلاقات المتشابكة
التي تحكم هذه السلاسل الغذائية
وتنتقل من خلالها الطاقة.
في كتاب أصل الأنواع أعطى
"تشارلز داروين" مثالاً لأحد السلاسل الغذائية، وكيف يمكن أنْ يتأثر كل كائن
فيها بالآخر ، واكتشف داروين أنّ حشرة النحل الطنّان تقوم بتلقيح زهور البرسيم
الأحمر؛ بسبب قدرة لسانها الرفيع في الوصول إلى زهرة البرسيم؛ لذلك فسر دارون وجود
أعشاش النحل قرب المدينة، وبعيدًا عن الحقول؛ بسبب خوف النحل من الفئران والتي
تكثر في الحقول، وتقل في المدن؛ بسبب انتشار القطط في المدينة.
وعلى ذلك كانت القطط هي السبب المباشر في إبعاد
الفئران، وتوفير بيئة مناسبة لأعشاش النحل، والذي لقّح بدوره البرسيم الأحمر، والذي
كان الغذاء الأساسيّ للماشية، والتي يتغذى عليها جنود الأسطول البريطاني.
يقول داروين إنّ نجاح
الأسطول البريطاني يرجع بالأساس إلى البنات العوانس اللائي يربين القطط في البيوت؛
لأنها وفرت حماية للنحل، الذي لقح زهور البرسيم، ممّا أدى إلى توفّر غذاء للماشية،
التي وفّرت الغذاء الكافي لجنود الأسطول البريطاني.
برغم المبالغة في المثال إلا أنه يعطي مثالاً
جيداً لأمثلة السلاسل الغذائية، وكيف أنها ترتبط بعوامل مختلفة، وأنّ أيّ تقصيٍر
في أحد هذه الجوانب قد يسبب أضراراً جسيمة؛ إنها نظرية جناح الفراشة على مستوى الاتزان
البيئي.
ولذلك حذر ربنا في كتابه
من المساس بهذا التوازن البيئي الخاص بالأنعامو عندما أرشد أنّ الشيطان سوف يأمر
الناس ببتك آذان الأنعام.
بتك آذان الأنعام:
)وَلأُضِلَّنَّهُمْ
وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ
وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ
وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا( (سورة النساء :الآية 119).
ما هو بتك آذان الأنعام
الذي حذر القرآن الكريم منه، ومن اتباع خطوات الشيطان في ذلك؟
عندما حاول المفسرون
تفسير قول الله تعالى )فليبتكن آذان
الأنعام( جاءت
تفسيراتهم كالعادة تدور حول البيئة البدوية، وعادات هذه البيئة، ومقصورة على مجتمع
الجزيرة العربية، وعلى زمن نزول القرآن.
✦ يقول
الطبري بخصوص هذه الآية الكريمة، وخصوصاً
التعبير القرآني: )فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذَانَ الأَنْعَامِ(
وكذلك قول الله )وَلآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ( ما
يلي:
«)ولآمرنهم
فليبتكن آذان الأنعام(،
يقول: ولآمرن النصيبَ المفروض لي من عبادك، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد حتى
يَنْسُكوا له، ويحرِّموا ويحللوا له، ويشرعوا غيرَ الذي شرعته لهم، فيتبعوني
ويخالفونك. و [البتك]: القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها
بَحِيرة. وإنما أراد بذلك الخبيثُ أنه يدعوهم إلى البحيرة، فيستجيبون له، ويعملون
بها طاعةً له.
القول
في تأويل قوله : )وَلآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ(
فقال
بعضهم: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم، بإخصائهم إياها. عن ابن
عباس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نـزلت: )ولآمرنهم فليغِّيرُن
خلقَ الله(». انتهى
التفسير.
نلتمس العذر للمفسر الذي
اعتقد أنّ بتك آذان الأنعام هو بمنزلة علامة في أذن الحيوان تدل على أنها منسوبة
لأحد الأصنام أو كأنها نذر لهذه الأصنام، لكن المفسّر لم ياخذ بعين الاعتبار الآية
كلها، وإنما حاول التفسير كلمة كلمة، أو جزءاً جزءاً بمعزل عن باقي الآية، لكن لو
حاولنا فهم المسألة التي تدور حولها الآية الكريمة، لأمكننا فهم التعبير القرآني )فليبتكن آذان
الأنعام(
.
الآية الكريمة تتحدث عن ضلال وأمانٍ يقوم
بموجبها الإنسان ببتك آذان الأنعام، وهذا البتك هو تغيير في خلق الله.
[البتك] كما جاء في
اللغة: هو القطع، ولا يمكن فهم علاقة البتك بالآذان إلا من خلال فهم الآية الكريمة
في سورة الكهف التي ذكرت الضرب على الآذان.
)فَضَرَبْنَا عَلَى
آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا( (سورة الكهف : آية 11).
الضرب على الآذان في
الآية الكريمة هو قطع الصلة بين أهل الكهف وبين العالم الخارجي؛ مما أدى لتوقف
المسار الطبيعي للحياة بالنسبة إليهم .
بتك آذان الأنعام لا
يمكن أن يفهم إلا من خلال هذا الإطار، سيما وقد جاء بعدها تغيير خلق الله.
عندما فسر المفسرون تغيير خلق الله قالوا: إنّ معناه
الإخصاء .
الإخصاء حقيقةً لا يمكن اعتباره تغييراً في خلق
الله، وإنما هو تعطيل لوظيفة مهمة في الأنعام، والذي يمكن وصفه بالجعل، أي تحول
جزئي، وليس تغييراً بالخلق. فالمسألة أبعد من ذلك لأن الإنسان سوف يحاول تغير مسار
الحياة الطبيعي لهذه الحيوانات، والتي هي حلقة أساسية من حلقات التوازن البيئي، في
شكل من أشكال تغيير خلق الله.
الآية تتحدث عن محاولات تعجيل إنتاج هذه
المخلوقات، أو محاولات استنساخ هذه الحيوانات، أو التعديلات الوراثية التي تجري حالياً على أنواع عديدة من الكائنات، رغبة
في تحسين الإنتاج؛ مما قد يشوّه الخريطة الجينية لهذه المخلوقات.
هناك جدل قائم بين
العلماء حول هذه التعديلات الجينية، هل هي شيء ضروري ومفيد؟ أم أنها قنبلة موقوتة
وكارثة بيئيّة، سوف تسبب خللاً في توازن النظام البيئي للكون؟.
في السباق المحموم الذي
تغذّيه الحاجة الاقتصادية يرغب الإنسان بالحصول على مواصفات محسنة للسلالات التي
يربيها، مما دفعه انتهاج التعديل الجيني وسيلة ناجحة في تحقيق هذا الهدف.
في بعض المزارع يستخدم
المزارعون طريقة فيزيائية للتخلص من قرون الحيوانات التي يربونها، مثل استخدام
حديد ساخن أو مادة كاوية للتخلص من قرون الحيوانات، وبذلك يضمن المزارعون سلامة
هذه الحيوانات، وأنها لن تؤذي بعضها البعض.
هذه الحاجة دعت العلماء للتفكير في استخدام
التعديل الجيني للتخلص من هذه القرون، وبالتالي تخفيف معاناة الحيوان نفسه.
في جامعة كاليفورنيا تم
تعديلٌ جينيّ على جينات ثور، بحيث ينتج ذريةً بدون قرون، وقد جاء الجيل الأول جميعه بدون قرون فعلاً.
الباب الرئيس حالياً
لتقبل فكرة التعديل الجيني هو ادعاء تخفيف معاناة الحيوان ذاته، من خلال جعله أكثر
ملاءمة مع بيئته، وأكثر تقبلاً، مثل ما حدث مع بعض الأبقار وتعديل جيناتها وراثياً؛
لتصبح أكثر قدرة على تحمل الأجواء الحارة.
نسبة ليست قليلة من
المربين يدعمون بشدة إنتاج حيوانات معدلة وراثياً؛ للحصول على الصفات المرغوبة، والتي
تُدرُّ عليهم أكبر قدرٍ من الأرباح، عن طريق زيادة كمية اللبن، أو زيادة معدل
الحصول على اللحم.
لا شك لدي أنّ هذه
التعديلات الوراثية التي تجري على الأنعام، والادعاء بأنها لحماية الحيوان نفسه، أو
لزيادة الإنتاجية، ما هي إلا تلك الأمانيُّ التي أخبر عنها القرآن؛ التي بسببها يتعجّل الإنسان ويتدخل، ومن ثم
يؤثر على مسار الحياة الطبيعي لهذه المخلوقات .
بتك آذان الأنعام هو
عملية عزل هذه المخلوقات عن مسارها الطبيعي؛ كالمثال الذي ضربه الله عن أهل الكهف
بالضرب على آذانهم.
لعل اللمحة القرآنية والتحذير الإلهي من العبث
الجيني بهذه المخلوقات لن يجد آذان مصغية؛ بسبب طبيعة الإنسان المحبّ للتجريب
والاكتشاف.
أتمنى ألّا يأتي اليوم الذي يدرك فيه الإنسان
خطورة هذا الأمر، ويكون قد فات الأوان، وأصبحنا نعيش مع كائنات معدلة بالكامل، قد
تسبب كوارث لا نعلم مدى خطورتها، ومدى تأثيرها على باقي المنظومة الكونية.
يبدو لي أنَّ الكائنات التي أنزلها الله تعالى
ولم تتطور من أفراد سابقة وهي الأزواج الثمانية بالتحديد، مصممة بطريقة فريدة، تجعلها
وسيطاً ممتازاً ينقل الطاقة للإنسان، وأيّ عبث بجينات هذه الحيوانات نذير شؤم، وخطأ
كارثيّ.
والآن نستطيع تلخيص هذا
الفصل من خلال نقاط محددة.
تلخيص الفصل:
1. يوجد ثمانية
أزواج رئيسة من الأنعام، نزلت بطريقة ما، ولم تتطور على الأرض من أفراد سابقة.
2. بمجرد نزول
الأنعام خضعت لآلية التطور؛ شأنها شأن جميع المخلوقات.
3. المسموح
بأكله هو فقط بهيمة الأنعام، وهي التي حاولنا قدر استطاعتنا تحديدها في ثمانية أزواج (أربع أصناف).
4. الأزواج الثمانية
هي أسماء مجموعات رئيسة، ومن المتوقع أنْ يضمّ كل مسمىً تحته عدداً كبيراً جداً من الأنواع.
5. يحذرنا القرآن
من أنْ يقودنا التعجل والتسرع إلى تغيير صفات هذه الأنعام، وإن كان تحت عنوان
الأغراض النبيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق