الفصل الأول
"ستة أيام"
أستطيع أن أتفهمَ رعب
الكنيسة في أوروبا من انتشار نظرية التطور؛ وذلك بسبب تعارضها الواضح مع رؤيتهم
التاريخية للنصوص الدينية في العهد القديم عن الخلق الكامل، ولكن ما لا أستطيع
فهمه هو موقف رجال الدين الإسلامي وتصلبُّهم، في ظلِّ رحابة واتساع اللفظ القرآني،
و في ظل وجود آيات عديدة كما سنرى تسمح بالحوار والنقاش, فلم يكن العلم يومًا
عدوًا لكلمات رب العالمين الحقيقية؛ وإنّما رجال الدين هم من يفعلون ذلك, عندما
يتملكهم الغرور المعرفي، ويظنون أنّ بإمكانهم التوقيع عن رب العالمين, فيصبّون
تصوراتهم على اللفظ القرآني دون منهج علمي حقيقي لفهم اللفظ.
التطور فكرة
قديمة قدم التاريخ، تشهد بها الحياة ومظاهرها، ويشهد عليها العلم وطرقه، وليست
بدْعاً من العلماء، أو أضغاث أحلامِ " تشارلز داروين"، وإن كانت فكرة
التطور لها إرهاصات على مر التاريخ؛ إلا أن داروين يُعتبر بحقًّ الأبَ الروحي، والمؤسس
لنظرية التطور بمفهومها الحديث، وذلك بفضل التأصيل الجيد، والتنظير المنطقي، والدلائل
والحجج والبراهين القوية، والمشاهدات والأبحاث الغزيرة التي ضمنها كتبه، وأشهرها
كتاب "أصل الأنواع"، وكتاب "نشأة الإنسان"..
دعونا الآن نلقي نظرة
سريعة على فكرة التطور عبر التاريخ، وصولاً إلى العصر الحديث، ثم ننتقل إلى مدلول
اللفظ القرآني الذي تحدث عن التطور بشكل صريح، ولكن لم يلتفت إليه أحد.
- التطور عند الإغريق:
بالعودة للوراء سنجد
الفيلسوف اليونانى "أناكسيمادر" المولود عام (610) قبل الميلاد، قد
أشار إشارةً واضحةً إلى مسألة التطور هذه، من خلال قوله: "إنّ أول ظهور
للحيوانات كان في البحر، وقد وُجدت هذه الحيوانات داخل لحاء شوكيّ، ومع مرور الوقت
تبخّرت الرطوبة، وجفَّ الغشاء الشوكيّ، ثم تحطَّم وتكوَّنت الأرض اليابسة"، فالفيلسوف
"أناكسيمادر" يعتقد أنّ البشر الأوائل عاشوا داخل أفواه الأسماك، لأنهم
لم يستطيعوا في البداية التكيف مع بيئة ومناخ الأرض، ولكن مع تقدم الزمن، وتحسّن
ظروف المناخ، خرج البشر من أفواه الأسماك، واستطاعوا العيش على سطح اليابسة.
أما الفيلسوف اليونانى
"إيمبيدوكليس" والذى عاش من عام
(490) إلى (430) قبل الميلاد، وهي الفترة التي سبقت ظهور الفيلسوف الشهير
"سقراط" -وهو صاحب نظرية العناصر الأربعة الشهيرة- يقول: "إنّ
أربعة عناصر رئيسة هي التي تكوّن هذا العالم، وهي الماء والتراب والهواء والنار، وسمى
"إيمبيدوكليس" هذه العناصر الأربعة بالجذور، ولم يستخدم لفظ عنصر، ويُعْتَقَدُ
أنّ من استخدم لفظ عنصر هو "أفلاطون" فيما بعد.
كان"إيمبيدوكليس"
يرى أنّ أي زيادة أو نقص يطرأ على مكونات الطبيعية هو بالأساس يعود إلى درجة ونسبة
امتزاج هذه الجذور الأربعة معًا، وقد ظلّت هذه النظرية عقيدة علمية راسخة لما
يقارب الألفي عام بعد "إيمبيدوكليس."
- التطور عند الفلاسفة المسلمين:
شهد العصر الذهبي للدولة
الإسلامية إرهاصات لمفهوم التطور لا يمكن تجاوزها، كانت تلك المحاولات ظاهرة بكل
وضوح في كتابات الكثير منهم، وعلى رأسهم "الجاحظ" في القرن التاسع
الميلادي، إذ أشار الجاحظ بشكل مباشر إلى تطور الأنواع، والصراع من أجل البقاء، وأشار
كذلك إلى سلاسل الغذاء، ووصفَ تأثير البيئة على الحيوان، وإن لم يستخدم لفظ تطور
بشكل صريح، لكنّه استخدم ألفاظاً أخرى، مثل: النقل والنسخ والانقلاب.
كما نجد الفيلسوف أحمد
بن يعقوب والمشهور بـ"مسكويه"، قد قسم النباتات في ثلاث رتب، يتطور
خلالها النبات من رتبة إلى أخرى، وقسم
مسكويه أيضًا الحيوانات في خمس رتب، اعتماداً على الحواس التي يمتلكها
الحيوان.
يرى "مسكويه" كما جاء في كتاب
"مجدى عبد الحافظ" (فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام): "إنّ آخر
مرتبة النبات مرتبطة بأول مرتبة من الحيوان، وآخر مرتبة من الحيوان مرتبطة بأول
مرتبة من الإنسانية". نستطيع أن نلاحظ أنّ أول بزوغ لفكرة ارتباط مراتب
الإنسانيات بمراتب الحيوانات عند "ابن مسكويه" واضحة، وتكاد تلامس
التصريح بأنّ الإنسان هو امتداد لما قبله من الرتب الحيوانية.
كان "مسكويه"
يرى التسلسل مميزاً للكائنات؛ إذ تنتظم جميعها في سلاسل كالعقد، كلُّ نوع متصلٌ
بالذي يليه من أحد الأطراف، ومرتبطُ بالذي يسبقه من الطرف الآخر، ولابن مسكويه
عبارة مشهورة تقرر ذلك التسلسل دون أي مواربة إذ يقول: "لم يبق بين النخيل
وبين الحيوان إلا أن يكون حرَّ الحركة ليحصل على الغذاء".
من الفلاسفة المسلمين
الذين تحدثوا عن فكرة التطور مجموعة تُدعى "إخوان الصفا"، وهي للأسف
مجموعة مجهولة الهوية لكنَّ آثارهم تشرح فكرة التطور، وتعطينا دليلًا آخر على وجود
فكر التطور الواضح، خلال عصر الازدهار الإسلامي الذي سبق "داروين" و
"لامارك" بقرون؛ فقد اعتقد "إخوان الصفا" أنّ ترتيب الحيوانات
يبدأ من الأدنى منزلةً إلى الأعلى منزلةً،
ويكون ذلك خلال مدىً زمني طويل نسبيّاً.
"زكريا محمد
القزويني" من العلماء المسلمين
المعروفين أيضاً، وله إسهامات لا تخطئها العين في مسألة التطور؛ فقد قسّم الموجودات
إلى كائنات حية، وكائنات غير حية، وكان يعتقد أن هناك سلاسلَ أو حلقات وصْل، بين
بعض الكائنات وبعضها الأخر، تبدأ هذه السلسلة بالتراب، ثم المعادن، ثم النبات، ثم
الحيوان، ثم الإنسان، وتنتهي النفس الإنسانية في تطورها واكتمالها عند اتصالها
بالنفوس الملائكية، وهي أرقى درجة في سلم التطور.
كذلك نجد لـ "ابن
خلدون" المتوفى (808) هجرية وجهة نظر معتبرة في مسألة التطور؛ فقد كان يرى
أنّ المخلوقات جميعها محكمة الترتيب والانتظام، وأنّ تحوّل بعض الكائنات إلى
كائنات أخرى هو مدعاة للإعجاب والقدرة، وذهب "ابن خلدون" إلى ما ذهب إليه أقرانه من اعتبار أنّ آخر
السلسلة من الكائنات يمكن أن ينتقل للسلسلة الأعلى، ويصبح بداية لسلسلة جديدة.
عملية تحول الكائنات من
نوع إلى نوع آخر بدت واضحة جداً في فكر "ابن خلدون"، كما كانت واضحة في
فلسفة "إخوان الصفا"، مما يؤشر على مدى رقي وعمق أفكار هذه المرحلة في
وقتها من تاريخ الأمة.
وإذا كان هؤلاء العلماء
منذ القرن الثالث الهجري وحتى نهاية القرن السابع الهجري على هذا القدر من العلم
والتفكير المنطقي والحس الفلسفي العميق؛ فما الذي أدى إلى تراجع هذا التفكير، حتى
صار مجرد عرض نظريات التطور كأنّه ضرب من ضروب الكفر والزندقة؟
وعلى النقيض من فكر
هؤلاء الفلاسفة وتصوراتهم، نجد فكرة الخلق الكامل هي الفكرة المسيطرة على أدمغة
رجال الدين، ومتشبعة بها نفوسهم؛ فكلُّ المخلوقات -في رأيهم- خُلقت منفصلة على
هيئتها الحالية دون تطور.
لا ننكر أنه قد حدثت
خلخلة فكرية في مسألة الخلق الكامل للمخلوقات، إذ وُجد الآن بمن يقول بالتطور في
المخلوقات، ولكن يظل الإنسان خارج هذه المنظومة ويبقى الإصرار على خلقه كاملًا هو
سيد الموقف.
إنّ فكرة الخلق الكامل
أو الخلق المنفصل ليست فكرة قرآنية، ولا يوجد تلميح إلى ذلك؛ وإنّما هي فكرة من
العهد القديم بامتياز، تبنّاها رجال دينٍ مسلمين، ودافعوا عنها باستماتة، وصدَّرها
هؤلاء للعالم على أنَّها كلام الله ومراده.
لا شك أنّ قصة الخلق
ونشأة الحياة استحوذت على اهتمام الإنسان منذ فجر التاريخ، وحاول الإنسان جاهداً
فهم الخطوة الأولى وكيف جاءت، وبينما كانت الأساطير تُحاك على أشدّها، وتُنسج حول
بداية الخلق ونشأته؛ إذ بالعهد القديم يضع خطوطَ قصةٍ أكثر حبكة وأكثر قبولًا؛ فقد
جاءت قصة الخلق، وخلق آدم بالتحديد من خلال
سفر التكوين، والتي افترضت أنّ الخلق تمّ في ستة أيام، كلُّ يوم مرحلةٌ
مستقلة.
قصة الخلق في العهد القديم:
بحسب سفر التكوين في العهد القديم، تمّت عملية الخلق في ستة
أيام، ثم استراح الخالق في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهذا ما نفاه ربنا سبحانه
وتعالى تماماً في القرآن؛ من أنّه سبحانه ما مسَّه من لُغوب,. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ (سورة ق : الآية 38).
جاءت عملية الخلق في سفر
التكوين من العهد القديم مقسَّمة على الأيام الستة كما يلي:
اليوم الأول : تمّ فيه
فصل النور عن الظلام.
اليوم الثاني: تمّ زيادة
ارتفاع السماء، وفصل السماء عن المياه المحيطة بالأرض.
اليوم الثالث: تمّ فصل
الأرض والماء، أو ظهور اليابسة.
اليوم الرابع: تمّ خلق
الشمس والنجوم والقمر.
اليوم الخامس: تمّ خلق
كائنات الجو وهي الطيور، وخلق كائنات البحر وهي الأسماك.
اليوم السادس: تمّ فيه
خلق باقي الكائنات البرية، وخلق الإنسان على صورة الرب ليصبح مشرفاً على باقي
الكائنات.
وهذه الأيام الستة -كما
في سفر التكوين- تحمل معلومات عن بداية الخلق، ولا تذكر أيَّ إشارة للتطور،
ويَعدُّها المتديّنون نصوصاً قاطعة على خلق الكائنات خلقاً مستقلاً، وخصوصاً
العبارة القائلة: "الإنسان على صورة الرب".
قصة الخلق في سفر
التكوين - بحسب رؤية المؤمنين بالعهد القديم- متناقضة بلا شك مع نظرية التطور؛ ففكرة الخلق الكامل للكائنات والإنسان نجدها
واضحة بشدة في عبارة: "الرب خلق آدم على صورته" وهذه العبارة المنسوخة
من سفر التكوين، والموجودة في بعض الروايات التي تتحدث عن خلق آدم، منسوبةٌ لرسول
الله.
فهل ألفاظ القرآن الكريم
تؤيّد فكرة الخلق المنفصل؟ أم أنّ التطور حاضر بقوة من خلال الألفاظ والتعبيرات
القرآنية؟
لقد ذُكِر التطور في
القرآن ذِكراً يكاد يلامس التصريح، غير أنّ العقول وقتها لم تستوعب مفهوم التطور، إذ
لم يكن لديها أيّ معرفة مسبقة بعملية التطور، وكلّ ما هو متاح وقتها بعضُ تفسيرات
عن خلق الحياة في العهد القديم، وقبل أن نخوض هذه المعركة حامية الوطيس، دعونا
نلقي نظرةً سريعة على نظرية التطور، وبعض الانتقادات الموجهة إليها مع تحليل هذه
الانتقادات.
حول نظرية التطور:
القول بأنّ داروين ليس
هو أول من قال بفكرة التطور، لا يعني أنّ أحداً قبله قد استطاع أن يُقدّم إسهاماً
علميّاً قيِّماً؛ يمكن معه أن نعتبره مؤسِّس نظرية التطور، بل هي فلسفات، أكثرها
قائمٌ على تصورات أصحابها ومشاهداتهم، ولا يدعمها دليل حقيقي.
إنّ نظرية التطور التي
أسسها "تشارلز داروين" تُعَدُّ سبقًا معرفيًّا لا مثيلَ لهُ، من حيث كمّ
الاستنتاجات القائم على الأدلة والبراهين العلمية، ويجدر بنا أن نشير إلى أنّ
أفكار الفرنسي "جان لامارك" في فهم التطور كانت البداية الحقيقية، التي مهدت
الطريق لنظرية التطور، التي وضعها بعد ذلك "تشارلز داروين".
و"جان باتيست
لامارك" عالم أحياء، وهو من أوائل من اقترحوا نظرية التطور، ومن أهم
استنتاجاته أنّ الكائنات تُغيِّر من صفاتها لكى تتلائم مع بيئتها، وأنّ هذه
التغيرات تنتقل إلى ذُريتها، من خلال الجينات الوراثية، وقد صاغ
"لامارك" أفكاره من خلال
قانونين شهريين :
القانون الأول: العضو
الأكثر استخدامًا يقوى وينمو، بعكس العضو غير المستخدم، فهو يضعف ويتلاشى
تدريجيّاً.
القانون الثاني: التأثير
الناتج من البيئة ينتقل للأفراد الجديدة من خلال الوراثة.
وقد واجه القانون الثاني
انتقادًا؛ لأنّ الشعوب السامية تمارس عادة الختان منذ فجر التاريخ، ومع ذلك لم يتم
تَوْريث هذه العادة عبر الأجيال؛ أي لم يحدث أن نتج نسل مختون، نتيجة لانتقال هذه
العادة إلى الجينات كما يزعم القانون الثاني للامارك.
وفي معرض الإجابة على
هذا الاعتراض؛ افترض لامارك أنّ مثل هذه العمليات (الختان) لم يتوافر لها الحاجة
الداخلية، بل هي فقط تأثيرات خارجية بدون وعي داخلي، مما يجعلها غير قادرة على
الانتقال عبر الجينات، ومن ثمّ لا يتم توارثها من خلال النسل الجديد، فليس كل تصرف
أو عادة يمكنه الانتقال إلى الجينات، وبالتالي توريثه للأجيال التالية، إلا من
خلال حاجة داخلية لدى الفرد، إضافة إلى مدىً زمني معقول، حتى يتحقق انتقال هذه
التأثيرات.
عالم الأحياء البريطانى
الشهير "هربرت سبنسر" له تأثير حاضر في كتابات "تشارلز
داروين"، فقد استخدم "داروين" عبارة "سبنسر" الأشهر، وهي:
(البقاء للأصلح) بسبب دقتها وقوتها، حتى إنّ الكثيرين نسبوها إلى داروين مع أنّ
قائلها هو "هربرت سبنسر"، وقد حاول "داروين" استخدام عبارة
(الانتخاب الطبيعي) بدلاً منها، ولكنّ عبارة (البقاء للأصلح) هي الأكثر شهرة بسبب
دقّتها، وبلاغتها لدى أرباب نظرية التطور.
إنّ التطور بمفهومه
الشامل، وهو التحول من حالة إلى حالة، حقيقة لا جدال فيها، سواء كان التطور على
مستوى الكون وأجرامه (تطور المادة)، أو تطور على مستوى الحياة الأرضية (التطور
البيولوجي)، أضف إلى ذلك التطور المعرفي والأخلاقي لدى الإنسان، والذي حيّر كثيرًا
من العلماء، والذي يمكن من خلاله فهم كثير من التصرفات السابقة والتصرفات الحالية.
تبعاً لنظرية (الانفجار
الكبير (Big
Bang Theory
فإنّ
الأرض طوّرت نفسها، وتكوّنت عليها المحيطات مع غلاف جوي يتميز بندرة الأكسجين،
وبسبب هذه الظروف القاسية وغير العادية، فإنّ أول ظهور للحياة كان في الماء، وهو
عبارة عن خلية وحيدة بسيطة، وبحسب النظرية
فإنّه وقبل 3.5 مليار سنة نشأ نوع من البكتريا، تسمّى "البكتريا الزرقاء
الخالية من النواة"، وكانت مهمة البكتريا على ما يبدو هو إنتاج الأكسجين،
وتزويد الغلاف الجوي الفقير للأكسجين بكميات إضافية منه؛ بحيث تتمكن الكائنات
الأكثر تعقيدًا من الظهور والتكاثر.
ومع تقدم الزمن، وانتهاء
العصور الجليدية، ظهر أول كائن معقد، وهو شبيه الديدان، ومع حلول الفترة الدافئة
تحسنت شروط الحياة قليلاً في البحر؛ ممّا أدى إلى طفرة تطوريّة، سُمّيت (الانفجار
الكمبري) قبل 540 مليون سنة، وفي عصر الانفجار الكمبري ظهرت كائنات أكثر تعقيداً
وتطوراً، مثل: قنديل البحر، وشقائق النعمان، والطحالب، والمفصليات، كالحشرات
والعناكب، حتى وصلنا إلى الحبليّات، ثمَّ استمرّ التطورُ وظهورُ كائنات جديدة، مثل:
البرمائيات، ثم تبع ذلك ظهور الديناصورات، وأول أنواع الثدييات.
كل تلك الافتراضات جاءت
بناءً على دلائلَ وبراهين معينة، وهي معروضة دائمًا للنقاش والنقد العلمي؛ حتى
تصحح من أخطائها وتتلافى عيوبها، من خلال البراهين والدلائل المضادة.
ويجدر بنا أن نشير هنا
أنّنا لا نتبنّى وجهة نظر معينة، وكل ما نقوم به هو سرد بسيط لفكرة التطور ونشأة
الحياة، حسب أشهر النظريات، حتى تساعدنا هذه النظريات في فهم وتحليل اللفظ القرآني،
ودون تسلّط الفكرة العلمية على اللفظ ومدلوله.
لقد أحدثت نظرية التطور
لداروين صدى وجدالًا لا مثيل لهما، ليس علمياً فحسب؛ وإنما بسبب اعتقاد رجال الدين
الذين اعتبروا أن نظرية التطور نوعًا من التَّجْدِيف والزندقة والتحدّي الإلهي.
أستطيع أن أتفهمَ رعب
الكنيسة في أوروبا من انتشار نظرية التطور؛ وذلك بسبب تعارضها الواضح مع رؤيتهم
التاريخية للنصوص الدينية في العهد القديم عن الخلق الكامل، ولكن ما لا أستطيع
فهمه هو موقف رجال الدين الإسلامي وتصلبُّهم، في ظلِّ رحابة واتساع اللفظ القرآني،
و في ظل وجود آيات عديدة كما سنرى تسمح بالحوار والنقاش، فلم يكن العلم يومًا
عدوًا لكلمات رب العالمين الحقيقية؛ وإنّما رجال الدين هم من يفعلون ذلك، عندما
يتملكهم الغرور المعرفي، ويظنون أنّ بإمكانهم التوقيع عن رب العالمين، فيصبّون
تصوراتهم على اللفظ القرآني دون منهج علمي حقيقي لفهم اللفظ.
مسألة التطور بوصفها
عملية بيولوجية، مسألة تعتبر من المسلّمات، وحقيقة واقعة مثبتة بالدلائل
والبراهين، ولكنّ الاختلاف غالباً حول آلية هذا التطور، و بعض الفرضيات الفرعية.
إنّ نظرية التطور قائمة
على ركنين أساسيين، هما: التطور، والانتخاب الطبيعي؛ وبصورة أكثر بساطة نجد، أنّ
معنى التطور هو تحوُّلٌ معين يحدث للكائن الحيّ، يؤدي لاكتساب هذا الكائن صفة
جديدة، تساعده على التكيُّف والبقاء.
أما الانتخاب الطبيعي
فمعناه أنّ الكائنات التي تمتلك صفاتاً وسماتاً صالحةً للبقاء تبقى، وتورِّث هذه
الصفات القوية لنسلها، والكائنات الأضعف تندثر وتنقرض، ويمكن ملاحظة هذا الأمر
ببساطة على مستوى الخلايا البكتيرية.؛ فمن المعروف أنَّ التوسُّع في استخدام
المضادات الحيوية ينتج أنواعًا جديدة من البكتيريا، مقاومة للمضادات الحيوية
المعروفة، وتتكاثر هذه الأنواع الجديدة بعد ذلك، منتجة أفراداً لديها مناعة طبيعية
وراثية، ورثتها من أسلافها في مقاومة المضادات الحيوية، وهذا ما يُعرف بالتطور على
مستوى الخلايا البسيطة، بحيث طَوَّرتِ البكتريا من وسائل حمايتها، واكتسبت صفاتٍ
جديدةً ساعدتها على البقاء، وبالتالي ستستمر الأفراد القادرة على البقاء وتستكمل
حياتها، أمّا الأفراد غير المتكيفة التي فشلت في اكتساب صفات جديدة، تساعدها على
البقاء؛ سيكون مآلها الانقراض والفناء.
وبسبب قصر دورة حياة
البكتيريا، وتركيبها الخلوي البسيط؛ استطعنا ملاحظة مبدأ التطور، ومبدأ الانتخاب
الطبيعي بسهولة ويسر، ولكن على مستوى الكائنات الأكثر رقيًّا وتعقيدًا، فإنّ الأمر
يزداد صعوبة؛ بسبب احتياج الكائنات الأرقى لمدى زمني طويل جدًا لحدوث عملية التطور
الذي قد يصل إلى ملايين السنين.
وبالرغم من أنّ المدى
الزمني الطويل هو أحد متطلبات عملية تطور الكائنات الأكثر تعقيدًا؛ إلا أنّ
العلماء كانوا محظوظين للغاية؛ إذ لاحظوا تطور نوع من السحالي في جزيرة "بود
ماركو" الكرواتية في فترة زمنية قصيرة جداً، لم تتعدى 37 عاماً، فقد لاحظ
العلماء أنَّ السحالي قد تغيرت من آكلات اللحوم (الحشرات) في موطنها الأصلي، إلى
آكلات النباتات على الجزيرة، وكان العلماء قد جلبوا السحالي إلى الجزيرة لغرض
التجارب، ولكن بسبب الحروب اضطر العلماء لمغادرة الجزيرة، وترك السحالي دون رعاية.
وبعد فترة من الزمن وتوقف
الحرب، عاد الباحثون مرةً أخرى إلى الجزيرة، ليتفاجؤوا أنّ السحالي قد أصبحت آكلات
أعشاب؛ بسبب عدم توفر غذائها من الحشرات على تلك الجزيرة. وهذا التطور الذي طال
السحالي تبعه تغيُّر في التركيب الفسيولوجي، وخصوصًا على مستوى الجهاز الهضمي؛
ليناسب الوظيفة الجديدة.
وقد لاحظ العلماء أيضًا أنّ سلوك هذه السحالي قد
تغير إلى سلوك أقلّ عدوانية، بالإضافة إلى تغيُّر ملحوظ في حجم الجمجمة، وهذا
النوع من التطور نادر الحدوث؛ بسبب المدى الزمني القصير، وغير المعتاد في الكائنات
الأكثر تعقيداً.
وإن كنّا غير محظوظين
بالقدر الكافي لنشاهد التطور في حياتنا القصيرة؛ فهناك وسائل علمية أخرى، استطاع
العلماء من خلالها رسم صورة واضحة، ومفصلة إلى حد كبير لعملية التطور، منها على
سبيل المثال: بقايا الكائنات المتحجرة والمعروفة بالحفريات؛ حيث حصل العلماء على
مئات الآلاف من الحفريات، وبقايا الكائنات المنقرضة التي تثبت عملية التطور بما لا
يدع مجالًا للشك، وبجانب علم الحفريات، هناك علم الأحياء الجزئية، أو علم الجينات،
وهو ما يمثّل حجر الأساس في فهم عملية التطور، من خلال دراسة العلاقات المتبادلة
بين الحمض النووي ال (د ن ا)، والحمض الريبوسومي (ر ن ا)، والذي يعطي صورة شاملة
للجينات وتطورها. وثمَّة قائمة طويلة من العلوم والتخصصات مسؤولة عن بحث عملية
التطور، وليس الأمر مجرد تخمينات أو ظنون يمكن تجاهلها.
الانتقادات الموجهة إلى نظرية التطور:
نظرية التطور شأنها شأن
النظريات العلمية المفصلية؛ التي أحدثت تحوّلًا جذريّاً في المفاهيم العلمية، وكان
لابدّ أن تواجه سيلاً من الانتقادات العاصفة، وبعض هذه الانتقادات قائم على أسس
علمية سليمة، وبعضها لا أساس له سوى النصوص الدينية، أو العوامل النفسية.
سوف نحاول في السطور
القادمة عرض هذه الانتقادات، وتفنيدها بشكل بسيط ومختصر، رغم أنّ هناك انتقادات
كثيرة، وبعضها يحتاج لمتخصصين، إلا أنّنا سوف نعرض الانتقادات الخمسة الأشهر لهذه
النظرية.
- الانتقاد الأول:
وهو أشهر هذه
الانتقادات، ولن نكون مبالغين إذا قلنا أنّ الغالبية العظمى لا تعرف عن نظرية
التطور سوى هذا الجانب، وهو أنّ أصل الإنسان قرد، فإذا كان الإنسان تطور عن قرد؛
فلماذا لا نرى القرود اليوم تتطور إلى بشر؟
بدايةً لابد أن نستوضح
حقيقة العبارة التي ينسبها الناس لداروين، ويعتبرونها من مسلمات نظريته، سواء في
كتابه (أصل الأنواع) أو كتابه (نشأة الإنسان) ذي الأجزاء الثلاثة، فلم يتطرق
داروين إلى عبارة "الإنسان أصله قرد" أبداً، وقد كان رجلًا دقيقًا في
تعبيراته، منتقياً كلماته كحال كل العلماء
فما قاله داروين في هذا
الصدد هو: "إنّ التشابه الواضح سيدفعني خطوة للأمام، للقول بأنّ كل الحيوانات
والنباتات قد انحدرت من كائن قديم بدائي، ورغم أنّ التشابه قد يكون مضلّلًا؛ فإنّ
جميع الكائنات الحية لديها الكثير من القواسم المشتركة، في تكوينها الكيميائي، وأعضائها
التكاثرية، وتركيبها الخلوي، والقوانين التي تحكم نموها وتكاثرها".
إنَّ حديث داروين عن
إشكالية القرود والإنسان لم يتعدَ قوله: إنّ البشر والقرود يمتلكون سلفًا مشتركاً؛
أي انحدروا من أصل واحد، ولم يقل: "إنّ القرد تطور إلى إنسان".
فرضية السلف المشترك
التي افترضها داروين قائمة على دلائل علمية، والتعرض لها ونقدها لابد أن يكون
قائماً على دلائل وبراهين علمية كذلك، أمّا محاولة نقدها بدواعٍ دينية، أو ادعاء
امتلاك الحق الحصريّ في تفسير النص الديني، فلن يعود إلا بالسالب على ثقة الناس
ويقينهم في الدين، وخصوصًا أولئك الذين لا يملكون القدرة على التفريق بين ما يقوله
الله، وما يقوله البشر، متوهمين أنّ الآراء الشخصية لبعض رجال الدين هي حقيقة كلام
رب العالمين.
التشابه بين الإنسان
والقرد يعود بالأساس إلى التشابه في عدة أشياء، من بينها ال (د ن ا) وهو الحمض
النووي الخاص بالإنسان، والحامض النووي الخاص بالقرود، وعلى الأخص الشمبانزي؛ حيث
يصل التشابه إلى 98.5%، وقد يتساءل أحدهم، ويقول: إنّ مسألة تشابه الحامض النووي
ليست دليلًا كافيًا، وقد نجد حيوانات تتشابه مع الإنسان بنسبة أكبر من ذلك؛ فلماذا
القرود بالذات؟
الحمض النووي على أهميته
ليس كلَّ شيء؛ فالإنسان يشترك مع الشمبانزي في عدوى فيروسية تسمى ERV؛ حيث
يوجد ستة عشر فيروسًا تصيب الشمبانزي، متطابقة تمامًا مع أماكنها في الحمض النووي
للإنسان، وبالاضافة للحامض النووي والتطابق الفيروسى؛ فإنّ السجل الأحفوري يدعم
هذا الزعم بقوة؛ حيث يُعْتَقَدُ أنّ رتبة الإنسان أو الإنسانيات قد تطورت عن سلف، كان
يعيش قبل سبعة ملايين سنة اسمه:(SahelanthropucTchadensis)
أثبت العلم من خلال فرضيات
مبنية على أدلة، أنه خلال سبعة ملايين سنة مضت قد تطورت فصائل وأنواع مختلفة
لـ(إنسانيات)، تشبه الإنسان الحالي إلى حد كبير؛ فعلى سبيل المثال "هومو
آبيليس" (Homo Habilis) المعروف بالإنسان الماهر، والإنسان
المنتصب (Homo Erectus)، وإنسان "النيادرتال"
(Homo Neanderthalsis)، كل الأنواع السابقة تقول النظريات أنها
انقرضت، ولم يبقَ إلا الإنسان العاقل، الذى نراه حاليًا، والمعروف علمياً باسم
(Homo Sapiens) .
افترضت بعض الأبحاث
الحديثة التى اعتمدت تحليل الحمض النووي، لبقايا حجرية لأنثى إنسان النياندرتال، أنّ
الإنسان العاقل قد ارتحل من إفريقيا قبل 100 ألف سنة، في اتجاه منطقة الشرق
الأوسط، وهناك حدث بينه وبين إنسان النياندرتال تزاوج، وأكد هذا الافتراض عالِم
الوراثة "مارتن كولفيلم" من جامعة "بومبيو فابرا" الإسبانية
في برشلونة؛ حيث يُعتقد أنَّ ما يؤكّد التزواج بين الإنسان العاقل، وإنسان
النياندرتال هو وجود بقايا من الحمض النووي للإنسان العاقل، في جينات أنثى إنسان
النياندرتال، مما يرجّح القول بأنّ أفرادًا من الإنسان العاقل ارتحلت من إفريقيا، والتقت
إنسان النياندرتال، وحدث التزواج بينهم.
هذه الرحلة برأي الباحث
قد تكون فشلت؛ بسبب عدم وجود آثار لهذا النسل في أوروبا أو آسيا، مما يرجح
انقراضها، إما بسبب التنافس المباشر مع إنسان النياندرتال النقي، أو بسبب تغيرات
البيئة، وعدم قدرة الأفراد الجديدة على التكيف.
توضح الحفريات أنّ إنسان
النياندرتال ضخمَ الجثة قد استعمر أوروبا وآسيا، منذ ما يقارب 400 ألف سنة، ثمّ
انقرض بعد ظهور الإنسان العاقل بقليل.
✦ مما سبق يظهر لنا أنّ
اختصار نظرية التطور، وخاصة تطور الإنسان، في العبارة السخيفة التي تقول:
"أنّ الإنسان انحدر من القرد" ما هو إلا نوع من السطحية، تسيء لمن
يرددها، وتفضح ضحالة معلوماته.
والتساؤل الأعجب والأغرب
عند بعض منتقدي نظرية التطور: لماذا لم يتحول قرد اليوم إلى إنسان؟ أو بعبارة أكثر
دقة: لماذا لا نرى التطور يحدث أمامنا اليوم؟
إنّ عملية التطور تحدث
خلال بعد زمني طويل جدًا؛ فنحن نتحدث عن ملايين السنين، أو على أقل التقديرات مئات
الآلاف من السنين، ولك أن تتخيل أنّ الدراسات والحفريات تشير لظهور أول إنسان عاقل
منذ 200 ألف سنة في إفريقيا، بينما ثورة العصر الحجري الحديث، أو بمعنىً أدق بداية
ظهور الحضارة منذ 8000 سنة قبل الميلاد؛ لذلك يصبح انتقاد نظرية التطور على أساس
المشاهدات اليومية أو الزمنية القصيرة نوعًا من الكوميديا.
من ناحية أخرى لابد من فهم كمّ العلاقات والعوامل
التى أدت لظهور نسل جديد متطور، وهل انقرض الفرد الأم، أم أنّ التحول طال أفرادًا
معزولة في منطقة جغرافية؟، لأنّ كمّ العلاقات الذي يحكم أي تغير يطرأ على الكائن
الحي لا يمكن اختصاره في عبارة ساذجة:
لماذا لا يحدث الآن!
- الانتقاد الثاني:
هذا الانتقاد يتناول
وجود ثغرات عديدة في سجل الحفريات؛ مما يجعل إثبات نظرية التطور شبه مستحيل.
وبالنظر للشروط الواجب
توافرها لكي يتحول الكائن الحي لحفرية حجرية، ومن ثم يتم استخراجه والتعامل معه،
وبالنظر إلى العدد المهول من الحفريات التى تم العثور عليها، والحفريات الوسطية، يصبح
مصير هذا الانتقاد كسابقه فيه كثير من التحامل.
ولكي يتحول الكائن الحي
لحفرية حجرية، لابد أن يموت بطريقة طبيعية، بعيدًا عن حلقة الافتراس، ثم يُدفن في
بيئة مناسبة لا تدعم تحلله، ومن ثمّ يتحول إلى مادة حجرية، ثم يتم العثور على هذه
الحفرية سليمة دون تلف، والتعامل معها واستخراجها بشكل يُمَكِّن من دراستها.
ومع كل هذه الشروط
والعوائق، فإنّ عدد الحفريات التي تثبت التطور يصل إلى مئات الآلاف من الحفريات،
وهو أحد الدلائل فقط، وليس كل الدلائل على التطور، أضف إلى ذلك الحفريات الوسطية، المعروفة
بشكل كبير في أوساط العلماء؛ كهياكل الطيور التي تمتلك هياكل زواحف، وفى نفس الوقت
تمتلك ريشًا؛ أو الديناصورات التى يغطي جسمها الشعر، ونوع من السمك كان يمتلك زعانف مزدوجة، ويعتبر حلقة
وسطية بين السمك الحالي والبرمائيات، كل ذلك أمثلة على الحلقات الوسطية التي تبرهن
وتثبت حدوث التطور.
فعدد الحفريات والمراحل
الوسطية متوفرة بكثرة، بالنسبة للظروف اللازمة لتحول الكائن الحي إلى حفرية صالحة
للدراسة، مما شكّل أرضًا قوية وصلبة لفرضيات نظرية التطور.
وعلى سبيل المثال، يوجد
على الأقل ست حفريات وسطية توضح تطور الحيتان وحدها، فضلًا عن عدد كبير جدًا من
الحفريات التي تدعم تطور الإنسان من أسلاف
بدائية.
- الانتقاد الثالث:
"نظرية التطور تبقى مجرد فرضيات، وليست حقائق مطلقة". يمكننا
الرد على هذا الانتقاد؛ بأنّ كل النظريات العلمية ما كانت إلا افتراضات، وقوة
النظرية واقترابها من الحقائق يعتمد بشكل كلّي على الأدلة والبراهين التي تدعم هذه
الافتراضات، ويظل العلماء في كل الفروع في حالة استنفار مستمر؛ إما إثباتًا لفرضية
أو نفيًا لها، والعلم وحده هو من يصحح الافتراضات أو ينفيها.
ونظرية التطور ليست
كتابًا أدبيَّا أو رواية خيالية، ولكنّها نظرية علمية مدعومة وبقوة من علوم مختلفة،
منها على سبيل المثال: علم الحفريات، وعلم الجيولوجيا، وعلم النبات، وعلم الحيوان،
وعلم الهندسة الوراثية، وعلم التشريح، وعلم الجينات، وعلم البيولوجيا الجزيئية،
وعلم الأجنة، وعلم البيولوجيا التطورية، وعلم الفيزيولوجيا المقارنة، وكل يوم يمر
تُنشر أبحاث، وتقام مؤتمرات وندوات؛ إما لتؤيد النظرية، أو لتكتشف خطأً ما، ويتم
تصحيحه، ولكن بالمجمل فإنّ العلم يتجه بقوة لإثبات نظرية التطور، واكتشاف الثغرات
وتصويبها، في محاولة للتحقق من آليات التطور.
- الانتقاد الرابع:
يتمثل هذا الانتقاد في
وجود تيار حديث نوعًا ما، يقبل اليوم بتطور النباتات والحيوانات، ولكنه لا يقبل
فكرة تطور الجنس البشري؛ بسبب الأدلة الدينية من وجهة نظر علماء الدين.
في الردّ على هذا
الانتقاد نقول: لايمكن بحال من الأحوال إهمال آلاف الحفريات والدلائل والإشارات، التي
تشير إلى تطور الإنسان، وانحداره من سلالات سابقة؛ من أجل فهم رجال الدين، وكأنّ
العلم والدين في سباق وتحدٍ.
لابد أن ينتبه رجال
الدين إلى أنهم بحاجة لإعادة الفهم، ومحاولة قراءة النصوص الدينية مرة أخرى، بشكل
أرحب من ذي قبل؛ بسبب تضاعف المعرفة وتشابكها، ولعلّ هذا الانتقاد هو ما سوف نقوم
بمناقشته بالتفصيل، من خلال قراءة متأنّية في كتاب الله تعالى، وبالتحديد في الفصل الثالث المتعلق بخلق الإنسان.
- الانتقاد الخامس:
احتمال الصُدَف هو
الانتقاد الأشرس الموجه لنظرية التطور، حيث الاعتقاد بأنَّ الحياة والتطور إنّما
محض صُدَف، ومن العلماء من قال بالصدف والعشوائية.
ولكن هذا الانتقاد غير
موجه لصلب النظرية، من حيث هل التطور حقيقة أم زيف وخداع؟ وإنما موجه لآلية التطور،
وهناك فرق كبير بين الإقرار بحقيقة التطور، ومناقشة كيف حدث هذا التطور.
وما نتفق عليه تماماً أنَّ فرضية الصدف في نظرية
التطور تحتاج للمراجعة، رغم أنّ القائلين بالصدف لديهم أدلة منطقية شجعتهم للقول
بالصدف.
حتى نفهم هذه الجزئية
لابد لنا من التفريق بين المنهج العلمي القائم على الدليل والبرهان، والنهج الديني
القائم على التصديق والإيمان؛ فعندما يقول العلماء أنّ عملية التطور تسير بشكل
عشوائي، يجب ألّا نعتقد أنّ هذه الفرضية موجهًة لإغاظة الدينيين، أو محاولة خبيثة
لإلغاء وجود الإله؛ كل ما هنالك أنّ الباحث يمتلك مجموعة من الأدلة والبراهين، جعلته
يعتقد أنّ التطور سار بشكل عشوائى، ومن هذه الأمثلة ما يلي:
- المثال الأول: إنّ تركيب
عين الإنسان وفقًا لعلم التشريح، ومن وجهة نظر علماء التطور؛ مصممة بشكل غير ذكي؛
فهي مركبة بشكل معكوس، وفي وضع مقلوب، ولكي تصل فوتونات الضوء إلى المخاريط التي
تحول الضوء إلى نبضات عصبية، فإنّ هذه الفوتونات يلزمها المرور من خلال القرنية
والعدسة والسائل المائي وشرايين الدم والخلايا المعقودة وخلايا الأماكرين،
ويَشك الباحثون أنّ تصميم العين بهذه
الطريقة هو تصميم ذكي، وإنما تمّ تصميم العين عن طريق الانتخاب الطبيعي، وتمّ
بناؤها حسب ما هو متوافر من خلايا موروثة من كائنات سابقة، وهذه الفرضية تدعم
مسألة التطور، وتنفي أنّ العين تم تصميمها من الصفر.
- المثال الثاني: العصب الحُنجري الراجع؛
هذا العصب يخرج من المخ، ومن المفترض أن يذهب إلى الحنجرة مباشرة، ولكنْ برأي
الباحثين فإنّ العصب الحنجري ينزل إلى القلب، ويلتفّ جزء منه خلف الرباط الشرياني،
ثم يصعد بعد ذلك إلى الحنجرة، ويرى الباحثون أنّ هذه الطريقة التي وصل بها العصب
الحنجري إلى الحنجرة ليست الطريقة الذكية؛ إذ التصميم الذكي يستدعي -كما يقول
الباحثون- أن ينزل العصب الحنجري من المخ مباشرة إلى الحنجرة، دون المرور بالقلب
والالتفاف خلف الرباط الشرياني.
- المثال الثالث: قناة الأسهر
(القناة الناقلة للحيوانات المنوية)؛ هذه القناة هي جزء من الجهاز التناسلي للذكر،
ويقول الباحثون: إنّها أطول من اللازم، ولابد أن تكون أقصر من ذلك، ولا يمكن أن
تكون بهذا الطول إلا في حالة تطور الإنسان من حيوانات أقل رتبة تمشى على أربع؛ مما
ينفي تصميمها بشكل سليم وذكي.
✦هذه المشاهدات والأدلة العلمية التي قدمها
الباحثون دعتهم للقول بعشوائية التطور، وعلى من يقول بالتصميم الذكي أن يدحض هذه
النتائج بأدلة وقرائن قوية؛ إذن فالأمر هو بحث علمي بحت، وليس له علاقة بالإيمان
بالخالق.
القول بالصُدَف هو في
الحقيقة قول مقابل الخلق المنفصل، وليس له علاقة من وجهة نظري بوجود خالق أو عدم
وجود خالق. الإصرار على القول بالخلق المنفصل ونسبة هذا القول للإله، جعل الجانب
الأخر بما يملك من أدلة علمية، يقول بالتطور وبالتالي نفي وجود الله الذي خلقَ
بشكل منفصل.
إثبات أنَّ الخلق يخضع
للتطور، وكذلك فهم التقديرات التى ذكرها الخالق في كتابه سوف تدحض تماماً القول
بالصدف، ويحل محله القول بالتقديرات والقوانين التي تُسيّر
هذا الكون، وعلى ذلك يكون كل ما في الكون خاضعاً لها، والتطور ذاته هو من
حتميات الوجود، وحتميات هذه التقديرات.
يبدو بشكل واضح أنّ
علماء التطور لديهم مشكلة مع القول بالخلق
المنفصل لكل مخلوق؛ إذ لو كان الخلق منفصلاً لتطلب ذلك تصميماً كاملاً (ذكياً) لكل
مخلوق على حدة، ولا داعي لوجود بعض التفصيلات غير المبررة، أو الزوائد غير
المستخدمة، فوجود هذه الزوائد يدعم بشدة أن تكون الأنواع الحالية تطورت عن أفراد سابقة.
إذا كان النص الدينى
يقول بالقول المنفصل، وكان رجال الدين متحمسين لذلك، ونسبوه لله، بل وصادروا أيّ
قول مخالف؛ بحجة أنّ هذا القول هو القول الفصل الذي يقول به الإله؛ ففي نظر العلماء وجود خالق خلق المخلوقات بشكل منفصل، بعيداً عن التطور، يتنافى
تماماً مع البراهين والأدلة الكثيفة التى بين أيديهم.
إنطلاقاً من الأدلة التي
تثبت التطور، وتدحض الخلق المنفصل، وجد بعض الباحثين أنفسهم مضطرين لنفي وجود إله،
وأنّ الخلق تمّ بطريقة أقرب للعشوائية.
نفي وجود إله من خلال نظرية التطور، هو نفي للصورة الذهنية عن الإله لدي رجال الدين، وليست نفي للإله على أساس من
الإستكبار والمغالطة، إذ لو لو اتيح لهؤلاء العلماء فهم المنهج الرباني بصورته
الحقيقية لما كان هناك مكان لإنكار وجود الله إلا في العقول المستكبرة. من وجهة
نظري أنّ البحث بتحليل اللفظ القرآني؛ والذي يشير إلى عملية التطور بشكل سليم
ومنهجي، وفهم عملية التقديرات التي يشير إليها الخالق من خلال كتابه، لابد أن يدفع
المنصف إلى القول بوجود الإله العليم والقدير، وخصوصاً عندما نستطيع استخلاص
معلومات لم يتحصل عليها العلم حتى الآن.
إنّ العلم لا يقبل القول
بأشياء غير مقاسة، فليس هناك معنى لقول باحث: "أنا أشعر، أو قلبي
يحدثني" وبدون دليل ملموس. يشنّ كثير من المنتقدين هجومًا حادّاً من خلال
هذه الجزئية، محاولين تصوير هؤلاء الباحثين كأنهم ثُلّة من الأفَّاقين والمتآمرين
ومحاربي الدين، والموضوع لا يتعدى كونه دلائل وقرائن علمية بقدر المتاح.
لا يمكن بحال من الأحول
أن يبدو لي أنَّ تركيب العين ليس مثاليًا، أو أن أقول: هو مثالي لأني أؤمن أنّ من
خلقها قد خلقها في أحسن صورة.
فالوضع الطبيعي للمؤمن هو الإقرار بالدليل
والبرهان، وفي الوقت نفسه إيمانه بأنّ هذا الوضع له حكمة يمكن أن نكتشفها باستمرار
البحث والتنقيب. لا نبالغ إذا قلنا: إنّ العلم اليوم يتجه وبخطوات ثابتة نحو الاعتراف بالوحدانية،
والاعتراف بالتصميم البديع الذي لا يمكن أن يكون عشوائيًّا، أو محض صُدَف، وحتى
العلماء أشد انصار المادية لم يعد بإمكانهم إنكار هذه القوة الخفية. قد يحتاج
الأمر لبعض الوقت، ولكن في النهاية سوف ينطق كل شيء بالحق، طالما هناك بحث عن
الحقيقة، ويمكن حل هذه المسألة فقط من
خلال فهم التقديرات، وما تعنيه من حسابات وقوانين وأنّ كل ما في هذا الوجود يخضع لحتمية هذه التقديرات.
إنّ مصطلح (الانتقاء
الطبيعي) في حد ذاته لا يمكن أن يكون معبرًا عن الصدف أو العشوائية؛ فهو نظام معين،
يسمح للصفات القوية بأن تسود، وتتوارثها الأفراد الجديدة، بينما تضمحل الصفات
الضعيفة وتتلاشى، فكيف للصدف أن تقوم بهذا الاختيار الذكي؟!
نعم، لقد قال داروين بالصدف، ولكننا نجده في
نهاية حياته يقول في مذكراته: إنه من الصعب، بل ومن المستحيل أن يكون هذا الكون قد
نشأ مصادفة.
لقد غلب على داروين صفة اللاأدرية، وهو أنه لا
يدري؛ وهي مرحلة بينية بين الإنكار التام والإيمان التام.
أعتقد أنّ نظرية التطور
قد دعمت فكرة الإلحاد بشكل كبير، ومن وجهة نظري أنّ هذا الدعم إنما وَجد أرضًا
خصبة بسبب رجال الدين أنفسهم، وتفسيراتهم اللامعقولة، التي تشبه في كثير من
الأحيان الأساطير، وتعتمد على تصورات ومعارف قديمة، أغلبها آراء شخصية، وليست أدلة
قائمة على حجج صلبة.
فهل يدعم كتاب الله فكر رجال الدين، أم يدعم العلم؟ إنّ كل ما نحتاجه هو تحليل ومقارنة الألفاظ القرآنية، وتقريبها للحقائق العلمية؛ وسوف نكتشف روعة وإبداع الخالق، الذى ينطق كل حرف في كتابه بوجوده، وكل قانون كوني بقدرته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق