الفصل الثاني
"الطور"
الركن الأساسي في عدم
فهم الطّور وعدم ربطه بالتطور, هو تفسير الآيات الكريمة التي تحدثت عن بني
إسرائيل, وعن الطُور الذي رفعه الله عليهم. فتصورات المفسرين القدامى وغرابة
الكلمة؛ جعلهم يصيغون تفسيرات بسيطة تتناسب والعصر الذي يعيشون فيه, واستمرت هذه
التفسيرات تُتلا, وكأنّها حقيقة كلمات الله، بل إنّ أي محاولة لفهم الطُور بعيداً
عن تأويلات السابقين تقابَل بالنفور والشك والارتياب.
بالرغم
من إقرار العهد القديم بخلق الإنسان، على
صورة الرب خلقًا كاملًا ليس فيه تطور؛ إلا أنّ بابا الفاتيكان "بوس بايوس
الثاني عشر" اعترف بنظرية التطور عام 1950م، وأكّد هذا الاعتراف عام 1996م
البابا "جوهانس بولوس الثاني".
الكنيسة التي طالما
اتخذت موقفًا عدائيًا من العلم والعلماء؛ بسبب ما لديها من نصوص في العهد القديم
والعهد الجديد، ها هي تتخلى عن نصوصها مقابلَ العلم، ولو لم تفعل لما بقي شخص يثق
بما تقوله.
المطلوب من أمة القرآن
ليس التخلي عن نص قرآني صريح، ولكنَّ التخلي عن تفسيرات واجتهادات بشرية تاريخية
هو ما أصبح ضرورةً لا يمكن تجاهلها.
فهل إذا استطعنا أن نفهم
كلام الله، ونقيم الدليل من كتاب الله نفسه، ومن اللغة، على التطور والتحوّل
الجيني سيصبح قولنا مقبولًاً؟ أم أنّ الأمر سوف يظلّ صراعًا بين الماضي والحاضر؟
الطُّور
ما هو الطُّور الذي ورد
ذكره في القرآن الكريم؟ هل هو الجبل الذى كلّم الله عليه موسى عليه السلام؟ وهل
هذا الجبل بكلّ هذه الأهمية؛ حتى تسمى سورة كاملة باسمه في كتاب الله؟ وما علاقة
الطُّور بالكتاب المسطور والرَّق المنشور؟
أولاً: من حيث اللغة:
لفظ الطور من الجذر
اللغوي (الطاء والواو والراء)، وبحسب قاموس اللغة لابن فارس له أصل واحد؛ وهو
الامتداد في الشيء.
ثمّ إنّ قاموس اللغة أضاف معنى الطُّور؛ بكونه
اسم جبل، ومن الواضح أنّ هذه التسمية قد استقاها ابن فارس من التفسير، ولكن دعونا
نقف على جذر الكلمة وأصلها؛ وهو الامتداد في الشيء.
ثانيا: من خلال كتاب الله :
ذُكرت كلمة الطُّور في
كتاب الله في أحد عشر موضعًا، منها ثمانية مواضع خاصة ببني إسرائيل، وثلاثة مواضع
متفرقة، والآيات الكريمة التي من الممكن أن نستوضح منها معنى كلمة الطور هي
الآيات المذكورة في سورة نوح.
قال تعالى: ﴿مَّا
لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ
نَبَاتًا﴾ (سورة نوح: الآيات 13 - 17) .
بدايةً دعونا نستعرض
التفاسير في قول الله تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، وقوله
تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾.
✦ في
تفسير الطبري، لم يزد في تفسير الأطوار على أنها
أطوار الجنين في بطن الأم؛ وقد جاء كالتالي: «وقوله: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَارًا)، يقول: وقد خلقكم حالًا بعد حال، طورًا نُطْفة، وطورًا عَلَقة،
وطورًا مضغة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل؛ فعن ابن عباس، قوله:
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) يقول: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
وعن
مجاهد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) قال: من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم
ما ذكر حتى يتمّ خلقه.
وعن
قتادة: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) طورًا نطفة، وطورًا علقة، وطورًا عظامًا،
ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأه خلقًا آخر، أنبت به الشعر، فتبارك الله أحسن
الخالقين»
✦ أما
تفسير السعدي فكان له رأي آخر، وهو أنّ
الأطوار هي مراحل العمر من رضاع وطفولة وشباب وهكذا، يقول: «(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) أي خلقًا من
بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولة، ثم التمييز، ثم الشباب،
إلى آخر ما وصل إليه الخلق؛ فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يُفرد
بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي
أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.«
✦ من
التفسيرات المعتبرة في هذا الأمر تفسير ابن عاشور؛ حيث يقول: «وأما كون خلقهم
أطوارًا؛ فلأن الأطوار التي يعلمونها دالّة على رفقه بهم في ذلك التطور، فهذا
تعريض بكفرهم النعمة، ولأنّ الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته؛ فإنّ تطور
الخلق من طور النطفة، إلى طور الجنين، إلى طور خروجه طفلاً، إلى طور الصبا، إلى
طور بلوغ الأشد، إلى طور الشيخوخة، وطُروّ الموت على الحياة، وطروّ البِلى على
الأجساد بعد الموت، كلّ ذلك والذاتُ واحدة، فهو دليل على تمكّن الخالق من كيفيات
الخلق، والتبديل في الأطوار، وهم يدركون ذلك بأدنى الْتفات للذهن، فكانوا محقوقين
بأن يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله، وتوقع عقابه؛ لأن الدلالة على ذلك قائمة
بأنفسهم، وهل التصرف فيهم بالعقاب والإِثابة إلاّ دون التصرف فيهم بالكَون و
الفساد». انتهى الاقتباس من التفسيرات.
اللافت
للنظر أنّ ابن عاشور ذكر معنى الطور هنا قريباً من المباشرة، وربطه بالتطور
كالآتى: «والأطوار : جمع طَور بفتح فسكون، والطور: التارة، وهي المرة من الأفعال
أو من الزمان، فأُرِيدَ من الأطوار هُنا ما يحصل في المرات والأزمان من أحوال
مختلفة؛ لأنه لا يقصد من تعدد المرات والأزمان إلاّ تعدد ما يحصل فيها، فهو تعدد
بالنوع لا بالتكرار»
وإذا حاولنا مقارنة جذر
الكلمة وأقوال المفسرين فقط دون تدخل؛ سنجد المقصود بكلمة أطوار؛ وهي جمع طَور، مراحل
معينة يحدث فيها تغير معين؛ بمعنى تطور
وزيادة أو امتداد في اتجاه معين.
ذهب بعض المفسرين إلى
تفسير الأطوار بأنها مراحل تكون الجنين، ومنهم من ذهب إلى كونها مراحل العمر من الطفولة والشباب والشيخوخة،
ومنهم من جمع بين الاثنين، أفلا يحق لنا أن نفترض أنّ المقصود بالأطوار هنا هو
التدرج في الخلق؟ بحيث تعني كلمة الأطوار مراحل تطور الخلق المختلفة، من أول خلية
وحتى نهاية هرم المخلوقات؛ وهو الإنسان.
إنّ تفسير كلمة الأطوار
بأنها تعنى التدرج في الخلق، بل تعني التطور بمعناه المعاصر؛ يدعمها بشدّة سياق
باقي الآيات في سورة نوح، التي تتحدث عن الخلق بصفة عامة، وفي السياق نفسه، وبعد
ذكر لفظ الأطوار في السورة الكريمة، وردت الآيات التي تتحدث عن خلق السموات والأرض
بشكل مجمل.
قال تعالى: )أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)) (سورة نوح : الآيات 15-16).
من الواضح أنّ الحديث في
الآيتين عن بدايات الخلق؛ مما يدفعنا للقول إنّ الأطوار التي ذكرها ربّنا هي أطوار
الخلق بصفة عامة، وبالعودة إلى جذر الكلمة، ومدلول الكلمة في كتاب الله الواردة في
سورة نوح؛ نستطيع القول بأنّ الطور هو مرحلة يحدث فيها زيادة أو امتداد معين عن
المرحلة التي تسبقها.
فكلُّ تغير يصيب الكائن
هو في حد ذاته طور، ومعنى أطوار هو تغيُّر مستمر، يطرأ على الخلق، وقد يكون التبدُّل
بشكل إيجابي؛ بحيث تتحسن صفات هذا الكائن، وقد يكون التغيُّر بشكل سلبي؛ بحيث يحدث
ما يسمى الارتداد، كما سوف نرى.
وما يعنينا هو أنّ كلمة
الطور تصف تغيراً في حالة الكائن أو المخلوقات، وهو عين عملية التطور بمفهومنا
المعاصر.
سنأتي على
جميع الآيات التي ورد فيها ذكر الطور، وسوف نجد أنّ كل آيةٍ تضيف دليلاً جديداً؛
على أنّ الطَّور هو عملية التطور المقصودة، ومن تحليل بعض الكلمات في الآيات التي
ورد فيها ذكر الطَّور أو الأطوار، سوف نحصل على معلومات معرفية غاية في الأهمية، تفتح
أمامنا الأبواب الموصدة، لنطِلَّ منها على عظمة وإعجاز اللفظ القرآني، وقدرته
الفريدة على وصف حالة، لا يقوى على وصفها إلا خالقها.
وما زلنا حتى الآن نتأمل
في رحاب الآيات الكريمة في سورة نوح، والتى سوف تمنحنا دليلاً إضافياً؛ على أن
المقصود بالأطوار هو بداية الخلق.
قال تعالى: )وَاللَّهُ
أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) (سورة
نوح : الآية 17).
عندما فسر العلماء هذه
الآية الكريمة جاء تفسيرهم على النحو التالي:
✦ تفسير
الطبرى: « )وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا(
يقول: والله أنشأكم من تراب الأرض، فخلقكم منه إنشاء».
✦ تفسير
السعدي: «)وَاللَّهُ
أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا( حين
خلق أباكم آدم، وأنتم في صلبه».
✦ تفسير
البغوي: «)و الله
أنبتكم من الأرض نباتاً(،
أراد مبدأ خلق آدم، خلقه من الأرض، والناس ولده، وقوله: )نباتاً( اسم
جُعل في موضع المصدر؛ أي إنباتاً، قال الخليل: مجازه: أنبتكم فنبتم نباتاً»
✦ تفسير
ابن عاشور: «)وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)( أنشأ الاستدلال بخلق السموات حضورَ الأرض في
الخيال؛ فأعقَبَ نوح به دليلَهُ السابقَ؛ استدلالاً بأعجب ما يرونه من أحوال الذي
على الأرض، وهو حال الموت والإِقبار، ومهَّد لذلك بما يتقدمه من إنشاءِ الناس،
وأدمج في ذلك تعليمَهم أنّ الإِنسان مخلوق من عناصر الأرض، مثل النبات، وإعلامهم
أنّ بعد الموت حياةً أخرى، وأُطلق على معنى: أنشأكم، فعلُ {أنبتكم}؛ للمشابهة بين
إنشاء الإِنسان وإنبات النبات، من حيث إنّ كليهما تكوين، كما قال تعالى: )وأنبتها
نباتاً حسناً(
(سورة آل عمران: الآية 37)، أي أنشأها، وكما يقولون: زَرعك الله للخير، و يزيد وجه
الشبه هنا قرباً، من حيث إن إنشاء الإِنسان مركب من عناصر الأرض، و قيل التقدير:
أنبتَ أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى: )كمثل آدم خلقه من تراب( (آل
عمران: 59).». انتهى الاستشهاد بالتفسيرات.
مرة أخرى يقترب ابن
عاشور كثيرًا، ويُلمح إلى الحالة العامة
التي تتحدث عنها الآيات؛ وهي
بدايات الخلق بصفة عامة، ولكن يبدو أنّ ذلك دون قصد منه.
لقد ذكر الرجل أنّ كلمة (أنبت) توحي أنّ الإنسان
مخلوق من عناصر الأرض، مثل النباتات (وهو تشبيه حالة بحالة، وليس على وجه الحقيقة
بالطبع)، ولو كان لدى ابن عاشور معرفة بالتطور، وضم الكلمات بعضها إلى بعض؛ لقال: إنّ
احتمالية بداية خلق الإنسان من شيء نبت من الأرض، هي احتمالية قائمة وبشدة.
وقد جاء لفظ نبت في كتاب
الله في جميع مواضعه مرتبطاً بالأرض والزرع، إلا موضعاً واحداً في سورة آل عمران،
وكان المقصود به مريم عليها السلام
)فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا
مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (سورة آل عمران: الآية 37).
وفي قاموس اللغة: نبت
لها أصل واحد، وهو نماء مزروعٍ. وكلمة أنبت لا تعنى أبداً أنشأ أو خَلق، وسوف يأتي
الحديث عن الفرق بين فعل أنشأ، وفعل خَلق وجَعل، في الفصل القادم عند الحديث عن
خلق الإنسان، وسوف نكتفي هنا بملخص بسيط عن الفرق بين خلق وأنشأ، حتى نستطيع إدراك
مدلول فعل أنبت.
[أنشأ]: فعل خاص بالإله؛
لأنه جاء دائماً في كتاب الله منسوباً للخالق، ويقتضي التكوين على جميع المستويات،
سواء المادية وغير المادية.
فعل [خلق]: هو فعل أقلّ شمولية من فعل أنشأ إذ
يقتضي التكوين على المستوى المادي، من حيث تقدير النسب، وتهيئة المخلوق لوظيفته، وفعل
[خلق] ليس مقصوراً على الإله من واقع كتاب الله؛ فيمكن للبشر أن يخلقوا؛ كما فعل
نبي الله عيسى، ولكنّ الله هو أحسن الخالقين بلا منازع.
فعل [نبت] هو الفعل الذي يأتي بعد الإنشاء، وبعد
الخلق؛ حيث تتمّ عملية الإنماء.
ومن أجل بيان الفرق بين الأفعال
الثلاثة (أنشأ، خلق، أنبت) نضرب هذا
المثال:
نفترض أنّ بذرة نبات
معين وُضعت في الأرض لتعطي شجرة؛ فإنّ مجموعة التعليمات والقوانين غير المرئية، والمسجلة
على الشريط الوراثي الـ DNA ، والتي
بموجبها تتمكّن هذه البذرة من النمو لتصير شجرةً، وكذلك التكوينات المادية لجسم
البذرة التي تجعلها ملائمة لوظيفتها؛ هي ما تسمى [عملية الإنشاء].
والتكوين المادي للبذرة
أي شكل البذرة، ونسب المواد المكونة لها، وتركيبها، وترتب خلاياها؛ هو [عملية
الخلق].
وفعل [أنبت] هو مجموعة التفاعلات التي تؤدي
إلى نماء وتحول البذرة إلى شجرة؛ إذن [عملية الإنبات] هي أول مراحل التحول من
الطور الجامد إلى الطور الحي، لو جاز لنا هذا التعبير.
جاءت الآية الكريمة )وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا(
بعدما ذكر ربنا مرحلة الخلق، وكأنّ الوضع أصبح مُهيَّئاً لكي تتفاعل مكونات الحياة،
وتعطي أول بذرة للحياة؛ فالتحول من مرحلة
الخلق إلى مرحلة الإنبات يُعدُّ تطوراً؛ حيث الانتقال من طور جامد إلى طور نماء
وحركة.
حول الآية الخاصة بالسيدة مريم:
تحدثت الآية الكريمة عن
السيدة مريم في قوله تعالى:
)فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا
مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِۖ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ( (سورة آل عمران: الآية 37).
جاء فعل [نبت] هنا بعد
مرحلة خلق مريم بالفعل، والإنبات الحسن هو مجموعة التفاعلات التي تٌشكل
الإنسان، سواء كانت تفاعلات بيولوجية أو معرفية أو نفسية أو فسيولوجية، وهذه
التفاعلات هي ما تعطي الإنسان شخصية مستقلة في شكله النهائي.
وفي حالة السيدة مريم نجد أنّ الله أنبتها
نباتًا حسنًا؛ بحيث تعطي هذه التفاعلات بالنهاية أفضل صورة للإنسان، سواء كانت
صورة حسية أو صورة نفسية، والتي كانت عليها السيدة مريم.
طُور بني إسرائيل:
الركن الأساسي في عدم
فهم الطّور وعدم ربطه بالتطور، هو تفسير الآيات الكريمة التي تحدثت عن بني إسرائيل،
وعن الطُور الذي رفعه الله عليهم.
فتصورات المفسرين القدامى
وغرابة الكلمة؛ جعلهم يصيغون تفسيرات بسيطة تتناسب والعصر الذي يعيشون فيه، واستمرت
هذه التفسيرات تُتلا، وكأنّها حقيقة كلمات الله، بل إنّ أي محاولة لفهم الطُور
بعيداً عن تأويلات السابقين تقابَل بالنفور والشك والارتياب.
سوف نقدم الدليل على أن
الطُور هو عملية التطور، من خلال الآيات التي ذَكرت الطور المرتبط ببني إسرائيل.
الآية الأولى:
ورد لفظ الطور في سورة البقرة، حيث قول الله تعالى: )وَإِذْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم
بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( (سورة البقرة: الآية 63).
فالطور من الآيات
الخارقة التي عايشها بنو إسرائيل، كما يبدو من استقراء الآية الكريمة، والتي كانت
من ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فكيف تعامل المفسرون مع هذه الآية الكريمة؟
✦ تفسير
البغوي : قوله تعالى: )وإذ أخذنا
ميثاقكم(
عهدكم يا معشر اليهود )ورفعنا فوقكم
الطور( وهو
الجبل بالسريانية في قول بعضهم، وهو قول مجاهد، وقيل: ما من لغة في الدنيا إلا وهي
في القرآن، وقال الأكثرون: ليس في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لقوله تعالى: )قرآناً
عربياً(، وإنما
هذا وأشباهه وقع وفاقًا بين اللغتين.
✦ وقال
ابن عباس: «أمر الله تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على
رؤوسهم؛ وذلك لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام؛ فأمر موسى قومه
أن يقبلوها، ويعملوا بأحكامها؛ فأبوا أن يقبلوها للآصار والأثقال التي هي فيها،
وكانت شريعة ثقيلة؛ فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام، فقلع جبلاً على قدر
عسكرهم، وكان فرسخًا في فرسخ، فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل كظلة، وقال لهم:
إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم».
✦ وقال
عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: «رفع الله فوق رؤوسهم الطور، وبعث نارًا من قبل
وجوههم، وأتاهم البحر المالح من خلفهم». انتهى الاقتباس من التفسيرات.
القول بأنّ الطور هو جبل
بالسريانية قول لا يصح إطلاقًا؛ لأنّ الادعاء بأنّ لفظ الطور لفظ سرياني مخالف
لصحيح كتاب الله الذي قرر أنه بلسان عربي مبين، ومحاولة بعض المفسرين التوفيق، بالقول
إنّ الكلمة وقعت وفاقًا بين اللغتين؛ يقصدون اللغة العربية واللغة السريانية، إنّما
هي محاولات ليس عليها دليل أو شاهد من كتاب الله.
تبعًا لمنهج الكتاب الذي
بين أيدينا؛ فإنّنا نعتقد أنّ كل كلمات القرآن عربية، وأنّ اللغة العربية هي اللغة
التي علّم الله بها آدم الأسماء، وظلت الأجيال تتوارث هذه اللغة؛ فدخلت عليها
تعريفات، واندثرت منها تعريفات، فلما نزل القرآن كانت إحدى مهامه الرئيسة ضبط هذه
اللغة، وتنقيتها من الدخيل عليها، وإعادة المندثر منها، ولكنْ بسبب اعتقاد الناس
أنّ العرب هم أصل اللغة، وليسوا متحدثين بها فقط، وأنّ القرآن جاء على مقاييسهم؛
حدث كل هذا التخبط. (راجع الجزء الثاني من الكتاب- الفصل الأول – قرآناً عربيًا).
لا يمكن أن يكون معنى
الطُور بعيدًا عن كلمة الأطوار التي ذكرت في سورة نوح، ولكن بسبب غرابة الكلمة عند
العرب؛ حاولوا تفسيرها عن طريق تصورات شخصية، لا تقوم على دليل.
الاعتقاد الراسخ في أذهان الأمة أنّ المقصود
بالطُور في هذه الآية الكريمة؛ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وهذا الاعتقاد
الراسخ -من وجهة نظري- وجد طريقه للأفهام، وحصد ثقةً لا بأس بها، وحصل على
معقوليته؛ بسبب قوله تعالى: )وَ إِذْ
نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ
بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) (سورة
الأعراف: الآية 171).
فاعتقد المفسر أنّ هذه
الآية تتكامل مع آية الطور، أو أنّ كلا الآيتين تعبّران عن نفس الحادثة، وخصوصاً
مع تقارب لفظَي [نتق الجبل] و[رفع الطور]؛ لذلك كان من الطبيعي وصف الطور بالجبل، وأن
يصبح هذا المفهوم هو المفهوم المسيطر، والمهيمن على مفهوم الطور في كتاب الله.
لكن عند تحليل الآيات الكريمة، وتحليل لفظ [نتق]؛
تبين لنا أنّ النتق والرفع شيئان مختلفان، والمفاجأة أنّ زمن آية رفع الطور يختلف
عن الزمن الذي نتق الله الجبل فيه. فما هو النتق؟
النتق: هو الجذب مع التحريك؛ كما جاء في قاموس
اللغة، ويختلف تمامًا عن كلمة الرفع، والتي تعني: انتقالٌ من أسفل إلى أعلى.
على ذلك نستطيع القول إنّ المقصود بنتق الجبل؛
هو تحريك وجذب الجبل ناحية بني إسرائيل، حيث مال عليهم وأصبح كالظلة؛ وكأنه على
وشك السقوط عليهم، أو ما يسمى بلحظات ما قبل الانهيار الجبلي، إذ حدث تحريك في
الكتل الصخرية للجبل، ولكنها لم تسقط عليهم، وهذا التحريك لا شك كان آية لهم، وتحذيراً
لما ارتكبوه.
وبالإضافة إلى جذر كلمة نتق ومدلولها، نجد أنّ
الفترة التاريخية التي حدث فيها النتق كانت غير تلك التي حدث فيها رفع الطور، ومن
خلال سياق الآيات في كتاب الله.
دعونا الآن نستعرض الآيات الكريمة في سورة
الأعراف، والتى لو وقفنا عندها وتدبرنا معانيها لتوصلنا إلى معلومات قيمة عن ماهية
الطور، ثم بعد ذلك نستكمل سرد الآيات التي تقص علينا نتق الجبل.
قال تعالى: )وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚوَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ
مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ
فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ
مَّشْرَبَهُمْ ۚ
وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن
طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا
مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ
نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ
تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ
بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عمّا نُهُوا عَنْهُ
قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)( (سورة الأعراف:الآيات 160-166).
تتحدث الآيات عن مجموعة
من الأحداث، جميعها حدثت في وقت رفع الطور،
والدليل هو ذكر أصحاب السبت ومسخهم إلى قردة، وهذا التحول كان بعد رفع الطور كما هو واضح من
ترتيب الآيات، وكما ورد ذكره صراحة في سورة البقرة عن الذين اعتدوا في السبت
فتحولوا قردة، قال تعالى: )وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ
قِرَدَةً خَاسِئِينَ( (سورة البقرة: الآية 65).
من الملاحظ أنّ ذكر كلمة
الطور، وكلمة [رفعناه] وردت في سورة الأعراف، وتصف مشهداً قرآنياً من الآية (160)
وحتى الآية (166)، بينما الآيات اللاحقة
في سورة الأعراف، وبالتحديد الآية رقم (169) فتتحدث عن زمن مختلف تمامًا، وبنص
صريح لا يحتمل التأويل.
قال تعالى: )فَخَلَفَ مِن
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ
يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا
الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ
فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)(
(سورة الأعراف: الآيات 169-171).
خلف من بعدهم خلف: أي
جاء بعدهم جيل آخر؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن تكون آية رفع الطور موافقة لآية نتق
الجبل زمنيًا، ولا يمكن بحال من الأحوال الاعتقاد بأنّ رفع الطور ونتق الجبل شيء
واحد.
وبشيء من التفصيل سنجد
أنّ الآيات من 160 وحتى 166 في سورة الأعراف -والتي تتحدث عن رفع الطور- احتوت على
مكافأة في صورة بركات لمن آمنوا، وقد تمثلت هذه البركات من خلال تظليل الغمام، وإنزال
المن والسلوى، وخُتِمَتِ الآيات بالعقاب للمكذبين؛ وهو تحوّل أصاب القوم فصاروا
قردة، فما علاقة الجبل بذلك إذا صح تفسير المفسرين بأن الطور هو الجبل؟
وإذا كان الطور هو جبل
تم رفعه فوق بني إسرائيل كما يقول المفسرون؛ فالنتيجة الطبيعية أنْ يقع عليهم
الجبل أو يسحقهم، وهذا لم يحدث ولم يذكره القرآن.
والآيات الكريمة تخبرنا أنّ نتيجة المعصية هي
تحوّل القوم إلى قردة! وهذا التحول لا يمكن تفسيره إلا من خلال ما يعرف اصطلاحًا
بـ (التحول الجيني)، أو تطور جيني ولكن في اتجاه عكسي؛ لو أردنا توصيفه توصيفًا
دقيقًا ، أو ما يطلق عليه الارتداد الجيني.
ومن ناحية أخرى نجد أنّ
القوم عندما أطاعوا الله، أنزل عليهم المنّ والسلوى؛ والمقصود بالمن والسلوى هو
زيادة البركة ورغد العيش، بدليل قوله: )كلوا من
طيبات ما رزقناكم(، وهذا
الرغد والزيادة والبركات على علاقة وثيقة بالطور، وهو ما يعرف أيضًا بـ التطور
الايجابي، بحيث تؤتي الزروع والثمار أضعاف المتوقع منها، وهو ما يقوم به الإنسان
حالياً من خلال التعديل الجينى للمزروعات؛ فيما يعرف بالهندسة الوراثية.
قد يستشكل على الناس فهم
كلمة [رفعنا]، التي جاءت مقترنة بالطور في المشاهد القرآنية الخاصة
بقصص بني إسرائيل؛ مما يعزز الصورة التجسيدية لرفع الجبل، ويجعلها هي الأقرب
للذهن. لكنّ كلمة رفعنا في كتاب الله لا تعني بالضرورة رفعًا ماديًّا؛ بل هي أقرب
للمعنى غير الحسي، أو الرفع اللامادي منها
للمعنى المادي كما في الآيات التالية:
)وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا
عَلِيًّا(
(سورة مريم: الآية57).
الرفع هنا في المكانة، والقيمة
الإنسانية، والمنزلة، والذكر، وليس رفعًا ماديًا.
وكذلك قول الله تعالى: )أَهُمْ
يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا
يَجْمَعُونَ(
(سورة الزخرف: الآية32).
الرفع هنا أيضًا خاصٌّ
بمكانة هؤلاء القوم ودرجاتهم الاجتماعية، وليس المقصود رفعًا ماديًا أبدًا.
فالرفع كما هو واضح؛ هو
وضْع المرفوع في منزلة أعلى من المعتاد له، أو في وضع أعلى من وضعه الطبيعي،
ومدلول التعبير القرآني (رفع الطور) لا يخرج عن هذا المعنى؛ وهو جعل تأثير الطور
أعلى وأسرع من المعتاد، أو أعلى من الوضع الطبيعي الذي من المفترض أن يكون عليه.
فمن خلال الآيات الكريمة
السابقة، وتحليل التعبير القرآني (رفع الطور)؛ نستطيع أن نستنتج أنّ [الطور] أو
عملية التطور هي عملية مستمرة بمعدل طبيعي، وهذه العملية كما بيّنت الدراسات تحتاج
لمدىً زمني طويل جدًا قد يصل لملايين السنين، وعلى ذلك يكون المقصود من رفع الطور
هو تسريع عملية التطور عما هو معتاد، بحيث تحدث التحولات في زمن قصير نسبيًا. وعملية
تسريع معدل التطور عملية معروفة علميًا، حيث يتم بشكل مستمر إنتاج وتطوير سلالات
محسنة من النبات والحيوان؛ لرفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومقاومة الأمراض عن طريق
الهندسة الوراثية.
لا شك أنّ مسألة رفع
الطور فوق بني إسرائيل هو أحد الآيات الإلهية، التي أرسلها الله سبحانه وتعالى
تأييدًا لنبيه ودعمًا لموقفه، ولكن سنرى أنّ الطور ذُكر في مواضع أخرى غير مقترن
بكلمة [رفعناه]، وغير مرتبط ببني إسرائيل،
وسوف نأتي عليه عندما يرد ذكر الآيات التي ورد فيها الطور بدون كلمة رفعناه.
الآية الثانية:
)وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن
كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ( (
سورة البقرة: الآية 93).
هذه الآية الكريمة تذكر
الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل؛ وكان رفع الطور هو أحد شروطه.
من الأمور التي يجب
أن نتوقف عندها، قول بعض المفسرين: (إنّ الطور هو الجبل الذى كلّم الله عليه نبيه
موسى)؛ لكنّ المتأمل لكتاب الله يجد أنّ كلام ربنا إلى نبيه موسى لم يكن على جبل
قط، وهذا دليل يضاف إلى دليل نتق الجبل؛ فعندما كلّم الله موسى كان في وادٍ، هذا
الوادي هو الذي أمره ربه أن يخلع نعليه عنده، ولم يكن على جبل، قال تعالى: )إِذْ رَأَىٰ
نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم
مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَۖ إِنَّكَ
بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى(
(سورة طه: الآيات 10-12).
كذلك عندما طلب موسى
عليه السلام رؤية ربه صراحة، وأخبره ربه أنه لن يراه؛ لم يكن على الجبل، ولكن كان
في موضع يستطيع من خلاله رؤية الجبل، ولابد أن يكون هذا الموضع بعيداً عن الجبل
بمسافة كافية؛ فلو كان موسى على الجبل وقت التجلي، لدفن فيه عندما تجلى ربه للجبل
وجعله دكًا؛ فكيف يكون على جبل سيصير دكّاً بعد قليل؟
قال تعالى: )وَلَمَّا
جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ
إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن
تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ
صَعِقًا ۚ فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(
(سورة الأعراف : الآية 143).
ها نحن نقدّم الدليل إثر
الدليل؛ على أنّ الطور ليس هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وليس جبلاً من
الأساس، ورغم إتياننا بتلك الدلائل نعلم صعوبة تقبّل فرضية أنّ الطور هو عملية
التطور بمفهومنا المعاصر؛ بسبب الإرث التراثي الثقيل، الذي يجعل الكثيرين يتقبلون
فرضيات ليس عليها أي دليل، سوى تأكيدات السابقين.
وبقدر الجرأة التي نسأل
بها عن الدليل عن كل فكرة جديدة؛ فمن
الإنصاف كذلك أن نسأل أين الدليل عن كل فكرة مترسخة في عقولنا، ولا يقوم عليها
البرهان، بل وتتناقض مع المنطق والعقل.
✦ إنّ وصف
الطور بالجبل لا علاقة له بالقرآن، ولا علاقة له باللغة؛ وإنما هي تصورات تخص
أصحابها.
الآية الثالثة:
قال تعالى: )وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم
مِّيثَاقًا غَلِيظًا(
(سورة النساء: الآية 154).
إنّ الآية الكريمة تحمل
إشارةً واضحةً إلى الميثاق، على شرط الطور الذي أخذه الله على بنى إسرائيل، ومن
أهم بنوده )لا تعدوا في السبت(،
ولما عصوا واعتدوا حلت بهم مصيبة التحول
الجيني؛ فتحولوا إلى قردة.
توجد لدينا إشارة خفيفة
تدعم قولنا بأن اللغة القرآنية وألفاظها هي ألفاظ حقيقية؛ تصف المسمى من حيث صفاته
وخصائصه، ولا علاقة لها بمسميات البشر، وأنّ ألفاظ القرآن هي الألفاظ العربية حصراً؛
وهذه الإشارة هي ما ذكره ربنا في كتابه عن مسمى الأيام؛ فقد ورد اسم يومين فقط من
أيام الأسبوع، وهما يوم السبت، ويوم الجمعة، فالسبت يعني الراحة والتوقف عن ممارسة ما هو معتاد
(يوم عطلة)، والجمعة من الاجتماع والتجمع، أمّا باقي الأيام هي عبارة عن تعداد لا
أكثر، ولم يأت ذكرها في القرآن، وجدير بالذكر أنّ العرب القدماء كانوا يطلقون
أسماء مختلفة على أيام الأسبوع، ليست كالتي نطلقها اليوم، أو كالتي جاءت في كتاب الله؛ فمثلا يوم الجمعة كان يسمى (عروبة)،
ويوم السبت كان يسمى (شِيار(.
الآية الرابعة:
قال تعالى: )وَنَادَيْنَاهُ
مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا( (سورة مريم:الآية 52).
لو أنّ الطور جبل؛
فالجبل ليس له يمين أو يسار، لكنّ المفسرين يقولون: إنّ المقصود هو من جانب موسى
الأيمن، بينما الآية صريحة وواضحة؛ وهي تتحدث عن جانب
الطور الأيمن، وليس جانب موسى الأيمن.
وكما بيَّنا أن الطور
ليس جبلاً؛ وإنما هو عملية التطور، فيصحّ هنا أن يكون المقصود بجانب الطور الأيمن؛ هو جانب التحول
الإيجابي.
إنّ التطور له مسار
طبيعي؛ وهو تحسين الصفات حتى تصبح الأفراد الجديدة أكثر قدرة على التكيف، وملائمة
وظائفها بكفاءة عالية.
بينما هناك أيضا جانب آخر للتطور؛ وهو الارتداد
أو التطور السلبي؛ بحيث تحدث انتكاسات، فتعود الأفراد إلى حالة سابقة.
لفهم عملية جانب الطور
الأيمن لابد إن نفهم مسار عملية التطور؛ فلو افترضنا أنّ لدينا الكائن (أ)، وهذا
الكائن حدثت له عملية تطور ليصبح الكائن (ب)؛ إذاً الكائن (ب) هو الصورة المحسنة
من الكائن (أ)، من هنا يصبح تأثير الطور أو التطور تأثيراً إيجابياً؛ وهو التأثير
الأيمن الذي ذكره ربنا في كتابه.
من هنا نستطيع القول إنّ
الكائن (ب) في الجانب الأيمن، فهل الكائن (أ) في الجانب الأيسر قياساً على أن
مقابل الأيمن هو الأيسر؟
الكائن (أ) هو في الجانب
السابق أو الماضي، وليس الأيسر، وقد جاء التعبير القرآني في هذه الجزئية غايةً في
الدقة؛ عندما أشار إلى هذا الجانب بالجانب الغربي؛ أي الجانب الذي غادره التطور
كما تغادر الشمس المكان، يسمى مغرب الشمس.
)وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) (سورة
القصص: آية 44).
بما أنّ الله رفع الطور
في هذه الفترة، أي زيادة معدل التطور؛ الذي يسبب تحسن صفات الكائنات، فإن نبي الله
موسى كان له نصيب من هذا التطور، والذي يبدو أنّه أهله لكي يتلقى كلمات الله بشكل
مختلف عما كان يتلقى به الأنبياء السابقون.
سوف نأتي على تلك الطفرة التي حدثت في تاريخ
البشرية، من خلال فصل: (كلّم الله موسى تكليماً)، فلا شك أنّ عملية الاتصال
بالخالق تحتاج لإعداد خاص، والأنبياء هم أكثر خلق الله صفاءً روحياً ونقاءً سلوكياً،
يؤهلهم لهذا الاتصال أو تلقي الوحي.
هذه الآية الكريمة تجيب
على سؤال في غاية الأهمية وهو: هل سيظلّ الإنسان يتطور؟ وما هي المرحلة التالية
إذا كانت عملية التطور عملية مستمرة حقاً؟
يبدو أنّ عملية التطور
تزيد مدارك الإنسان؛ لدرجة يكون الاتصال بينه وبين الخالق على درجة عالية جداً،
ولكن كما تُشير الآيات أنّ عملية التطور هذه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسلوك
الإنساني.
وقول ربنا سبحانه عن
نبيه موسى أنّه ناداه من جانب الطور الأيمن، وقرّبه نجياً، أنّ موسى تطوّر لدرجةٍ
جعلته قريباً من ربّ العالمين، وأصبح مصطفىً من رب العالمين بهذه المكانة الرفيعة.
إنّ التطور الذي طرأ على
نبي الله موسى من حيث اليقين وقربه من ربه؛ نستطيع إدراكه بسهولة من خلال مشهدين
من مشاهد القرآن الكريم:
المشهد الأول: عندما كلّفه ربه بالذهاب إلى
فرعون، وأن يقول له قولاً ليناً:
)اذْهَبَا
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن
يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ (45)) (سورة طه: آيات 43-45).
ورغم أنّ الوحي من الله، ويعلم موسى بالطبع أنّ الله
بيده مقاليد كل شيء، إلا أنَّ ذلك لم
يمنعه من التصريح بخوفه من أن يطغى فرعون عليه.
إنّ هذا الموقف كان في
بداية تكليف موسى بالنبوة، إذ يبدو أنّ
قدرته على الإدراك لم تكن بالقدر الذي كانت عليه فيما بعد، بدليل وحي الله
وتكليفه إليه؛ ومع ذلك يقول أخاف من طغيان فرعون.
إنّ تطور الإدراك والوعي
من سنن التطور الإلهية، والتي سوف نأتي عليها بالتفصيل، من خلال الباب الثاني في
هذا الجزء.
لقد تغيّر الأمر كليّاً خلال المشهد الثاني، الذي
تراءى فيه الجمعان، حيث أصحاب موسى وفرعون وجنوده، وعندها قال أصحاب نبي الله موسى
إنّا لمدركون. )فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ
مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)( (سورة الشعراء: آيات 61-62).
إنّ مقارنة بسيطة بين
الموقفين نستطيع من خلالها فهم ما حدث لنبي الله موسى على مستوى الإدراك والوعي، ونتيجة
هذا الإدراك وهذا الوعي.
في المشهد الأول لم يذهب
موسى إلى فرعون بعد، ومجرد الوحي الإلهي الذي طلب منه الذهاب إلى فرعون جعل موسى يعبّر
عن خوفه.
بينما في المشهد الثاني يرى الجمعان كلٌّ منهما
الآخر، وليس أمام موسى وأصحابه مفر، وفرعون عازم على إبادة موسى ومن معه، ورغم كل
الشواهد التي تدعم هلاك موسى وقومه؛ إلا أنّه عندما اضطرب أصحاب موسى، وظنوا أنّهم
مدركون؛ قال موسى بمنتهى الثقة: (كلا، إنّ معي ربي سيهدين)
ما الذي حدث لموسى لكي
يتحول الجزع والخوف إلى كل هذه الثقة والطمأنينة؟ رغم أنّ المشهد الأول كان محملاً
بالوحي الإلهي، بينما المشهد الثاني كان قائماً بشكل أساسي على يقين موسى وثقته
بربه، فهذا تطور على مستوى الوعي والإدراكلدرجة إخبار قومه بكل ثقة أنّ فرعون لن
يصل إليهم، وأنّ الله سوف يهديه إلى
المخرج من هذا المأزق.
ذُكر الطور في هذه الآية
الكريمة بدون الارتباط بكلمة [رفعناه]، والواضح أنّه مكان قد مر به نبى الله موسى
في رحلته، ووصفُ هذا المكان بالطور هو وصف
حقيقي؛ لأنه يبدو أنّ هذا المكان يدعم
التحول الجيني بقدر ما، أكثر من المعتاد؛ فالطور هو وصف لحالة هذا المكان، وليست
تسمية بدون دلالة؛ لأن الذي سماها هو الخالق الذي يعطي كل اسم وصفه الحقيقي
ودلالته الحقيقية.
إنّه المكان الذي حدثت فيه التحولات الجينية
التي جرت على بني إسرائيل، سواء البركات والزيادة (المن والسلوى)، وهي التطور
الإيجابي، أو المسخ والتشوه الجيني، وهو التحول الجيني السلبي أو الارتداد الجيني.
سوف نرى بعد قليل أنّ
هذا المكان ينطبق عليه وصف البقعة المباركة، وهو ما يشير ويقوي الدليل على أنّ هذه
البقعة المباركة لها خاصِّية، وقدرة معينة على دعم التحولات الجينية الإيجابية بنص
القرآن.
قد تكون مسألة رفع الطور
على بني إسرائيل مرتبطةً ببقعة معينة من بقاع الأرض، وأنّ هذه البقعة هي التي مر
بها نبي الله موسى في رحلته؛ وإذا كان كذلك فنحن أمام بقعة من الأرض تدعم التحول
الجيني أو التطور الإيجابي (أرض مباركة).
عندما أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن من
ضمن الميثاق رفع الطور؛ أي زيادة التأثير في هذه البقعة عن المعتاد، وارتبط هذا
التأثير بسلوكهم وتصرفاتهم.
التطور -سواء على
المستوى البيولوجي أو على مستوى الوعي والإدراك- على علاقة وثيقة بسلوك وتصرف
الإنسان، في حين أنّ سلوك الإنسان وتصرفه قد يقوده إلى تطوير قدراته؛ من ناحية الإدراك
والوعي على المستوى الفردي؛ فنجد أنّ سلوك
المجتمع وتصرفه قد يؤدي إلى تطور على المستوى البيولوجي بشكل ملموس.
فهذه إشارة قرآنية عجيبة على على العلاقة بين
المادي واللامادي في هذا الكون، والتى يجب أن تدفع في اتجاه فهم هذه العلاقة، ومحاولة
اكتشاف القوانين والتقديرات التي تحكم هذه العلاقة.
والآية التالية سوف تضيف
لنا دليلاً جديداً على أنّ الطور هو عملية
التطور، وكذلك سوف تلقي الضوء على علاقة السلوك والتصرف الإنساني بعملية التطور.
الآية الخامسة:
قال تعالى: )يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ
الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(
(سورة طه :الآية 80).
هذه الآية الكريمة إشارة
واضحة إلى التأثير الإيجابي للطور؛ أو ما يسمى جانب الطور الأيمن. فماذا قال
المفسرون عن المن و السلوى المذكورين في هذه الآية الكريم؟
✦ يقول
ابن كثير: «إن المنّ حلوى، والسلوى طائر» .
✦ ويقول
السعدى: «ويذكر منّته أيضًا عليهم في التيه بإنزال المنّ والسلوى، والرزق الرغد
الهني، الذي يحصل لهم بلا مشقة». انتهى الاقتباس من التفسير.
لو بحثنا عن أصل كلمتي
المنّ و السلوى في قاموس اللغة؛ سوف نجد أنّ كلمة المنّ (الميم والنون) لها أصل، وهو
اصطناع الخير، أمّا (السلوى) فتعني طيب العيش، أو بمعنى رغد العيش.
وإذا كان المنّ و السلوى
هما الخير والبركات والرّغد في العيش؛ فعلينا أن نتساءل ما علاقة رفع الطور بهذا الرغد في العيش وهذه البركات؟
ولو أنّ الطور جبل كما ادعى المفسرون؛ فلابد من بيان علاقة رفع الجبل بهذه البركات
وطيب العيش؟
لا توجد أي علاقة واضحة
بين رفع الجبل وبين البركات التي وعد الله بها بني إسرائيل إن هم استقاموا، في حين
أنّ العلاقة بين الطور بوصفه التطور، وبين وفرة الرزق وطيب العيش والبركات تكاد
تعلن عن نفسها؛ فهذا الرغد وطيب العيش والبركات هو عين التطور الإيجابي، الذي طال
كلَّ شيء، فتحسن الإنتاج وتضاعف.
والآية الكريمة تشير
بشكل مباشر لتلك العلاقة بين السلوك الإنساني وبين التطور؛ فعندما تكون نِسَب
الخير والشر متوازنةً، فإنّ التطور يسير في مساره الطبيعي دون زيادة أو نقصان،
ويعمل داخل الأقدار والقوانين العادية، من حيث المدى الزمني الطويل و تراكم
الطفرات وتوارثها.
لكن إذا تغير السلوك الإنساني للأفضل، وفاقت نِسَبُ الخير
نسبَ الشرّ بشكل ملحوظ؛ فهذا السلوك يعزز ويقوي الاتجاه الإيجابي للتطور، فتعمل
آلية التطور بشكل أسرع من معدلها، وبكفاءة عالية في اتجاه الوفرة والرغد والزيادة
الايجابية، أو ما نسميه نحن بالبركات.
وعلى الجانب الآخر نجد أنّ السلوك الإنساني المنحرف
له القدرة على عكس عملية التطور الإيجابي؛ ليسير التطور في اتجاه التشوه والشح
والانتكاس.
الآية السادسة:
قال تعالى: )فَلَمَّا
قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا
قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(
(سورة القصص: الآية 29).
ولكي يكتمل فهم هذه الآية الكريمة ؛ لابد أن
نضيف إليها الآية التالية في نفس السورة.
قال تعالى: )فَلَمَّا
أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ(
(سورة القصص: الآية 30).
من خلال الآيتين يتبين
لنا أنّ الطور -وهو حالة لا مادية- هو أحد صفات وخصائص البقعة المباركة الرئيسة، وتأثير
الطور عليها هو ما جعلها مباركة، وهو ما يعني أنّ هذه البقعة تدعم التحولات
الجينية الإيجابية.
فمن ذلك إذا قلنا أَنّ هذه البقعة هي بقعة الطور؛
فإننا نقصد أَنّ هذه البقعة تدعم التطور بشكل أعلى من مثيلاتها.
وعندما حاول المفسرون
بيان ما هي الشجرة المباركة؛ قالوا: إنها شجرة العليق، أو العسجة، أو العناب، وهي مسميات
ما أَنزل الله بها من سلطان، ولا ندري ما الدليل على مثل هذه المسميات! بينما في
كتاب الله هناك إشارة إلى هذه الشجرة المباركة، والتي سوف نتناولها من خلال الآية
السابعة.
الآية السابعة:
قال تعالى: )وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ(
(سورة المؤمنون: الآية 20).
يمكننا استنتاج أنّ
الشجرة المقصودة هي نفس الشجرة المباركة المذكورة في سورة النور.
قال تعالى: )اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ
عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(
(سورة النور: الآية 35).
ويوجد إشارة أخرى على
هذه الشجرة المباركة، وعلاقتها بطور سيناء، من خلال سورة التين، والتي سوف نتعرض
لها بالتفصيل في السطور القادمة.
إنّ الصفات المذكورة في
الآيات الكريمة عن الشجرة المباركة، والخصائص المشتركة في أنها مصدر للزيت أو أنها
تنبت بالدهن؛ تعزز بشدة فرضية أنّ هذه الشجرة هي شجرة الزيتون.
لكن ما الفرق بين الدهن والزيت من خلال وصف
القرآن لهذه الشجرة؟
جذر كلمة دهن في قاموس
اللغة له أصل واحد؛ وهو لين وسهولة وقلة؛ وهذا الوصف ينطبق تماماً على المادة
الدهنية في الثمار قبل عصرها وتحويلها إلى زيت، بينما بعد العصر وتجميع المادة
الدهنية بكثافة سماها القرآن زيت؛ فالتعبير الصحيح والدقيق هو شجرة تنبت بالدهن، وليس
بالزيت، فكأنّ الدهن يصف حبيبات متفرقة قليلة، بينما الزيت يدل على غزارة، وهو
السائل المستخدم في الإنارة كما جاء في سورة النور.
إذاً الشجرة المباركة التي تخرج
من طور سيناء تعني الشجرة التي حدث لها تحول وتطور، بحيث أصبحت أكثر إنتاجاً
وفائدةً، ولفظ سيناء -كما جاء في التفاسير- يعني المبارك؛ وعلى ذلك يصبح طور سيناء:
هو الطور المبارك أو التحول الجيني الإيجابي.
هذا الطور المبارك ورد ذكره مرة أخرى في سورة
التين، والتي ذُكرت فيها شجرة الزيتون بشكل مباشر.
والحديث عن شجرة الزيتون
هو حديث غاية في الروعة، يلقي الضوء على ملامح تطور جيني فريدٍ لهذه الشجرة
العظيمة، وتحولٍ أثبته العلم بالدليل والبرهان، ومع ذلك مازال هناك الكثير من
الغموض الذي يحيط بهذه الشجرة، ونشأتها الفريدة وتحولاتها العجيبة.
سورة التين هي المحطة
التالية لنا، والتي سوف نتعرف من خلالها على ملامح تطورية رائعة لشجرة التين وشجرة
الزيتون.
التين والزيتون:
القرآن الكريم سلاسل
وحلقات متصلة بعضها ببعض، وعن طريق معرفة بسيطة بالعلوم الطبيعية؛ سوف ندرك أننا
أمام نسيج كوني مرتبط بعضه ببعض، وملتفٍ بشكل يصعب تصديقه؛ فيبدو لنا أنّ شجرتا
التين والزيتون يحملان أسراراً عن التطور، ومن خلالهما قد تنفك ألغاز تطورية عددية.
قال تعالى: )وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2)وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ٍ (4)( (سورة التين: الآيات 1-4).
الآية الأولى: )وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُون(
إنّ مقدمة هذه السورة
العظيمة بدأت بشجرة التين وشجرة الزيتون بشكل صريح، وهذه السورة بالمجمل دليل على
أنّ الشجرة المباركة التي ذكرها ربنا في أكثر من وضع هي شجرة الزيتون تحديداً.
والآية الثانية في سورة
التين هي الدليل الذي لا يقبل الشك، على أنّ الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون؛
بسبب علاقتها المباشرة بالتطور.
الآية الثانية: )وَطُورِ سِينِينَ(
إنّ الآية الكريمة تعلن
علاقة قائمة بين التين والزيتون وطور السينين؛ فالطور كما ذكرنا هو التحول
الإيجابي (التطور)، ولسنا بحاجة لإعادة ما شرحناه من قبل عن الطور وشواهده القوية،
ولكن هنا تبرز إشكالية كلمة سينين بزيادة حرف الياء، فما هو السينين؟
✦ من
خلال تفسير الطبري نجد ما يلي: « قوله: )وَطُورِ سِينِينَ(
اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: هو جبل موسى بن عمران صلوات الله وسلامه
عليه ومسجده. وقال آخرون: الطور: هو كلّ جبل يُنْبِتُ. وقوله (سِينِينَ): حسن. عن
عكرِمة، في قوله: (وَطُورِ سِينِينَ) قال: هو الحسن، وهي لغة الحبشة، يقولون للشيء
الحسن: سِينا سِينا. وقال آخرون: هو الجبل، وقالوا: سينين: مبارك حسن. عن مجاهد
(وَطُورِ) : الجبل و (سِينِينَ) قال: المبارك. عن قتادة (وَطُورِ سِينِينَ) قال:
جبل مبارك بالشام. عن قتادة (وَطُورِ سِينِينَ) قال: جبل بالشام، مُبارك حسن.» انتهى
الاستشهاد من التفاسير.
والرأي الذي أميل إليه
هو أنّ سينين تعني (البركة أو المبارك)؛ كما قال بعض المفسرين، وليس اسم جبل، وخصوصاً
عند مقارنة كلمة سينين بكلمة سيناء، والتي تعني أيضاً المبارك. فيبدو أنّ كلمة
سينين مشتقة من كلمة سيناء، وتعني هنا البركات المتراكمة أو الطفرات الإيجابية
المتراكمة، والتي تؤدي لظهور صفات جديدة
محسنة.
إذاً فالآية الكريمة
تشير إلى تطور إيجابي لكل من شجرة التين والزيتون، ويبدو أنّ هذا التطور كان له
دور محوري في الحياة.
الآية الثالثة: )وَهَٰذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ(
وفي تفسير (البلد الأمين)
قال المفسرون: إنها مكة، مع أنّ مكة ذُكرت أكثر من مرة في كتاب الله، وذكرت في
دعوة نبي الله إبراهيم بالبلد الآمن وليس الأمين؛ والفرق بين الآمن والأمين فرق
كبير.
قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ(
(سورة البقرة: الآية 126).
وقال تعالى: )وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن
نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ(
(سورة إبراهيم: الآية 35).
وبشيء من التفصيل نلاحظ
أنّ لفظ البلد الأمين له علاقة بما قبله وما بعده,. ووصف شيء ما بالأمين يعني أنّ
هذا الشيء يحمل أمانة ما؛ فما هي الأمانة التي يحملها البلد؟ وكيف سيؤدي تلك
الأمانة؟ وقبل كل ذلك ما هو المقصود
بالبلد؟
جذر كلمة بلد -كما جاء
في قاموس اللغة- له أصل؛ وهو الصدر، ويقال بلد الرجل بالأرض؛ أي: التصق، وفى شمس
العلوم قال عدي بن الرقاع: «يقال للبلد الأثر . وربما سُمِّيَ المكان بالبلد بسبب
التصاق الناس بها، واجتماع آثارهم وذكرياتهم بها والله أعلم.»
ومن خلال أصل الكلمة
نستطيع القول بأنّ لفظ البلد في الآيات الكريمة في سورة التين تعني الأثر الملاصق
لهاتين الشجرتين، ومدلول كلمة البلد بأنها الأثر أضاف وجهاً آخر للصورة، وأصبحت
الآيات تعبر عن موضوع متكامل؛ بدأ بذكر التين والزيتون، ثم علاقتهما بالطور
المبارك أو التطور الإيجابي، ثم الإشارة إلى أنهما يحملان أثراً أميناً.
لا شك أنّ الأثر الأمين الذي تحمله شجرة التين
وشجرة الزيتون هو أثر من آثار التطور، ودليل عليه.
وتشير الآيات إلى أنّ
التين والزيتون عبارة عن سجلات تحفظ معلومات قيمة عن عملية التطور، وتنتظر من
يستخرج هذه المعلومات.
ها نحن مرة أخرى نتقدم
خطوة، ونشير إلى معلومات علمية من خلال تحليل اللفظ القرآني فقط، ونقدمها للباحثين
رجاء أنْ تهديهم لمعلومات عن عملية التطور، ولا نشك في أنّ التين والزيتون يحملان
دلالاتِ وأسرارَ عملية التطور، ولو استطعنا أن نقوم بتحليل متكامل لكل لفظ من
ألفاظ هذه السورة بشكل أكثر عمقاً؛ لربما أخبرنا اللفظ القرآني الكثير والكثير عن
التطور، ودور التين والزيتون فيه.
الآية الرابعة: )لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(
الآية الرابعة تشير إلى
علاقةٍ ما بين التين والزيتون وتطورهما، وبين تقويم خلق الإنسان واعتدال وانتصاب
قامته.
فتقويم الإنسان بهذه الطريقة هو تطور طرأ على
هذا الإنسان، وسوف نتطرق في الفصل القادم لخلق الإنسان وعلاقته بالتطور بالتفصيل.
يبدو أننا أمام علاقة
شديدة التشابك؛ بين تطور هذه الأشجار وبين تطور الإنسان، وبالتحديد تقويم خلق
الإنسان. وفي قاموس اللغة: جذر كلمة تقويم هو قوم ولها أصلان؛ الأصل الأول: جماعة،
والأصل الثاني: انتصاب وعزم؛ فتقويم خلق الإنسان هو الانتصاب والعزم، والذي يبدو
أنّه يشير إلى تقويم الهيئة الجسمانية للإنسان.
وما يدعونا للاعتقاد أنّ لفظ تقويم يشير إلى شكل
جسم الإنسان؛ هو ارتباط فعل تقويم بلفظ خلق؛ وفعل خلق كما أشرنا سابقاً يشير إلى
تكوينات مادية، وهو ما يتفق تماماً مع شكل جسم الإنسان، ويصبح التقويم منصبّاً على
انتصاب وقوة الجسم.
ها نحن مرةً أخرى أمام
إشارة ودلالة؛ يجب أن نقف عندها طويلًا، وهي علاقة التين والزيتون وتطورهما وما
يحملان من دلائل بخلق الإنسان في أحسن تقويم.
ونحن لا نجزم أنّ
المقصود هو التقويم الجسماني فقط؛ فقد تشمل كلمة تقويم مناحيَ عديدة؛ منها:
التقويم الجسماني، و التقويم العقلي والمعرفي، أو حتى التقويم النفسي، من خلال
تأثير ثمار هذه الأشجار أو أي منتجات تخرج منها على صحة الإنسان.
فتحليل اللفظ القرآني
يقودنا مباشرة لاستنتاج؛ أنّ تطور الإنسان مرتبط بتطور هذه النباتات، وقد يكون
التين تحديداً هو المسؤول عن عملية التقويم؛ بسبب ما يعنيه لفظ [التين].
بالرغم من أنّ لفظ التين
ليس له أصل في قاموس اللغة أو أي قاموس لغوي آخر، سوى أنه الفاكهة المعروفة، إلا
أنّ لفظ المتين في كتاب الله قد يعطينا لمحة عن صفات وخصائص التين.
وبالإضافة إلى أنّ شجرة
الزيتون أهم ما يميزها هو الدهن الذي يتحول إلى زيت الزيتون، فإننا نعتقد أنّ لفظ [تين]
تعني قوةً أو طاقةً تحملها هذه الثمار، وقد تكون هذه الثمار بخصائصها وصفاتها هي
مصدر قوة وطاقة تساعد الكائنات -وخصوصاً الإنسان- على اعتدال وتقويم هيئتها
الجسمانية.
لا شك أنّ كل الثمار والفاكهة تحمل سعرات حرارية،
وتساعد الجسم بطريقة ما في بناء أنسجته، ولكن ليس هذا ما أقصده؛ ما أقصده أنّ
التين يحمل أسراراً أكثر بكثير مما نظن عن قدرته، ومساهمته في تطور البنية الجسمية
للإنسان تحديداً.
التين والزيتون وعلاقتها بالتطور من المنظور العلمي:
لا توجد معلومات كافية
عن علاقة كلٍ من التين والزيتون بمسألة التطور؛ لذا نعتقد أنّ هذا الباب مازال
الكثير والكثير وراءه، ويحتاج لجهود مخلصة لفهم هذه العلاقة، التي تعلن
عن نفسها في كتاب الخالق، وبقدر ما أتيح لنا من اطلاع سوف نتعرض لهاتين الشجرتين؛
لنتعرف على ما قاله العلم عنهما بخصوص عملية التطور.
أولًا: الزيتون:
وفقا لبحث منشور في مجلة
(Proceedings
of the Royal Society B) بتاريخ 5 فبراير 2013؛ فإنّ أول استئناس لشجرة
الزيتون يُعتقد أنه كان ما بين 6000 إلى 8000 سنة مضت، وعن طريق التحليل الجيني
لأكثر من 1900 عيّنة من عيّنات أشجار الزيتون في منطقة البحر المتوسط؛ استطاعت
الدراسة استخلاص أنّ شجر الزيتون أصبح في هذه الفترة أكبر من أسلافه، وأكثر عصارة.
وتشير الدراسة إلى أنّ
شجر الزيتون ربما يكون قد زُرع أول مرة من الأصناف البرية، عند الحدود مع سوريا
وتركيا، أو ربما تمّت زراعته على عدة خطوات، شملت المناطق التي توجد فيها بلاد
فلسطين والأردن ولبنان وسوريا.
والمكان الذي زُرع فيه
شجر الزيتون لأول مرة كان مثار جدل، وفي سبيل التحقق من الأمر فقد أخذ فريق البحث
1263 عينة من أشجار الزيتون البرية، و534 عينة من أشجار الزيتون في جميع أنحاء
البحر المتوسط، ثم قام الفريق بتحليل المواد الجينية وهياكل النباتات الخضراء
اعتماداً على عملية التمثيل الضوئي.
يقول الفريق أنه بسبب انتقال الحمض النووي من
شجرة ما إلى الأشجار المنحدرة حولها؛ يمكن للحمض النووي أن يكشف عن التغيرات في
سلالات النباتات .
أعاد الباحثون بناء شجرة
وراثية لشجرة الزيتون، ووجدوا أنّ ثمار الزيتون الصغيرة والمُّرة قد انتقلت، أو
وجدت طريقها إلى الأشجار الأكثر عصارة والغنية والكبيرة، في المنطقة الجغرافية
الواقعة على الحدود بين تركيا وسوريا.
هذ الدراسات تبدو
متوافقة إلى حد ما مع الإشارات القرآنية عن البقعة المباركة والشجرة المباركة
وعلاقة هذه الأشجار بطور سينين وهو التطور الإيجابي.
ثانيًا: التين:
إنّ ذكر التين في كتاب
الله، وربطه بطور سينين؛ قد يحمل الكثير من المعلومات لكلٍ من علماء النباتات
وعلماء الأحياء والجينات والتطور، وسوف نحاول استعراض بعض المعلومات المتناثرة حول
التين، والتي ربما فتحت المجال أمام متخصص ليُخرج لنا معرفة وعلومًا أعمق وأغزر.
تشير الأبحاث إلى أنّ
شجرة التين ظهرت منذ ما يقرب من 80 مليون سنة، وأنّ هناك عدداً مهولاً من
الكائنات الحية تتغذى على ثمار التين؛ مما
جعل العلماء يعتقدون أنّ لشجرة التين الفضل في الحفاظ على الحياة البرية، أكثر من
أي نوع من أشجار الفاكهة الأخرى.
تشكل شجرة التين بثمارها
وأوراقها ولحائها غذاءً لأكثر من 1200 نوع من الكائنات الحية، بالإضافة إلى أنّ
10% من الطيور تتغذى كذلك على منتجات شجرة التين، ويعتبر علماء البيئة أنّ التين
من الموارد الغذائية الأساسية على الأرض، ولو قُدّر له الاختفاء؛ فإنّ ذلك قد يؤثر
سلباً على كل شيء آخر، بل قد يتسبب في انهيارٍ خطير في النظام البيئي والتنوع
البيولوجي.
ووجود التين على مدار
العام كان من العوامل المهمة جدًا في الحفاظ على السلالات البشرية منذ فجر
التاريخ، وربما يكون التين قد ساعد سلالات الإنسان الأولى على تطوير أدمغة أكبر
مما كانت عليه، وربما كان عاملًا مهمًّا في عملية التطور برأي بعض الأبحاث.
من اللافت للنظر أنّ
هناك نوعاً من أشجار التين يسمى (فيكس سيكومورس Ficus Sycomorus ) كان على وشك الانقراض، ولم تكن الأشجار
وقتها تنتج ثماراً ناضجة حتى تتمكن من إعادة دورة الإنبات؛ ولو اختفت الأشجار
الموجودة وقتها لما أمكن إعادة إنباتها مرة أخرى؛ ولكن في مشهد نادر الحدوث تشير
الدراسات إلى أنّ المصريين القدماء وبطريقة ما استطاعوا مساعدة شجرة التين؛ لتنتج
تينًا ناضجًا، وتنجو من الانقراض عن طريق استخدام شفرات لتحطيم شجرة التين بطريقة
معينة، ولا يعرف العلماء على وجه التحديد ماذا حدث بالضبط، أو آلية عمل هذه
الطريقة، وهل هي مجرد ضربة حظ أم أنّها عبقرية معينة.
انتهت معلوماتنا العلمية
البسيطة عن التين، ونظنّ أنّه مازال هناك الكثير والكثير مخبأ في هذه الشجرة
العتيقة، وأنها تحمل أسرارًا وراثية وجينية قيّمة للغاية، وربما يتم اكتشافها في
المستقبل القريب.
لا يمكن أن نُغفل
العلاقة بين لفظ التين والذي يشير إلى صفة من صفات القوة والطاقة -كما بيَّنا عند
تحليل لفظ التين- وبين لفظ تقويم؛ الذي يعني انتصاباً وعزماً، ويبدو أنّ دور التين
في عملية الانتصاب والعزم للإنسان دورٌ رئيس، وذلك فقط من خلال تحليل ومقارنة
الألفاظ القرآنية.
لا شك أننا أصحاب حظ
عظيم ببقاء هذا الأثر الأمين؛ والمتمثل في تلك النباتات والتي ذكرها ربنا بالبلد
الأمين، فبعد التعريج على طور سينين وعرض بعض المعلومات عن التين والزيتون؛ أصبح
لدينا يقين قوي أنّ المقصود بطور سينين هو التطور الإيجابي وليس مجرد جبل؛ كما رسخ
في أذهان الكثيرين.
الآية الثامنة:
)وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ
الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا
أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(
(سورة القصص: الآية 46).
ليس لدينا ما نقوله في
هذه الآية أكثر مما قيل عن الطور في الآيات السابقة؛ غير أنه يلزمنا التأكيد على
أنّ الطور هو وصف حالة التطور، وأنّ هناك بقعةً مباركةً تتميز بأنها تدعم التحولات
الجينية السليمة، ويصح معها وصفها بالطور؛ بسبب خصائصها وتأثيرها في عملية التطور.
وليس صعبا تحديد هذه
البقعة المباركة، وإجراء الدراسات على جميع الكائنات الموجودة فيها، ودراسة
الحفريات بها؛ لفهم تأثير هذه البقعة، ولماذا تدعم التحولات الجينية؟.
إنّ مجرد اكتشاف بقعة
على وجه الأرض تدعم التحولات، ويتم فيها التطور بشكل أعلى من مثيلاتها؛ هو في حد
ذاته فتح علمي للبشرية، يمكن أن يكون
له تطبيقات لا حصر لها؛ فنحن أمام كنز
أثمن من أي شيء آخر، وهو يحتاج لعقول راقية تطرح الأسئلة، وتضع الاحتمالات، وتجري
التجارب فقط .
بعد أن استعرضنا الآيات
الخاصة بالطور؛ سواء الآيات المتعلقة ببني إسرائيل، أو الآيات غير المتعلقة ببني
إسرائيل، يتبقى لنا آية واحدة، وهي الآية التي ذكرت في سورة الطور.
لقد عوّدنا كتابُ الله
أنّ أسماء السور هي الموضوع الرئيس الذي تدور حوله السورة، وسورة الطور هي السورة
التي تتحدث عن هذه العملية وتحيط بها؛ وسوف نحاول قدر استطاعتنا تحليل ألفاظ مقدمة
السورة وإيجاد العلاقة بين الآيات بعضها ببعض.
قبل أن نستعرض الآيات
الأولى من سورة الطور؛ دعونا نعرج قليلًا على بعض المعلومات البسيطة، والخاصة
بالحمض النووي ال ( د ن ا)؛ حتى نتبين
مدلول الألفاظ.
إنّ الحمض النووي هو
مستودع صفات الكائن، أو الذاكرة التي تحتفظ بجميع المعلومات الخاصة بالكائن الحي، ويحدث
التطور نتيجة حدوث طفرات في الحمض النووي؛ مما يجعل الفرد من النسل الجديد أكثر
ملاءمة وكفاءة من الأفراد السابقة، ولو جاز لنا التعبير لأطلقنا على هذا الحمض
النووي مطبخ التطور.
الشريط الوراثي:
جميع المعلومات الخاصة
بالكائن الحي، والتي تعتبر خريطة متكاملة لهيئة الكائن وشخصيته المستقلة؛ مخزونة
ومحفوظة -كما ذكرنا- في جزئيات الحمض النووي.
ـ ويوجد نوعان من
الأحماض النووية :
1.الحمض النووي
(د ن ا) أو الحمض النووي منقوص الأكسجين.
2. والحمض
النووي (ر ن ا) أو الحمض النووي الريبوزي أو الناقل.
الكائن الحي يتكون من
خلايا، وكل خلية تحتوي على نواة، يتمركز داخلها الحمض النووي، الذي يشبه شكل السلم
الحلزوني، ويتكون شريط الحمض النووي من
جانبين أو شريطين متوازيين، مكَوِنًا ما يسمى بـالكروموسومات، والتى بدورها تتكون
من جينات؛ حيث يحمل كل جين معلومات وراثية محددة، عن صفة معينة من صفات الكائن
الحي.
على سبيل المثال: هناك
جين مسؤول عن لون العينين، وآخر مسؤول عن لون الشعر، وآخر عن الطول وهكذا، وتأتي
هذه الكروموسومات مناصفة من الأم والأب؛ ولذلك يحمل الجنين صفات مشتركة من
الوالدين.
وإضافة
إلى النواة التي تحمل داخلها الحمض النووي هناك عضيات رقيقة منتشرة في الخلية؛ ولها دور هام وضروري في العمليات
الحيوية، وتعتبر هذه العضيات مولدات طاقة في الخلية واسمها العلمي [الميتوكندريا]،
وهذه المولدات تأتي من الأم فقط، ولا دخل للأب بها.
تحتوي [الميتوكندريا] أو مولدات الطاقة على شريط
وراثي خاصٍّ بها، وحسب الباحثين توجد علاقة وثيقة بين الحمض النووي في النواة، والحمض
النووي الموجود في مولدات الطاقة هذه.
من المعروف أنّ أي خلل
قد يصيب الحمض النووي الموجود في نواة الخلية، أو الحمض النووي الخاص
بالميتوكندريا؛ يمكن أنْ يسبب أضرارًا خطيرة للكائن الحي.
وكان يُعتقد في السابق
أنّ دور الميتوكندريا يقتصر على توليد الطاقة في الخلية، ولكنّ أبحاثاً حديثة
أظهرت أنَّ [الميتوكندريا] تؤثر في مجموعة مختلفة من العمليات الحيوية داخل
الخلية، مثل موت الخلايا ومناعتها، بل إنّ تغيرات في الحمض النووي الخاص بها له
علاقة مباشرة بأمراض؛ مثل السرطان وأعراض الشيخوخة.
من الأشياء المثيرة
للإعجاب في الميتوكندريا أنّ الحمض النووي الخاص بها له القدرة على تراكم الطفرات
بسرعة عالية جدًا، بنحو عشرة أضعاف قدرة الحمض النووي الموجود في الخلايا.
هذا الاختلاف بين قدرة
الحمض النووي في الميتوكندريا وبين الخلايا العادية ساعد العلماء بشكل كبير جدًا
في رسم شجرة السلالة البشرية، والتي يُعتقد أنها ظهرت في إفريقيا، وانتشرت في العالم
كله.
بعد هذه المعلومات
البسيطة عن الحمض النووي، وعن مولدات الطاقة في الخلية، نستعين بالله ونحاول فهم
مقدمة سورة الطور .
سورة الطور:
قال تعالى: )وَالطُّورِ
(1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ
(4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)(
(سورة الطور: الآيات 1-6).
الآية الأولى: )والطور(:
لم يزد المفسرون على
تفسير الطور -كما قلنا- بأنه الجبل، (الطور هو الجبل بالسريانية!)، وقد بيّنا أنّ
الطور ليس المقصود به الجبل أبدًا ؛ ولكن هو مراحل تطور المخلوقات.
من هنا نستطيع القول إنّ آيات السورة لها علاقة
مباشرة بعملية التطور، ووصف هذه العملية؛ فعندما يقول ربنا في أول آية )والطور( هو
لفت انتباه الإنسان إلى هذا المسمى العجيب، وهو أيضا تنبيه لما سوف يأتي بعد ذلك، وعلاقته
المباشرة بالطور.
الآية الثانية: )وكتاب مسطور(:
الكتاب المسطور: لفظ
كتاب يعني مجموعة المسائل والتعليمات والقوانين الخاصة بأمر من الأمور؛ كما وضحنا
ذلك في أكثر من موضع، والكتاب لا يعني كياناً مادياً، بل هو مجموعة تعليمات عن شيء
معين.
مثال ذلك كتاب الصلاة: هو مجموعة التعليمات
والأوامر والإرشادات الخاصة بالصلاة. والتعبير عن الكتاب بأنه مجموعة التعليمات
والأوامر، وليس مجسّم الكتاب كما نعرف، نجده
شديد الوضوح في الآية التالية:
)يَوْمَ نَطْوِي
السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا
عَلَيْنَا ۚ إِنَّا
كُنَّا فَاعِلِينَ( (سورة
الأنبياء: الآية 104).
من خلال هذه الآية
الكريمة يتضح لنا أنّ الكتاب: هو مجموعة التعليمات والقوانين والبيانات عن شيء ما،
بينما السجل: هو الكيان المادي الذي يحوي هذه التعليمات والبيانات.
فالأفكار والمعلومات التي يتضمنها الجزء الثالث
الذي بين يديك هو ما يصح أن نطلق عليه كتاب، بينما النسخة الورقية المدون عليها
هذه المعلومات هي ما تعرف بالسجل.
كلمة )المسطور(
فسرها المفسرون كالآتي:
يقول المفسرون أنّ لفظ )المسطور( يعني
المكتوب، لكن عندما بحثنا عن جذر الكلمة، وعن مدلول الكلمة في كتاب الله؛ استطعنا
فهم المعنى الدقيق للكلمة.
جذر كلمة مسطور هو
(سطر)، ومعناها اصطفاف الشيء، ولو نظرنا لكتاب الله لوجدنا أنّ كلمة سطر ومشتقاتها
ذكرت في كتاب الله أربع مرات.
الآية الأولى هي الآية
في سورة الطور، إضافة إلى ثلاث آيات أخرى كما يلي:
الآية الثانية : )ن
وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(
(سورة القلم: الآية 1)
الآية الثالثة: )وَإِن مَّن
قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(
(سورةالإسراء: الآية 58).
الآية الرابعة: )النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا( (سورةالأحزاب: الآية 6).
لكي نفهم كلمة سطر فهمًا
جيدًا لابد أن نلقي الضوء على كلمة شبيهة لها في كتاب الله، وهي [صيطر] بحرف الصاد
التي وردت في سورة الطور وسورة الغاشية.
)أَمْ
عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ( (سورة الطور: الآية 37)
)لَّسْتَ عَلَيْهِم
بِمُصَيْطِرٍ(
(سورة الغاشية : الآية 22).
سطر وصطر لهما نفس الصوت
تقريبًا، مع ملاحظة الاختلاف في حرف السين وحرف الصاد.
حرف السين يدل على
السلاسة والسهولة، بينما حرف الصاد فيه شيء من الصلابة، كما تشير بذلك مراجع
اللغة.
وبخصوص كلمة صطر، لم تدل
المعاجم على شيء ذي معنى يمكن الاستناد إليه؛ غير أنّ السين قلبت صاد، وغير أنه من
خلال مقارنة كلمة سطر وصطر ودلالة الحروف و مدلول الكلمة في كتاب الله، سنجد أنّ
صطر تدل على انتظامِ واصطفافِ الشيء، ولكن بقوة جبرية.
إذاً فهم لفظ [صطر]
يقودنا مباشرة لفهم لفظ [سطر]، والذي يعني انتظام الشيء واصطفافه بسلاسة وسهولة؛
كأنّ الأشياء التي تُسطر أي تتبع قانوناً معيناً، بحيث تصطف وتنتظم في مواضع محددة،
بناءً على برنامج محدد.
ومن خصائص لفظ [سطر]
نفسه؛ الانتظامُ والاصطفاف، وهي خواصٌّ ضد العشوائية أو العبث، وكأنّ الآية
الكريمة التي تتحدث عن الكتاب المسطور تريد أنْ
تخبرنا عن تلك التعليمات والقوانين، التي تصطّف وتنتظم بشكل ذكي، وطريقة
تخضع لتقديرات دقيقة.
وقبل أن نغادر هذه الآية
الكريمة، وجب علينا أنْ نلقي الضوء على الآية الكريمة التي ذُكرت في بداية سورة
القلم، وجاء فيها لفظ [يسطرون]، وللأسف الشديد التفسيرات التقليدية حول هذه الآية
أقرب للأساطير.
يقول تعالى: )ن والقلم
ومايسطرون(؛ في
تفسير هذه الآية العظيمة كمٌّ من المعلومات المغلوطة، والتي ما أنزل الله بها من
سلطان، مثل: أنّ النون هو حوت عظيم، وأنّ الله خلق الأرض وجعلها على هذا الحوت،
وقد لخَّصَ الطبري أغلب هذه الأقوال في كتابه كما يلي:
«قيل : المراد بقوله :
(ن) حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط، وهو حامل للأرضين السبع، كما قال
الإمام أبو جعفر بن جرير: عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب.
قال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة.
ثم خلق (النون) ورفع بخار الماء، ففتقت منه السماء، وبُسطت الأرض على ظهر النون،
فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض. عن مجاهد قال:
كان يقال: النون: الحوت العظيم الذي تحت الأرض السابعة.» انتهى التفسير.
لا يمكن فهم هذه الآية
الكريمة إلا من خلال فهم مدلول كلمة القلم، وفهم ما هو السطر، والسطر -كما بيّنا آنفاً- هو نظم الأشياء واجتماعها، أما القلم
فقد سبق وبيّنا ما هو القلم (في الجزء الثاني - فصل علّم بالقلم)، حيث جاء ما ملخّصه؛
أنّ القلم هو الطريقة أو الآلية التي يتم بها نظم وترتيب أشياء معينة، غير مرتبة
أو عشوائية؛ بغرض إنتاج هيئة مرتبة منتظمة،
و صيغة مفهومة.
ومعنى القلم المعاصر
مطابق تمامًا لمدلول الكلمة في كتاب الله؛
فالقلم هو الأداة التي تَصنع من الأشياء العشوائية أشياءَ منظومة ومرتبة،
أو صيغةً لها معنى، وهذا ما يفعله بالضبط
القلم المعروف؛ حيث يصنع من الحبر (والحبر هو المادة العشوائية أو غير
المنتظمة) خطوطاً ذات معنى محدد ومفهوم.
من هنا يمكن القول بأنّ
النون على ما يبدو هو المادة الخام؛ نقطة البداية، أو المادة الأولية، والقلم هو
الآلية التي رتبت هذه المادة المبعثرة، وخلقت منها تكويناً له معنى.
وقد يكون هذا النون هو
الاهتزازات الأولى (نظرية الأوتار الفائقة)، والقلم هو البرنامج المحمل على هذه
الاهتزازات؛ والذي من خلاله استطاعت هذه الاهتزازات التجمع والانتظام؛ لتعطي أول
ذرة في الكون، ومن ثم بدأ التضاعف في شكل متوالية هندسية؛ حتى صار الكون بهذا
الشكل، ومازال يتسع ويتمدد بشكل مستمر.
إذا كانت الآية الكريمة في سورة الطور تصف
الاصطفاف والانتظام الذكي الذي أسس لوجود الحياة؛ فإنّ بداية سورة القلم تخبرنا عن
النشأة الأولى لهذا الكون قبل وجود الحياة.
(الكتاب المسطور) في
سورة الطور يتطابق تمامًا مع خصائص وصفات المعلومات، والبيانات المدونة داخل الحمض
النووي المسمى بـ(DNA).
مرة أخرى لابد من
التفريق بين المعلومات والبيانات؛ بوصفها شيئاً غير مرئي، وبين الكيان المادي الذي
يحمل تلك المعلومات.
إنّ هذه البيانات
والمعلومات لابد أنْ تكون مسجلة على شيء ما؛ مثال ذلك: المعلومات والبيانات
المسجلة على الشريحة الذكية في أجهزة الاتصالات، فما هي الشريحة المسجل عليها
البيانات والمعلومات الخاصة بالكائن الحي؟
الآية الثالثة: )فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ(
لم يزد المفسرون في
تفسير الرق المنشور عن القول بأنه كتاب أو
صحيفة، بينما أصل الكلمة في اللغة وفهمها من خلال السياق يشير إلى شيء آخر.
جاءت كلمة رَق في معاجم
اللغة بمعنى: جلد رقيق أو ورق، أما في قاموس اللغة لابن فارس: فجذر كلمة رق لها
أصلان؛ أولهما: صفة مخالفة للجفاء (رقيق)، والآخر اضطراب في شيء مائع.
إذن الرَّق هو شيء دقيق رقيق، من المفترض أن
يكون الكتاب المسطور مدونًا عليه؛ أي أنّ الرَّق
هو السجل أو الشريحة الذكية التي تحمل الكتاب المسطور.
كلمة منشور جذرها:
(نشر)، ولها أصل واحد كما في قاموس اللغة: وهو فتح الشيء وتشعبه؛ فنحن نتحدث عن
انتشار هذا الرق بشكل كبير.
بمقارنة كل هذه المعطيات
نجد أنّ أقرب وصف للرق المنشور هو شريط الحمض النووي؛ الموجود في النواة، والذي
يحمل البيانات والتعليمات.
ورقة ودقة الشريط
النووي، وقدرته على حمل كل المعلومات الخاصة بالكائن هي ما جعلتنا نقول: أنّ الرَّق
المنشور هو شريط الحمض النووي.
الحمض النووي منشور
حرفياً؛ حيث إن كل خلية حية تحوي شريطَ حمضٍ نووي خاص بها. ولو أمكننا استخراج
جزئيات الحمض النووي من خلية واحدة وربطها معاً؛ فسوف يصبح طول هذا الخيط ما يقارب
مترين( 1.8 متر)، وبفرض أنّ جسم الإنسان يحتوي على 100 تريليون خلية، فإننا نتحدث
عن حمض نووي طوله 177 مليار كيلو متر.
الآية
الرابعة: )وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ(
✦ فسّر
المفسرون البيت المعمور أنه بيت في السماء السابعة، أو البيت الحرام؛ غير أنّ
تفسير ابن عاشور يقول: إنّ هناك إجماعاً على أنّ هناك بيتاً في السماء السابعة؛
غير أنّ كونه المقصود بهذه الآية غير صريح.
وللأسف فإنّ التفسير القديم لا يأخذ في الحسبان
سياق الآيات الكريمة والموضوع الذي تتناوله، ويحاول دائماً تفسير الآيات بشكل
منفرد؛ مما يخرجها من مضمونها.
السؤال الذي يجب أن
نطرحه هنا: ما المقصود بالبيت المعمور؟ وما علاقة هذا البيت بالرَّق المنشور؟
إنّ جذر كلمة [بيت] له
أصل واحد كما جاء في قاموس اللغة: وهو المأوى والمآب، ومجمع الشمل. ويقال لبيت
الشعر بيتًا؛ لأنه مجمع الألفاظ والحروف والمعاني.
جذر كلمة [معمور] ( ع م ر )، ولها أصلان: أولهما
بقاء وامتداد الزمن، والثاني علو شيء. ومن
خلال كتاب الله، وخصوصاً الآيات الثلاث التالية؛ نجد أنّ لفظ (عمر) يفيد البقاء،
وهذا البقاء مدعوم بحركة مستمرة، قال تعالى:
)مَا كَانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ( (سورة التوبة: الآية 17).
جاء لفظ يعمر بمعنى:
إعمار المساجد بالتردد عليها، أي حركة مستمرة من وإلى المسجد.
يقول تعالى: )وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(
(سورة هود: الآية 61).
استعمار الأرض هنا: بقاؤهم
مع الحركة الدائبة .
وقال تعالى: )أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا
أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(
(سورة الروم: الآية 9).
عمارة الأرض في الآية
الكريمة تعني بقاؤهم مع الحركة المستمرة.
بمقارنة
المعلومات التي حصلنا عليها؛ نجد أنّ البيت المعمور ربما يكون المقصود به المكان
الذى يحوي الكتاب المسطور المدون على الرق المنشور، وهو النواة التي تقع في مركز
الخلية، خصوصاً لو علمنا أنّ النواة تمتاز بالبقاء أطول فترة ممكنة حتى بعد فناء
الكائن الحي نفسه.
العلم حاليًا
يناقش إعادة الحيوانات المنقرضة التي مر عليها ملايين السنين إلى الحياة مرة أخرى؛
عن طريق إصلاح جُزيء الحمض النووي الموجود بالنواة الخاصة بها، أما إمكانية إعادة
كائنات منقرضة منذ وقت قريب فلا يعد مشكلة كبيرة؛ بسبب سلامة الحمض النووي لمعظم
هذه الكائنات.
فلا غرابة إذا وصفت النواة بالبيت المعمور؛ وهي
التي تتميز بالبقاء أكبر مدة ممكنة محتفظة بصفات وخصائص الكائن نفسه، داخل شريط
الحمض النووي الخاص بالكائن.
الآية الخامسة: )وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ(
✦ جاء
في تفسير الطبري في تفسير السقف المرفوع كالآتي:
«وقوله: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء، عن
مجاهد (السقف المرفوع) : قال: السماء. عن قتادة (والسقف المرفوع) سقف السماء. قال
ابن زيد، في قوله: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : سقف السماء.» انتهى التفسير.
جذر كلمة سقف له أصل
واحد: وهو أطلال وانحناء.
وبالنظر لورود كلمة سقف في كتاب الله نجد أنّ
كلمة سقف تدل على شيء مرتفع يحيط بشيء آخر؛ وكأنه حدود لهذا الشيء؛ وبما أننا
نتحدث عن المستوى الخلوي فأعتقد أنّ المقصود بالسقف المرفوع هنا: الغلاف النووي
الذي يحيط بمكونات النواة ويفصلها عن باقي مكونات الخلية.
وقد يكون المقصود بالسقف
المرفوع هو الغشاء الخلوي للخلية، والذي يفصل مكونات الخلية عن باقي الخلايا
الأخرى، ولكنني أميل إلى وصف السقف المرفوع بالغلاف النووي.
الآية السادسة: )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُور(
✦ جاء
في تفسير الطبري للبحر المسجور ما يلي:
«وقوله: )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ( اختلف أهل التأويل في معنى البحر المسجور، فقال بعضهم: الموقد. وتأويل
ذلك: والبحر الموقد المحميّ. عن سعيد بن المسيب، قال: قال عليّ رضي الله عنه لرجل
من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقاً، )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ مخففة. عن شمر بن عطية، في قوله: )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ( قال: بمنـزلة التنُّور المسجور. عن مجاهد )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ( قال: الموقد. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا البحار مُلئت، وقال:
المسجور: المملوء. عن قتادة قوله: )وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ( الممتلئ.» انتهى التفسير.
الكلمات القرآنية كما
نحب أنْ نؤكد تصف حالة معينة، ولا تصف جنسًا، ولا يمكن فهمها إلا من خلال سياق
الجملة؛ والبحر كما في قاموس اللغة لابن فارس: له أصل هو السعة والانبساط، ويقال
فلان بحر علم؛ أي واسع الاطلاع، وبحر في المال؛ أي سخي وكريم.
لفظ [بحر] في كتاب الله
جاء مرة يصف المساحات المائية العذبة، ومرة
المساحات المائية المالحة.
قال تعالى: )وَمَا
يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ
أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (سورة فاطر: الآية 12).
من خلال سياق الآيات
التي تتحدث عن التطور وجزئيات ال (DNA) نجد
أنّ أقرب وصف يمكن أن ينطبق على مفهوم البحر هو الخلية، وما تحتويه من سائل (سيتوبلازم
الخلية)، ومما يعزز هذه الفرضية ويقويها هو وصف هذا البحر بالمسجور؛ أي أنه
في حالة إيقاد أو اشتعال خفيف.
وبالنظر إلى حجم العضيات
داخل سائل الخلية وهي تسبح، ونسبتها إلى مساحة الخلية نفسها؛ لن نستغرب وصف هذا
السائل بالبحر.
لدينا دليل آخر على أنّ
البحر المسجور يُقصد به على الأرجح (سيتوبلازم الخلية)؛ وهو فهم عمل الخلية، و
مدلول لفظ مسجور نفسه من خلال اللغة.
الخلية الحية تحوي بداخلها
مكونات عديدة؛ منها النواة نفسها وعضيات وجسيمات عديدة، جميعها يسبح في
سائل يسمى: السائل الخلوي، ويحيط بهذا السائل - كما ذكرنا - غشاء يسمى الجدار
الخلوي، وهذا الوصف وهذه الحالة تنطبق تمامًا مع وصف البحر؛ ولكن على المستوى
الخلوي.
أصل كلمة [مسجور] هو (س ج
ر)، وكما جاء في قاموس اللغة: الإيقاد.
نلاحظ كذلك أنّ كلمة سجر
تختلف عن كلمة أوقد؛ فصوت حرف السين فيه من السلاسة والخفوت ما يدل على أنّ عملية
السجر هي عملية إيقاد خفيف.
بمقارنة تلك المعارف مع المعلومات العلمية نجد
أنّ هذا المعنى ينطبق تمامًا مع وظيفة مولدات الطاقة (الميتوكندريا) في الخلية
ووصفها، والتى من أهم صفاتها وخصائصها أنها تسبح في الخلية، وعلى هذا النحو يصفها
العلماء؛ أنها تسبح في سيتوبلازم الخلايا، وهي مصدر الطاقة؛ بحيث تزود الخلية بكل
ما تحتاجه من الطاقة.
يقول العلم إنّ عدد (الميتوكوندريا)
يصل إلى المئات في بعض الخلايا، باستثناء الخلايا البسيطة التي يمكن
أن يوجد فيها عدد قليل.
تسبح الميتوكوندريا في السائل الخلوي، وتنتج
طاقة حرارية عن طريق تفاعلات كهروكيميائية داخلها؛ مما يجعلها مصدر الطاقة في
الخلية.
إننا بالضبط نتحدث عن
بحر مسجور من خلال عدد كبير من مولدات الطاقة المسماة بـ(الميتوكندريا).
تعتبر بداية سورة الطور
من البدايات غير المفهومة للمفسرين، والتي جاءت معظم التفاسير متفاوتة حولها؛ وذلك
بسبب المعارف العلمية المتواضعة وقتها، ولكن عندما أضفنا البعد الخاص بالمعلومات
العلمية، وتفسير كلمة الطور، استطعنا إيجاد علاقة بين الآيات بعضها ببعض، المرتبطة
بالتطور و بالمكونات تحت الخلوية.
ها نحن ننتهي من تأويل
الآيات الكريمة، ونصل إلى ما مفاده: إنّ التطور عملية قائمة ومستمرة، وذُكرت
بالتفصيل بعدد غير قليل من الأدلة والبراهين والإشارات القرآنية التي لا تخطئها العين.
هل نظرية التطور ضد
الأديان بصفة عامة؟
لابد للباحث أن يفرق بين
نظرية التطور بوصفها علماً، ونظرية التطور بوصفها فلسفةً اعتمدت على الاستنتاجات
العلمية.
نحن في كتابنا -الجزء
الثالث- نناقش التطور من منظور كتاب الله، والذي يتفق في أحيان كثيرة مع ما جاءت
به نظرية التطور لداروين، ويختلف معها في بعض النقاط اعتماداً على تحليل اللفظ
القرآني.
أما فلسفة نظرية التطور
فهذا ليس شأننا؛ وهو تفاعل البشر مع النتائج العلمية لنظرية التطور، ويعكس مدى
قدرتهم على فهم هذه النتائج.
وعندما تؤسس نظرية التطور أهم مبادئها: وهو
الصراع من أجل البقاء، ثم يترتب على هذا المبدأ استعمار وقهر شعوب؛ فهذا ليس عيباً
في نظرية التطور العلمية، ولكنّ العيب في
الإنسان الذي يرغب في تطويع كل فكرة لتخدم أغراضه.
إنّ فكرة الصراع من أجل
البقاء بين الكائنات قد لا تكون بنفس العنفوان الذي دوَّنته نظرية التطور، ولكنّ
هذا لا ينفي أبداً أنّ غريزة البقاء لدى المخلوقات هي المحرك الرئيس للتكيف
وملائمة الكائن للبيئة.
قد يكون تعبير غريزة البقاء أفضل من تعبير
الصراع من أجل البقاء؛ للتعبير عن فكرة التطور، خصوصاً مع تميُّز الإنسان بالإدراك
والوعي؛ فإذا تحدثنا عن الصراع من أجل البقاء قبل وجود الإنسان، فإننا نعتقد أنّ
هذا المبدأ ربما يكون المسيطر في الحقب السحيقة.
لقد أعطى القرآن إشارات
على احتمالية وجود مثل هذا النوع من الصراع؛ عندما تحدث عن سفك الدماء الذي حدث من
قِبل المخلوقات التي سبقت وجود الإنسان على الأرض، كما ذكرت الملائكة هذه الحقيقة
عندما قالت في سورة البقرة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.
)وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ( (سورة البقرة : آية 30)
من المستساغ أن يكون
الصراع من أجل البقاء هو ديدن المخلوقات السابقة؛ ولكن بوجود الإنسان أصبحت غريزة
البقاء هي المسيطرة على المخلوقات، غير أنّ الإنسان اعتنق مبدأ الصراع من أجل البقاء؛ بسبب حرية الإرادة التي
يمتلكها، وبسبب جهله بالهدف والغرض من وجوده على هذه الأرض؛ هذا الجهل تبلور في
الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، وفي كثير من الأحيان بين الإنسان والطبيعة.
يبدو لنا أنّ مسألة
الصراع من أجل البقاء مسألة في غاية الأهمية، ويبدو أيضاً أنها كانت سببًا مباشرًا
في الانقراض الكبير الذي حدث في التاريخ السحيق، والذي سوف نتناوله من خلال سورة
الفيل في نهاية هذا الباب.
عندما تطور الإنسان
وأصبح أكثر وعيًا وأكثر إدراكًا؛ تبدلت المواقع وأصبح منوطاً به الانسجام مع الكون
وتحقيق التوازن مع باقي المخلوقات، وتجنب فكرة الصراع من أجل البقاء التي اعتنقها
أسلافه. لقد وضع الله نظام توازن في هذا
الكون، وطلب من الإنسان الانسجام معه، بل محاولة
إعادة الاتزان له في حالة حدوث خلل في هذا الاتزان.
بسبب النقص المعرفي أصبح
الإنسان –للأسف- مصدر إزعاج في هذا الكون، بل أصبح الممثل الرسمي لفكرة الصراع من
أجل البقاء، وإلا كيف نفسر استغلاله لفكرة علمية في تطبيق فلسفة الاستعمار والتعدي
و إبادة الأجناس الضعيفة.
بعض المفكرين المسلمين
يعتقدون أنّ نظرية التطور هي السلم الذي تسلقه الملحدون لإنكار وجود الله؛ عندما
أنكرت النظرية حقيقة الخلق؛ وبالتالي وجود الله.
الحقيقة أنّ النظرية في
كثير من جوانبها لا تصطدم مع القرآن؛ لأن القرآن حالة خاصة جدًا؛ فهو كلام الخالق،
وهو مرآة الكون، واللفظ القرآني والكلمة الكونية يعملان بشكل منسجم، ومن خلال فهم
أحدهما يمكن فهم الآخر، ولا ينشأ الاختلاف والتعارض إلا بسبب نقص المعرفة وسوء
الفهم.
إذا كانت نظرية التطور
في أغلبها لا تتعارض مع القرآن الكريم؛ لكن بالتأكيد تصطدم وتتعارض مع تأكيدات
رجال الدين وفهمهم للقرآن الكريم؛ والقرآن لا يقول بالخلق المنفصل ويقول بالتطور
فكيف يتعارض ذلك مع وجود الله.
وبسبب إصرار رجال الدين
على أفكارهم مقابل أدلة علمية والادعاء أنّ فهمهم هو مراد الخالق؛ كان لابد للجانب
الآخر وهو جانب الإلحاد أن يقول بعبثية فكرة الخالق، وإذا أصر رجل الدين على أنّ
الخالق ذَكر الخلق المنفصل وينفي التطور، بينما الأدلة تقول بالتطور؛ فالنتيجة لا
يوجد خالق لأنه لا يعرف ما حدث.
بسبب بعض العقول
المتحجرة حدثت فجوة بين نظرية التطور وبين كلام رب العالمين؛ مما أدى إلى وجود
الأفكار المادية الصرفة؛ والتي تقول إنّ العالم ما هو إلا مادة بلا غرض أو غاية.
إنّ الغرض والغاية من
حياة الإنسان لا يمكن إثباتها بالعقل؛ على الأقل في الوقت الحالي. والأسئلة
الثلاثة المحيرة وهي: (من أين جئنا؟ ولماذا نحن هنا؟ وما هو مصيرنا؟) تسيطر على
عقول الفلاسفة منذ فجر التاريخ.
وعندما نجد نصاً إلهياً
يخبرنا من أين جئنا بشكل منطقي ومتوافق مع الأدلة والبراهين الثابتة؛ فمن السهولة
قبول إجابة الأسئلة الأخرى عن طريق الإيمان الغيبي.
على الجانب الآخر عندما يعتقد الناس أنّ النص
الديني يعارض الأدلة التي تثبت من أين جئنا، فلا يمكن إقناعهم بالطرح الذي يتبناه
النص الديني لفكرة لماذا نحن هنا وإلى أين سنذهب.
بقدر ما منحتنا نظرية
الطور القرآنية فكرة عقلية يمكن إثباتها عن مفهوم التطور وكذلك عن نشأة الإنسان كما سوف نرى في الفصل القادم ؛
فهي كذلك منحتنا فكرة عن الهدف والغرض من الوجود؛ وخصوصاً وجود الإنسان، والذي سوف
نتناوله من خلال التطور المعرفي في الباب الثاني.
لو لم يكن لنا في هذا
الفصل سوى تصحيح مفهوم الطور، والإشارة إلى أنّ هذا المدلول هو مفهوم التطور
المعاصر؛ لكفانا ذلك.
نود أنْ نشير إلى أنّ
سورة الطور تحتاج إلى فريق بحثي من علماء اللغة، وعلماء البيولوجيا بكافة فروعه، وعلماء
الرياضيات، والإحصاء الحيوي، وإني على يقين تام أنّ الكلمات والتعبيرات القرآنية
في هذه السورة، وكذلك سورة القلم؛ سوف تفيض بالمعرفة وتفتح للباحثين طاقات نور لا
حدود لها.
إنّ القرآن الكريم مليءٌ
بالنظريات المعرفية، والتي لا سبيل لاكتشافها إلا من خلال مؤسسات متكاملة؛ تعي
جيداً دورها في فهم وتحليل اللفظ القرآني؛ من خلال قراءةٍ منهجية لكلمات الله، شريطة
أنْ تكون قراءةً متحررةً من سيطرة التراث حتى تؤتي ثمارها.
لك أن تتخيل كم فقدنا من
معلومات، وكم تيبست العقول؛ بسبب إغفال مدلول كلمة الطور، والاعتقاد أنها اسم جبل
في مكان ما.
لك أن تتخيل لو أنّ
عقولاً استطاعت إدراك أنّ هذه اللغة إلهية، وأنّ فهم ألفاظ القرآن ممكن من خلال
القرآن ذاته، مع الاسترشاد ببعض المعطيات البسيطة؛ كم من الفوائد كانت ستعود على
البشرية من جراء قراءة على هذا النحو ! وكم من المعارف كانت ستفتح على أيدي هؤلاء
الباحثين!.
أقول وبكل بساطة لأولئك
الذين يرتعبون من فهم كهذا: لا داعي للخوف،
فكلمات الله التي أنزلها في كتابه نظمت في شكل يمكن فهمه بشكل علمي سليم، وإن حدث
تقصير على مستوى المنهج أو مستوى الفهم فسوف يأتي من يصحح؛ حتى يستقيم لنا أمر
منهج علمي سليم، نستطيع من خلاله تحليل اللفظ القرآني؛ وعندها لن يقوى أحد على
القول إنّ هذا الكلام ليس كلام رب العالمين.
كم من السنوات مضت وبين أيدينا دليل عقلي على
وجود الخالق؛ ولكن للأسف اختفى تمامًا؛ بسبب الاعتقاد أنّ منشأ اللغة هم مجموعة
القبائل التي كانت تعيش في الجزيرة العربية، بينما اللغة والقدرة على التسمية قديمة
قدم الإنسان، وهي منحة إلهية جرى عليها تحريفٌ وتزوير، وجاء القرآن يعيدها إلى
أصلها الحقيقي، وينطق بلغة حقيقية تصف المسمى بشكل سليم وحقيقي.
إنْ كنا قد وصلنا لنهاية
الفصل الخاص بتفسير كلمة الطور، وما حمله من نتائج على عملية التطور؛ فإنّ الفصل
القادم يحمل قنابل معرفية - لو جاز لنا التعبير - من العيار الثقيل؛ إنّه خلق
الإنسان وما أدراك ما خلق الإنسان.
ملخص الفصل:
1. الطور
المذكور في كتاب الله هو عملية التطور بفهمنا المعاصر، وليس له أي علاقة بالجبال.
2. رفع الطور
على بني إسرائيل يعني زيادة معدل تأثير التطور عن معدله الطبيعي.
3. توجد بقعة
مباركة تدعم التحولات الجينية بشكل إيجابي، وينطبق عليها وصف الطور؛ بسبب صفة
الطور الملازمة لها.
4. سورة التين
تحمل دلائل وإشارات على عملية التطور، وعلاقة التين بتقويم الإنسان .
5. سورة الطور
هي السورة المعنية بوصف عملية التطور على المستوى الخلوي؛ وخصوصاً الآيات الأولى
منها.
6. التطور لا
يعارض كتاب الله أبداً، بل جاء مفصلاً في القرآن الكريم، والتعارض يقع فقط عند بعض
تفسيرات السابقين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق