الفصل الثامن
"قرَّب قربانًا"
هذا
التوجه الذي توجهه نبي الله إبراهيم هو أسمى
وأنقى صور الإسلام والحنفية, إنه خليط من المعرفة والضمير والفطرة, أنتج
تعرُّفاً على الخالق, والخروج من كل مظاهر الشرك, ونلاحظ في هذه الآيات استخدام
لفظ الشرك وليس الكفر؛ فالشرك -غالباَ- ناتجٌ عن جهل وخلل معرفي, وارتباك في ترتيب
الأولويات, على خلاف الكفر؛ وهو جحد الحقيقة ونكرانها, وعدم الرغبة في الوصول
للحقيقة أو اعتناقها.
إنَّ تتبع القصص القرآني، وربط احدثه بعضها ببعض،
وقياس المواقف، ينبئ بفتوح معرفية وعلمية
لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وواحدة من تلك القصص التي يمر الناس عليها مرور الكرام، ولا يلقون لها بالاً، هي قصة
قربان ابني آدم.
عند وضع قصة القربان في خط متوازي مع حادثة
الذبح في عهد نبي الله إبراهيم، ثم الأمر
الإلهي في القرآن بالهدي المتعلق بالحج؛ حصلنا على دليل غاية في الأهمية عن التطور
المعرفي للبشرية، وكيف سار؛ فهنا مجموعة آيات تقدم دليلاً دامغاً و برهاناً ساطعاً
على تطور الإنسان المعرفي، ومن ثم الأخلاقي، ولكن للأسف سيطرة المعارف السطحية جعل
من هذه القصص العظيمة والإشارات الثمينة مجرد روايات تاريخية للتسلية، أو على أقصى تقدير لاستخلاص بعض العبر
السطحيَّة منها.
قراءة
مثل هذه القصص من خلال وجهة نظر التطور المعرفي يفسح المجال للمستقبل، ويضع
المعارف والعلوم القديمة في إطارها الصحيح، دون مغالاة أو ازدراء.
لذا
دعونا نبدأ مع نبي الله إبراهيم، ثم نعود لمشهد القربان الذي قدمه ابنا آدم لربهما.
إنَّ إبراهيم كان أُمَّة.
كان
تمرُّد نبيِّ الله إبراهيم على موروث آبائه وأجداده من عبادة الحجارة الصمَّاء، واستنتاجه المنطقي أنَّ هذه الأشياء لا تنفع
ولاتضرُّ، ولا تملك من أمر نفسها شيئاً، ولا يمكن أنْ تكون رباً أو إلهاً فكرةً
تبدو في العصر الحالي بسيطةً وواضحةً؛ إذ لا يمكن أن يَعتقد بربوبية الحجارة
وقدرتها على الفعل إلا متأخِّر عقليٌّ، أو صاحب مرضٍ نفسيٍّ، إلَّا أنَّ هذا الأمر
كان على عهد نبي الله إبراهيم ثورةً معرفيَّةً وتمرُّداً على السائد بشكلٍ لم يسبق
له مثيل؛ إنه مرحلةٌ إنتقاليَّةٌ في عمر البشرية، وانتقالٌ هامٌّ لأقصى درجةٍ من
حالة التجسيد إلى التجريد.
نجد
ملامح هذا التطور المعرفي واضحةً عند المقارنة بين حالة قوم نبي الله إبراهيم وبين
قوم رسول الله؛ فبينما قوم نبي الله
إبراهيم عندما واجههم بالحقيقة، وبعجز تلك
الحجارة التي يتخذونها أربابًا، نكسوا على رؤوسهم، ولكن مع ذلك حاولوا
الانتصار لموروثهم ولموروث أسلافهم، دون
محاولة تبرير فعلهم الناقص من اتخاذ الحجارة آلهة، بينما قوم رسول الله (أهل مكة)
نجدهم دائماً يحاولون الالتفاف، مرَّةً بإنكار أنَّ محمداً رسول أو أنَّ الله أرسله، وعندما ضاق الخناق عليهم مرةً أخرى ولم يستطيعوا
إنكار أنَّ هذه الحجارة لا تضر ولا تنفع؛ قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله:
)أَلَا
لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚوَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ
اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ( (سورةالزمر: الآية 3) .
نرى
في الآية تطوراً معرفيَّاً واضحاً؛ جعلهم يجدون مبرِّراً لاتخاذهم آلهة من دون
الله، فهم لا يكذبون، ولكن يجحدون و يتحايلون، بخلاف قوم نبي الله إبراهيم غير القادرين على
الاستنتاج، ومسايرة العمليات المنطقية، فلجؤوا إلى التطرُّف والعنف بالدعوة إلى
إحراق نبي الله إبراهيم.
أمَّا
قوم الرسول الكريم فظلُّوا فترةً كبيرةً يجادلون بمنطقهم؛ محاولين خلخلة هذا الفكر
الجديد، ولكنْ بعد وقت ليس بالقصير، وعندما استنفدوا محاولات الحوار والإقناع
أصبحوا يلجؤون إلى العنف، ويحاولون إيقاف هذا المدِّ الفكريِّ الجديد، الذي سوف
ينسف منظومة الأفكار لديهم، وما يترتب عليه من زعزعة في كل الأنظمة التي تقوم
عليها حياتهم، كالنظام الاقتصادي والاجتماعي والعقائدي.
حتى
نستطيع فهم مشهد القربان والذبح والهدي
كما جاء في كتاب الله، وكيف يشير إلى
التطور المعرفي، لا بدَّ أنْ نستعرض بعض المشاهد من حياة نبي الله إبراهيم، والتي
تعطينا ملامحَ عن هذه الشخصية العظيمة، وكيف كانت مفصلاً أساسيَّاً في
انتقال البشرية من مرحلة بدائية إلى مرحلة متقدمة ومتطورة بشكل كبير.
لقد
كانت حياة نبي الله إبراهيم مثالاً يُحتذى، وإشارة لأولى الألباب إلى مسار التطور
المعرفي والتغير في حياة البشرية؛ لذا استحق لقب أُمَّة من حيث التفرد
والاستقلال. الحادثة الشهيرة التي قصها
القرآن عن ذبح نبي الله إبراهيم ابنه، هي حلقة من حلقات حياة
هذا النبي الكريم، ولها علاقة وثيقة بشخصيته الفريدة، ولكي نحاول الوقوف بشكل سليم
على هذا المشهد لا بدَّ لنا من أنْ نستعرض بعض المواقف والمشاهد القرآنية، التي
سوف تساعدنا في فهم هذه الشخصية العظيمة.
✦المشهد
الأول: الباحث عن الحقيقة
محاولة
نبي الله إبراهيم الوصول إلى الحقيقة يلخِّصها المشهد القرآنيُّ، الذي يحكي
محاولاته الدؤوبة، من خلال البحث والتقصِّي والقياس والمقارنة لترتيب أفكاره.
)وَإِذْ قَالَ
إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي
أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَٰلِكَ نُرِي إبراهيم
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ
هَٰذَا رَبِّيۖ فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا
قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖفَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي
رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ
بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُۖ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖوَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)(
(سورةالأنعام: الآيات 74-79).
فهذه
رحلة كانت محطتها الأولى التوصل لعدم معقوليَّة أنْ تكون الأصنام التي لا تملك حولاً ولا قوةً هي الخالق المدبر، في
الوقت الذي يعجُّ المجتمع الذي يعيش فيه نبي الله إبراهيم بفكرة عبادة الأصنام، ومستقرٌّ
عليها تمامًا؛ لكنْ نجد أنَّ نبي الله
إبراهيم رفض هذه الفكرة السائدة، وانقلب
عليها بكل قوَّةٍ وسفَّه هذا الرَّأي، وسفَّه إجماع القوم على فكرة كهذه، لا تقوم
على دليل أو برهان.
الإفلات من السائد لا يمكن أنْ يقوم به إلا عقول
وصلت لمرحلةٍ متقدمةٍ جدًا من التطور المعرفي، مكَّنتها من القياس والمقارنة، ثم
استنتاج نتيجة معقولة، فهذا الرفض العقلي هو ما أسَّس للقادم، فدون معرفة المشكلة
وتشخيصها تشخيصًا صحيحًا لا يمكن الوصول إلى العلاج أبدًا، وبعد خطوة الشك جاءت الخطوة الثانية، متمثِّلة في رغبة
حقيقيَّة بمعرفة الحق:
)وَكَذَٰلِكَ
نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ( (سورة
الأنعام: الآية 75).
إنها
مرحلة التدبُّر، أو قل إنْ شئتَ مرحلة قراءة الكون من حوله، وغالباً عندما يرفض
الإنسان فكرةً ما، تحدث له مراجعة ذاتية: هل ما فعلته صواب؟ أم أنَّ ما فعلته كان
تسرعاً وتهوراً غير محسوب؟
وهذا
المعترك النفسي يحتاج من الإنسان التوقُّف، وإعادة النظر في المعطيات حوله، وهذا
ما فعله نبي الله إبراهيم، أخذ يجول بعقله ويلقي نظره إلى هذا الكون الفسيح، متأملاً
هذا التدبير الحكيم، حتى أدركه اليقين،
وأنه على الحق، ولا يمكن أنْ تكون تلك الحجارة هي الخالق، والتيقن هنا ليس تيقناً
من الخالق؛ لأنَّ هذه المرحلة لم تأتِ بعد، وإنما التيقُّن كان بخصوص ما فعله
وقاله عن تلك الأصنام، من أنها لا تضر ولا تنفع، وأنَّ القوم لا يسلكون مسلكًا
صحيحًا، لقد تيقَّن تمامًا أنه على الحق المبين، وأنَّ فرضيَّته واعتقاده في تلك
الحجارة كان في محلِّه، ومن ثم بدأ مرحلة جديدة، مرحلة البحث عن الخالق المدبر
لهذا الكون:
)فَلَمَّا
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ
هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(
(سورةالأنعام: الآية 76)
ها
هو يحاول الوصول إلى الخالق عن طريق المعارف المتاحة لديه، وعن طريق الضمير الذي
يدفعه دفعاً لفهم سرِّ وجوده، ومن أوجده.
لمَّا
رأى الكوكب توجَّه نحوه ودار بعقله حوله، ثم ما لبث أنْ غيَّر وجهة نظره؛ فالكوكب
تغيَّرت حالته، ومن المفترض أنَّ الخالق لا يجرى عليه التغيير، ثمَّ حول سفينة
منطقه نحو القمر، ثم نحو الشمس، من خلال مقارنات وقياسات في عقله، يدل عليها
الحوار الذي قصَّه القرآن، عندما قارن نبي الله إبراهيم بين القمر والشمس من حيث
الحجم:
)فَلَمَّا
رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖفَلَمَّا
أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا
أَكْبَرُۖ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78)(
(سورة الأنعام: الآيات 77-78).
في
هذه الآيات الكريمة ملمحٌ هامٌّ من ملامح شخصية نبي الله إبراهيم، وهي محاولة
الوصول للحقيقة عن طريق المعارف المتاحة لديه، وعن طريق استخدام قدراته العقلية في
الوصول إلى هذه الحقيقة، وهذا الملمح سوف نراه يتكرَّر في مشاهد عديدة، وهذا ما
يمكن أن يُعرف على أنه الإحسان؛ فقد بذل قصارى الجهد في الوصول للحقيقة، ومع كل
هذا الجهد نجد أنَّ نبي الله إبراهيم وقف عاجزاً وأعيته الحيل في الوصول إلى
الخالق، ومع إصراره الشديد على الوصول للحقيقة اكتملت الحلقة، حيث أتمَّ نبي الله
إبراهيم ما عليه، وهو ينتظر نتيجة هذا المجهود وهذا الاجتهاد الآن.
لقد
تخلَّص من مظاهر الشرك كلها بجملة واحدة، وهي التوجه للذي خلق السموات والأرض، ولم
يكن يعرف نبي الله إبراهيم اسم الخالق، ولكنه يعرف جيداً أنَّ هذا الكون لا بدَّ
له من خالق، فتوجَّه إليه يطلب المساعدة والعون.
هذا المشهد استحق به نبي
الله إبراهيم باقتدار أن يكون أمة؛ بسبب
تفرُّده في هذا العصر، من خلال اعتماده على العقل في الوصول إلى الحقيقة، واستنتاج
وجود خالق ليس كمثله شيء، فقط من خلال التدبر وقراءة الكون من حوله:
)إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖوَمَا أَنَا
مِنَ الْمُشْرِكِينَ(
(سورةالأنعام: الآيات 79).
✦هذا التوجه
الذي توجهه نبي الله إبراهيم هو أسمى
وأنقى صور الإسلام والحنفية، إنه خليط من المعرفة والضمير والفطرة، أنتج
تعرُّفاً على الخالق، والخروج من كل مظاهر الشرك، ونلاحظ في هذه الآيات استخدام
لفظ الشرك وليس الكفر؛ فالشرك -غالباَ- ناتجٌ عن جهل وخلل معرفي، وارتباك في ترتيب
الأولويات، على خلاف الكفر؛ وهو جحد الحقيقة ونكرانها، وعدم الرغبة في الوصول
للحقيقة أو اعتناقها.
المشهد الثاني: بلى لِيطمئنَّ قلبي:
إنه ملمحٌ آخر من ملامح الشخصية العظيمة لهذا النبي
الكريم، وكيف هو في حالة تسبيح مستمر للوصول إلى أعلى درجات اليقين، لقد وصل إلى
مرحلة علم اليقين والإيمان بالله الخالق، وهو الآن لديه الرغبة في الوصول إلى مرحلة عين اليقين، يريد أن
يرى، يريد أنْ يدرك عقله الحقائق، ومن ثم
يطمئن قلبه؛ لذلك طلب من ربه أنْ يريه كيف يحي الموتى؟:
)وَإِذْ قَالَ
إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِيۖ قَالَ
فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ
كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚوَاعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(
(سورة البقرة: الآية260).
الطبيعة
البشرية في حالة حركة مستمرة، وتحاول زيادة الإيمان العقلي، واكتشاف الإيمان
الغيبي وإزالته؛ في محاولة منها للوصول إلى حالة الاستقرار.
هذه
الحقيقة هي بالضبط ما وصفها المشهد القرآنيُّ عن نبي الله إبراهيم، وكيف أنَّه
يسعى لليقين الأعلى والدرجة الأسمى من الإيمان؛ وهي درجة عين اليقين، وهذا التسبيح،
وهذه الحركة الدائمة لا تعني الشكَّ أبداً بمفهومه السلبيّ، وإنما تعني البحث
المستمرَّ لزيادة الجرعة الإيمانية، واستقرارها في النفوس، فالشكُّ سفينة اليقين.
المشهد
الرابع: كذلك نجزي المحسنين:
إنه
مشهد الذبح وتصديق الرؤيا التي رأها نبي الله إبراهيم، فهل أمَرَ الله سبحانه
وتعالى نبيه بذبح ابنه؟
الإجابة
على سؤال كهذا ليست بالبساطة التي يعتقدها الكثيرون، فلكي نفهم ما دار لا بدَّ أنْ
نأخذ بعين الاعتبار حالة المجتمع وقتها ومشاهد حياة نبي الله إبراهيم، وتفرُّد هذه
الشخصية وطبيعتها، التي تحاول دائماً الوصول للحقيقة و الوصول إلى الخالق، ومن ثم
التقرب إليه بشتى الطرق.
المشاهد التي سقناها تؤكد أنَّ نبي الله إبراهيم جعل
من عقله مركبًا للوصول للحقيقة، وهو دائم البحث عنها، حتى وجد ضالته، وما إنْ علم
نبي الله إبراهيم علم اليقين بوجود الخالق إلا وانتقل لمرحلة أخرى، وهي طلب عين
اليقين، وهو ما لخَّصه طلبه من ربه؛ أنْ يريه كيف يحي الموتى.
المشهد الثالث
الخاص بالذبح لا يمكن أنْ يكون خارج هذا السياق؛ إنها محاولة نبي الله إبراهيم التقرب لله عن طريق
تقديم قربان له.
فكيف
اجتهد؟ وكيف حاول التقرب إلى الله؟ وكيف تأثَّر بعادات مجتمعه؟ وكيف هداه الله؟
هذه قضيتنا في السطور القادمة.
تلك
طبيعة المعرفة التي كلما تكشف منها جزء انتقل الباحث لجزء آخر يريد أن يكتشفه
ويفهم أبعاده، وفي محاولات نبي الله إبراهيم الأولى للتعرف على الخالق نجده قد
استخدم عقله، و ظل يبحث في المجسمات، مثل الكواكب والقمر والشمس، حتى وصل إلى أنَّ
الله لا يمكن تجسيده، وهذا التجسيد كان سائداً في عصره؛ لذا ظل يبحث عن الخالق في
دائرة التجسيد كما يفعل مجتمعه، حتى هداه الله وخرج منها برجاحة عقل وسلامة قلب.
في
المرحلة الثانية يبدو أنَّ مسألة إحياء الموتى كان يدور حولها جدل كبير في ذلك
الوقت في مجتمعه أيضًا، بدليل ما دار بينه وبين من آتاه الله الملك، والذي ادَّعى
قدرته على إحياء الموتى، ثم انصراف نبي الله إبراهيم عن هذه الجدلية في ذلك الوقت
إلى الاحتجاج بأن الله يأتي بالشمس من المشرق، فهل يستطيع المدعي أن يأتي بالشمس
من المغرب؟
)أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ
قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ
إبراهيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(
(سورةالبقرة: الآية 258).
لم
يطلب نبي الله إبراهيم من ربه أن يريه كيف يأتي بالشمس من المشرق، ولكن طلب منه
أنْ يريه كيف يحي الموتى، إنه أمر بين يديه وهناك ادعاء في عصره على هذه القدرة، فأراد
أن يرى قدرة ربه، وقد كان.
مشاهد
نبي الله إبراهيم مثالٌ واضح على تفاعلٍ محتدم في نفس نبي الله إبراهيم، طرفاه عقله
ويقينه من ناحية، والسائد في مجتمعه، وأفكار بيئته من ناحية أخرى.
مشهد
ذبح الابن لم يمكن فهمه بمعزل عن هذه الشخصية وتلك المشاهد العظيمة، وخصوصاً أنَّ
الله سبحانه وتعالى لم يقل صراحةً في كتاب الله إنه أمَرَ إبراهيم بالذبح، وكل ما
جاء في هذا المشهد هو قول نبي الله إبراهيم إنه رأى في المنام أن يذبح إبنه!!
إلى
جانب المشاهد القرآنية العظيمة التي ألقت الضوء على شخصية نبي الله إبراهيم، يلزمنا
إلقاء الضوء على تاريخ القرابين وتطورها، وكذلك لمحة عن علم النفس، وماذا يقول عن الرؤى والمنام؛ حتى نتمكن من فهم
كيف رأى نبي الله إبراهيم مشهد الذبح؟ ولماذا وصفه الله أنه من المحسنين؟
القرابين وتطورها:
لا
شكَّ أنَّ مسألة تقديم القرابين اليوم بصفة عامة لم تعد فكرةً مقبولةً، فما ظنُّك
بفكرة تقديم قرابين بشرية، والتى تعتبر جريمة شنعاء في حق الإنسانية، ولكن لو
قدِّر لك العيش في زمن الماضي البعيد ربما كانت فكرة تقديم قرابين بشرية مستساغة، ولم
تكن منفرة بالشكل الذي نراه نحن اليوم، وهذا النفور من تلك العادة -والتي لا شك
أنها من صنع الإنسان- لم يكن ليوجد لولا التطور المعرفي والتطور الأخلاقي الذي
يغلِّف حياة الإنسان ويشملها، ويلقي بظلاله على كل جوانبها.
هناك
ثلاث محطات رئيسة لفهم هذا التطور الأخلاقي والمعرفي على مدار الإنسانية، وكيف رعى
الله سبحانه وتعالى البشرية في طورها البدائي، وكيف وجَّهها حتى وصلت لمرحلة النضج،
التي تُمكِّنُها من تولِّي المسؤولية بالكامل، وأول هذه المحطات هي قربان ابني آدم، وثانيها
محاولة ذبح نبي الله إبراهيم ابنه، وثالثها التشريع القرآني الخاتم.
بدأت
فكرة تقديم القرابين بصفة عامة مع تولى الإنسان المسؤولية بشكل جزئيٍّ على الأرض، ولمّا
لم يكن التطور المعرفي على درجة كبيرة من الوعي، كان لزامًا لكي يستطيع الإنسان
فهم المعاني التجريدية أنْ يتمَّ تجسيد هذه المعاني؛ حتى تكون سهلة الفهم والإدراك،
وظهر هذا التجسيد في قصة آدم وقصة الأكل من الشجرة، وما تبعه من تصوير المعصية في
شكل مادي، وامتداد هذا التجسيد ظهر لدى ابني آدم عندما قرَّبا قرباناً، فتُقُبِّلَ
من أحدهما علامة الطاعة، ولم يُتَقَبَّل من الآخر علامة على معصيته ورفض أدائه:
)وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ
مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( ( سورةالمائدة: الآية 27).
لم
يكن بالطبع القربان في حالة ابني آدم
قربانًا بشريَّاً بل كان شيئاً ماديَّاً، سواء أكان نوعاً من الزروع أم
حيواناً استطاع كلٌّ منهما تقديمه لربه لنيل رضاه، وكان علامة قبول أو رفض هذه
الطاعة هو نزول نار من السماء تأكل هذا القربان؛
كما
نص على ذلك القرآن:
)الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْقَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( (سورة آل عمران: الآية 183)
يبدو
من الآية الكريمة أنَّ مسألة تقديم قربان ونزول نار تأكل هذا القربان كانت من
الطقوس المعتمدة في بداية البشرية، وقول الناس فيما بعد إنَّ الله عهد إليهم عهدًا،
ألا يؤمنوا لنبي حتى يأتيهم بقربان تأكله النار؛ يشرح ويفصل لماذا كان طقس القربان
من الطقوس المعتمدة والمتعارف عليه في بداية البشرية، وأنَّ قبولها من خلال النار
التي تنزل من السماء علامة الطاعة، وفي الوقت نفسه نستطيع الإدراك من الآية نفسها
أنَّ طقس القرابين قد انتهى في ذلك الوقت بنصِّ الآية، فقد استغرب الناس أنَّ
الرسول المرسل لم يأتِ بالطقس المعتاد.
لا
يمكن فهم لماذا انتهى طقس القرابين إلا من
خلال التطور المعرفي لدى البشر، فأصبحت القدرات العقلية لديهم قادرة -نوعاً ما-
على فهم المعاني التجريدية، مثل الطاعة والمعصية، ولا حاجة ماسّة إلى تجسيد هذه
المعاني في صورة مادية، وأصبح لديهم قدرة عقلية على التمييز هل هذا الشخص أهلٌ
للرسالة أم أنه أفَّاق وكاذب.
ليس
لدينا الكثير عن الحقبة التي تلت انتهاء طقوس القرابين، والنار التي تنزل من
السماء لتأكل القربان، سوى ظهور حادثة ذبح إبراهيم عليه السلام لابنه، وبالرغم من
أنَّ الأمور تبدو واضحةً ولكن لا ضيرَ لو استعنّا بالأدلة العلمية من
الحفريات والنقوش لفهم ماذا حدث بعد ذلك.
من
الأدلة المعتبرة على مسألة تقديم القرابين البشرية موقع أثريٌّ يسمَّى (توفة) في
تونس في مدينة قرطاج، حيث تم اكتشاف عام 1921 أثناء عمليات تنقيب وحفر مجموعة من
الأواني الفخارية، التي تحتوي على رماد و عظام أطفال صغار، وكذلك بقايا حيوانات؛
مما يدلُّ على أنَّ أهل هذه المدينة مارسوا عادة تقديم القرابين البشرية، من خلال
تقديم القرابين إلى النار، ويبدو أنَّ انتهاء طقس القرابين لم يرقْ للإنسان القديم،
أو أنه ظنَّ أنَّ الإله غاضب، فحاول الإنسان تقليد هذا الطقس وصنع طقس مماثل يرضيه
ويشعره أنه مازال في معية الله، بالطبع لم يدرك الإنسان أنَّ انتهاء طقس القرابين
هو من حتميات التطور المعرفي، وأنَّ الإنسان قد ترقَّى درجة، وأصبح مطلوباً منه
الاعتماد بشكل أكبر على عقله وعلى المنطق.
لقد
تطور الأمر إلى الأسوأ بسبب تطرف الإنسان؛ فقد كان الأمر مجرد تقديم قرابين غير
بشرية مع نزول نار من السماء تأكل القربان، ثم تحول الأمر إلى تقديم قرابين بشرية
وصناعة نار بشرية لتأكل هذا القربان، في شكل يحاكي الطقس الأساسي.
إنها محاولة لإرضاء الإله،
بسبب الظن أنَّ الله غضب عليهم عندما انقطع نزول النار، وانتهت طقوس القرابين، وهذه
الحاجة جعلتهم يخترعون معابد، وينشؤون ناراً، ويقدمون لها قرابينهم، ويبدو أنها
كانت قرابين غير بشرية في البداية، ولكن وكعادة البشر عندما تتملكهم العاطفة دون
العقل، بدأت أشكال أُخرى من القرابين في الظهور؛ إمعاناً في التقرب إلى الله، وإعلان
الطاعة والخضوع، وظهرت تبعاً لذلك القرابين البشرية التي ما أنزل الله بها من
سلطان، وما كتبها الله عليهم، ولكنهم ابتدعوها واتبعوا أهوائهم.
أثناء
عمليات التنقيب والحفر في موقع توفة التونسي عثر الباحثون على شواهد قبور، كُتب
على أحدها المبالغ المالية التي دفعها أحدهم لشراء أطفال؛ لتقديمها قرابين للآلهة،
وكذلك يظهر على شواهد أحد القبور كيف أنَّ أحد الآباء يفتخر بتقديم ابنه قرباناً
للإله.
قصة
تقديم القرابين، وخصوصاً القرابين البشرية حاضرة في كثير من الحضارات والحضارة
الفرعونية دليل شاهد على ذلك، من خلال ما يسمَّى عروس النيل، فقد كان يتم إلقاء
فتاة في النيل؛ إرضاءً للآلهة حتى يفيض النيل بالعطاء، وإن كان الباحثون في مختلف
العالم متحيرين كيف بدأت قصة القرابين البشرية، وكيف نشأت؟ وما هي دوافعها
وأسبابها؟ إلا أنَّ القرآن الكريم يقصُّ علينا بالحق بدايتها، ثم كيف حرّف الناس
هذا المعنى، ووضعوا بصماتهم عليها؛ فصار بهذا العنف والقسوة.
في
هذا الجو المفعم بالموروث البشري، لم يكن نبي الله إبراهيم منفصلاً عن واقعه، وإن
كان يحاول دائماً البحث والتنقيب عن الحقيقة.
وكما
ذكرنا، إنَّ نبي الله إبراهيم يمثل المعرفة المستقلة، والقدرة البشرية الفريدة على
الوصول إلى الخالق، من خلال عمليات عقلية غاية في الرقي، وهذا الإصرار على الوصول
إلى الخالق ثم الوصول لمرحلة عين اليقين، ومن ثم محاولة إرضاء الخالق، لا يمكن أنْ
يقوم بها إلا من يوصف بالإحسان، وهو بذل قصارى الجهد في الوصول إلى الحقيقة والعمل
بها، فبذل الجهد واستمرار السعي بإخلاص بغض النظر عن النتائج هو الإحسان بكل ما
تحمل الكلمة من معاني نبيلة.
يذكر
القرآن قصة الذبح هذه، من خلال الآية
الكريمة في سورة الصافات:
)فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚقَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ(
(سورة الصافات: الآية 102).
لم
يقل نبي الله إبراهيم إنَّ الله أمره بذلك، كل ما في الأمر هو أنه رأى في المنام
أنه يذبح ابنه.
✦الرؤى في
كتاب الله جاءت في موضعين:
الموضع
الأول: مشهد خاص بنبي الله يوسف، وهو عبارة عن
استجلاء للمستقبل عن طريق رموز معينة، وفهم هذا النوع من الرؤى الدال على المستقبل،
وعلاقته بقوى النفس، يحتاج لجهد كبير، ولا أعتقد أنَّ هذا الجزء يتسع له.
الموضع الثاني: هو المتعلق بحاجات الفرد وانعكاس
لتفاعل نفسيٍّ مع الحاضر، وهو ما عبَّر عنه القرآن عندما قص علينا قصة نبي الله
إبراهيم.
-
النوع الثاني عبَّر عنه عالم النفس
النمساوي الشهير سيجموند فرويد وكذلك كارل يونج إذ اعتقد
فرويد أنَّ الناس غالباً ما يحلمون بالأشياء التي يريدونها، ويقول فرويد: إنَّ
الرؤيا أو المنام مليء بالمعاني الخفية، ويعتقد أنَّ كلَّ فكرة وفعل ينشآن في
البداية في أعماق عقولنا.
هذا
التفسير مقبول إلى حد كبير؛ فبالنظر إلى نبي الله إبراهيم وشخصيته الفريدة، وحالة
المجتمع الذي يعيش فيه، والتى تعتبر القرابين حالةً من حالات التقرب إلى
الله، وكذلك نص الآيات القرآنية التي لم تقطع بأن الله أمر نبي الله إبراهيم
بالذبح، سوف نفهم لماذا رأى نبي الله إبراهيم هذا الأمر.
إنه حالة من الطاعة
والتقرب إلى الله، ولكنها بنكهة بشريَّة خالصة والدليل القاطع على أنَّ مسالة
الذبح ليست أمراً من الله، وإنما تفاعل نفسي لدى نبي الله إبراهيم، هو عرضه الأمر
على ابنه؛ إذ قال له يا بني انظر ماذا ترى، )فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ(، فهل
تعتقد أنَّ الله أمرنبيه بأمرٍ واضح وجلي، ثم يذهب نبي الله ليعرض الأمر على ابنه
ويسأله رأيه؟ فلو كان أمراً لقال له: إنَّ الله أمرني أنْ أذبحك، وتوقَّف، ولمَّا
قال له: انظر ماذا ترى، فهو يطلب مشاورته وردة فعله.
رد
الابن يكرِّس حالة المجتمع وقتها، ونظرة المجتمع لمسألة القربان بشكل عام، فكما
ذكرنا أنَّ تقديم القربان ما هو إلا نوع من الطاعة يقدِّمه البشر بحسِّ معارفهم
إرضاءً للإله، فعندما أجاب الابن: افعل ما تؤمر، فهو يمتثل لأمرٍ إلهيٍ من وجهة
نظره، ولا يمكن لأحد أنْ يقول إنَّ الابن علم أنه أمر إلهي من خلال الوحي، فلم يرد
أيُّ شيء عن ذلك في كتاب الله، ولكنَّ سياق الآيات يشير إلى أنَّ الابن يعبّر عن
وجهة نظره الخاصة به، عندما سأله أبوه عن رأيه.
والآيات
التالية هي تكملة للقصة العظيمة:
)فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إبراهيم (104) قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚإِنَّاكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
(107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إبراهيم (109)
كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)( ( سورة الصافات: الآيات 103-110).
فلما
أسلما؛ أي: خضع كلٌّ منهما لما يعتقد، فنبي الله إبراهيم يعتقد أنَّ هذا تقربٌ لله
وطاعة له، فخضع تماماً وعزم على الفعل، وكذلك ابنه اعتقد أنَّ هذا الامتثال إنما
هو طاعة لله، وعندما أصبح كل شيء مهيأً للذبح تدخلت العناية الإلهية، بالنداء
الإلهي: قد صدَّقت الرؤيا، ولم يقل قد استجبت للأمر؛ أي: صدَّقت رغبتك الداخلية
للتقرب إلى الله، مع تصرفك الظاهريّ، وهذا هو عين الصدق، لقد كان هذا الأمر أسمى
درجات الصدق، حيث مطابقة الباطن للظاهر؛ عندما رغب في التضحية بابنه تقرُّباً لله
وهو أمر من أصعب ما يكون على النفس؛ فهو الابن الذي بشَّره الله به بعد طول انتظار
ودعاء.
لقد
كانت هذه الحادثة بلاءً مبيناً بحقّ، ولكنْ يجب أنْ نقف دائماً أمام الألفاظ
القرآنية، فربُّنا لم يذكر أنه سبحانه وتعالى ابتلاه أو اختبره، وإنما تعبير )إنَّ هذا لهو
البلاء المبين(
يخصُّ قرار نبي الله إبراهيم بذبح ابنه طاعة لربه، كما هو سائد ومعمول به في ذلك
العصر، لقد فرض على نفسه التقرب لله بتقديم ابنه لله، وهنا نرى التدخل الإلهي
العظيم؛ لتقويم البشرية، وتصحيح مسارها.
✦هذا المشهد
العظيم هو إعلان من الخالق، ورحمة إلى البشر الذين انحرفوا في مسألة تقديم
القرابين، وإعلان نهائي برفض هذا النوع من القربان، بل إعلان تحول مسمى القربان
إلى مسمى ذبح، وإذا كان القربان يتمّ تقديمه لله فالآن قدِّموا ذبْحاً من غير
الآدميين، ودعكم من مسألة القرابين.
يبدو
أنَّ هذا النوع من الذبائح لم يكن يستفيد منه البشر، بأن يأكلوا منها ويستفيدوا
بلحومها وجلودها، وظل هذا التقليد بتقديم الذبائح، وكعادة البشرية تم الانحراف مرة
أخرى، ثم صار تقديم الذبائح على النصب، وهي مجسمات تمثل الإله من وجهة نظرهم، حيث
كانت الذبائح تذبح وتوضع هكذا على الأحجار دون أي استفادة حقيقية منها.
جاء
الأمر الإلهي مرة أخرى في كتاب يختم هذه الحقبة، ويضع القول الفصل في القرابين
والذبائح، بأنْ أمر الناس أنْ يجعلوها بينهم فلا حاجة لله بدمائها ولا للحومها، وتحوَّل الذبح أو الذبائح التي لا يستفيد منها
أحد إلى ما يسمَّى الهدي، ويستفيد منها الناس، ويتهادوا منها، ويصير نوعاً من
أنواع التكافل والرحمة:
)وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّۚ كَذَٰلِكَ
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ
سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْۗ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ (37)( (
سورةالحج: الآيات 36-37).
هكذا
أُسدل الستار نهائيًا على مسألة القرابين، ورأينا كيف صار التحوُّل العجيب من
القرابين إلى الذبائح، ثم انتهى بالهدي، والذي لا يمكن تفسيره إلا في إطار التطور
المعرفي والأخلاقي للإنسان.
إذا
كانت المهمة الرئيسة للتطور البيولوجي هي إعداد هذا الإنسان بدنياً؛ ليصبح جاهزاً
لتولِّي المسؤولية الملقاة على عاتقه، فكذلك التطور المعرفي، والذي خُتم بالقرآن
الكريم، الذي أُوحي إلى رسول الله محمد صلوات ربي عليه ؛ تجهيزاً لهذا الإنسان
ليصبح ناضجًا معرفيَّاً بما فيه الكفاية ليتولى المسؤولية، ويتحقَّق مفهوم
العبودية القرآني الناضج، والذي سوف نتناوله من خلال الفصول القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق