Translate

الفصل السابع - "فأصبح من النادمين"

الفصل السابع

"فأصبح من النادمين"


لقد كان هذا الاختبار الرباني بدايةً لظهور الضمير الإنساني, فقد عاش آدم نتائج الطاعة, والمتمثلة في عدم  الجوع أو العري؛ وقاسى نتائج المعصية والانحراف  عندما شاهد انهياراً كاملاً في المنظومة من حوله بسبب فعلته التي فعل, وسوف يتم ترجمة هذه التجربة واقعاً فتصبح الطاعة مدعاة للراحة النفسية والاطمئنان, بينما يصبح السلوك المنحرف مدعاة للقلق والاضطراب؛ بسبب الخبرة السيئة التي عايشها آدم, وعايش وقعها على كلِّ ما حوله.

 

سوف نتعرف من خلال هذا الفصل على مصادر المعرفة، كما أشار إليها كتاب الله، وكيف أنّ إعداد آدم عليه السلام إنما كان إعداداً بعناية إلهية تامة؛ حتى ينطلق آدم ومن بعده البشرية في تولي المسؤولية.

عندما أصبح آدم جاهزاً لمهمته، بعدما علَّمه الله الأسماء أو القدرة على التسمية، وهذه القدرة جعلته جاهزاً لكي يُعبِّر عن فكرته باستخدام الأصوات؛ فيما يعرف بنشأة اللغة، عندها جاءت مرحلة الاختبار النهائي أو ما يعرف حالياً بلغتنا المعاصرة: اختبار التشغيل؛ إنها اللمسات الاخيرة لكي ينطلق بعدها هذا الكائن العجيب في تولي مسؤوليَّته ومسؤوليَّة الكون الذي يعيش فيه، إنه يتولَّى مسؤولية الكون؛ لأنه الكائن الوحيد الذي يملك حرية الاختيار، وهذه الحرية لو لم تكن مشمولة بالمسؤولية فسوف تُلقي بهذا الكون جميعه إلى أتون الهلاك لا ريب.

جاء الاختبار النهائي لآدم عليه السلام على هيئة أمرٍ إلهي بالنهي عن الأكل من الشجرة، في صورة واضحة من صور تجسيد الأمر ؛حتى يستطيع آدم استيعابه ويفهم ما يمكن أنْ يسببه التجاوز على الكون ومحيطه.

فالعقل البشري في بدايته -لا شك- كانت تعوزه بدرجة كبيرة المعاني والمفاهيم  التجريدية، مثل: الطاعة والمعصية والثواب والعقاب؛ لذا كانت قصة الشجرة أول السلَّم في فهم المعاني التجريدية، فالطريقة الوحيدة التي يستطيع العقل بها استيعاب تلك  المعاني  هي التجسيد، فتمَّ تجسيد الأمر لآدم من خلال الشجرة، والتي لم يذكر القرآن أي إشارة لنوعها وطبيعتها؛ بسبب عدم أهمية هذه الجزئيَّة، فالمعني المهم هنا هو تجسيد الأمر لآدم، وليس نهياً عن نوعٍ معينٍ من الشجر . وفكرة الاختبار أنْ ها هي الشجرة ماثلة أمامه، ولديه الأمر ألا يأكل من الشجرة، وأنَّ المخالفة لها عواقبها الوخيمة،  فماذا حدث؟

تدخَّل الشيطان ووَسوس لآدم وزوجه من خلال عملية تبدو منطقية، فآدم كان قد وصل لدرجة كبيرة من الرقي العقلي وأركانه الأساسية وهي: القياس، والمقارنة، والاستنتاج، والتحليل إلى حد ما يمكنه من التعامل مع ما حوله، وأصبحت هذه الميزة إحدى ميزاته الأساسية؛ فساق لهما  الشيطان استدلالاً  يبدو منطقياً عندما قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين!، وما كان لهذه الحجة أنْ تصمد لولا أنَّ آدم عاين الملائكة عن قرب ولديه فكرة عن الخلود:

)فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚفَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)( (سورةالأعراف : الآيات 20-22).

استغل إبليس فضول آدم المعرفي وحاول إغواءه، وبالفعل نجح، وسقط آدم في الفخ. وبمجرد أن عصى آدم وزوجه ربهما رأيا أمامهما وبال فعلتهما مجسدة، عندما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، إنها الإشارة البديعة في كتاب الله على ما يمكن أنْ يفعله التهاون والمعصية، فأنت -يا آدم- من الآن صاحب مسؤولية، ويجب أنْ تقوم بها على وجهها تجاه هذا الكون، وإنْ لم تضطلع بمسؤولياتك فالنتائج كارثية، فما إنْ عصى آدم رأى أمام عينيه نتيجة أفعاله مجسَّدة أمامه من خلال انهيار في البيئة المحيطة حوله.

جاء في التفاسير أنَّ )طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة( تعني أنّ آدم وزوجه بدت لهما سوءاتهما؛ أي الأعضاء التناسلية، وتقول بعض التفاسير إنَّ آدم وزوجه لم يكن لديهم أجهزة للإخراج، وأنه بمجرد أنْ ذاقا الشجرة بدأ الطعام في التخمُّر، ومن ثمَّ دعتهم الحاجة لإخراج هذا الطعام، فكانت النتيجة هي ظهور أجهزة الإخراج لمساعدة الزوجين على التخلص من هذا الأذى.

إنَّ هذه الفرضية غير قابلة للتصديق؛ لما عرضناه من أدلة على عملية التطور من ناحية، وبسبب عدم وجود دليل يدعم هذا التصور من ناحية أخرى، أضف إلى ذلك أنَّ تتبع الألفاظ القرآنية التي جاءت في الآيات الكريمة يشير إلى شيء آخر تماماً.

سوف نحاول الوقوف على ألفاظ  مثل: [طفق]، و[خصف] لفهم الحالة التي تشكِّلها هذه الألفاظ:

جذر لفظ [خصف] كما في قاموس اللغة يعني اجتماع الشيء إلى الشيء، وبمقارنة فعل [خسف] بفعل [خصف] لتقارب الصوت، ولأنَّ [خسف] كما فسَّرناه في الجزء الثاني يعني: تغيُّب الشيء نتيجة انهيار داخلي، لذلك يبدو فعل [خصف] يقارب بشكل كبير فعل [خسف] مع اختلاف بالحرف الأوسط، إذ السين تدل على السلاسة، بينما حرف الصاد يشير إلى الصلابة والقوة.

فيبدو أنَّ فعل [خصف] هو عملية تدمير لأوراق الجنة؛ ناتج عن قوَّة جبريَّة، وليس بشكل طبيعي كما يحدث في فصل الخريف، وهذا ما ذهب إليه المفسرون إذ قالوا: إنَّ آدم وزوجه قاما بقطع أوراق الجنة لتغطية أنفسهم، ونحن نتَّفق مع المفسرين أنَّ آدم وزوجه أثَّرا بقوةٍ ما على ورق الجنة، فجعل الورق يخصف عليهما، وكأنه يتقصَّف ويقع عليهما، ولكنَّنا لا نتفق معهم أنَّهما كانا يأخذان الورق ويغطيان به أنفسهم، بسبب ظهور الأعضاء التناسلية أو مسألة الإخراج.

 ✦من الطبيعي أن يكون إدراكنا للقوة المادية أقوى بكثير من إدراكنا  للقوة غير المادية؛ فعندما يقول المفسرون إنَّ آدم وزوجه كانا يأخذان من ورق الجنة بأيديهم، فهو القول المقبول قبل فهم القوى النفسية وتأثيرها، ولكن مع ظهور دور القوى النفسية التي يشير إليها القرآن في مواضع عديدة، والتي أشرنا إليها في الجزء الأول من كتاب تلك الأسباب، فلا يمكن إغفال دور هذه القوى، وخصوصاً في ظلِّ عدم ذكر أيّ إشارة لعملية قطف آدم وزوجه ورق الجنة بأيديهم، ومع استخدام لفظ [خصف] ولفظ [طفق] لابد أنْ نتوقَّف ونفهم ما حدث ومدلوله، خصوصاً في ظلِّ وجود أدلةٍ قوية على اكتمال الخلق البيولوجي لآدم وزوجه، في سلسلة تطوُّريَّة مفصَّلة.

 ✦فعل [طفق] يسميه أهل اللغة من أفعال الشروع، وقد ورد في ثلاثة مواضع في كتاب الله:

)فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ( ( سورة الاعراف : الآية 22)

)فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(  (سورة طه: الآية 121).

) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ( (سورة ص : الآية 33).

من خلال الجذر الثنائي لكلمة [طفق] وهو [طف] نجد أنَّ أصلها الشيء الصغير في بدايته، وكلمة [طفق] نفسها تدل على الشروع في فعل شيء ما، ويبدو أنَّ فعل طفق يصف قوةً مؤثرة ضعيفةً نسبياً، أو يصف قوة الإرادة التي تسبق قوة الفعل المادي.

 ✦يبدو من جمع الأدلة بعضها إلى بعض أنَّ القوَّة المؤثِّرة على ورق الجنة هي قوةٌ لا ماديَّة، ناتجةٌ من نفس آدم وزوجه، تسببت في قصف ورق الجنة، وليست قوة مادية تم استخدام الأيدي فيها بشكل مباشر.

 ✦ملاحظة أخرى: وهي أنه لا يمكن أن يكون آدم وزوجه قد تعريا في الجنة؛ بسبب الوعد الإلهي في القرآن في سورة طه )إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ( (سورة طه: الآية 118).

هذا وعد الله لآدم ألَّا يجوع في الجنة ولا يعرى، فكيف تعرَّى آدم، وأخذ أوراق الشجر ليغطَّي بها نفسه وهو ما زال في الجنة ولم يهبط بعد، فيصبح القول إنَّ المقصود بقوله تعالى )بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا( هو ظهور أعضائهم التناسلية أكثر وجاهة في حالة القول بالخلق الكامل، أما وأنَّ الأمر ليس كذلك فيصبح التفسير غير مقبول، وما ذهبنا إليه من أنَّ تأثير فعل آدم وزوجه على ورق الجنة إنما كان تأثيرَ وقوع الانحراف على الكون، والذي تجسَّد في هذه الواقعة؛ ليتعلم آدم الدرس، ويعي تأثير عدم تحمُّله المسؤولية ماثلاً أمام عينيه، ومن ثم يستقرّ في وجدانه وتستيقنه نفسه.

 ✦دليل آخر يمكن أن نستعين به في فهم هذه الواقعة، وهو مدلول كلمة [سوءة] في كتاب الله، والتي سنجد أنها تعني الشيء الذي لا يُستحب الاطلاع عليه، فكلُّ مشهد يمكن أنْ يذكِّر الإنسان بما لا يحبه هو في حقيقته سوءة.

قول بعض المفسرين بأنَّ المقصود بالسوءة هي الأعضاء التناسلية للإنسان، ربما وَجد معقوليَّته بسبب الآية التي تخبرنا أنَّ الشيطان نزع عن آدم وزوجه لباسهما.

وكنا قد تناولنا مسألة اللباس في الفصول السابقة، وهو ستر الله وحجب عيوب الإنسان عن الآخرين، وقولنا إنَّ الشيطان ليس له أيُّ سلطان ماديٍّ على الإنسان يستطيع من خلاله السيطرة عليه؛ ففعل الشيطان هو فعل غير ماديٍّ يتمثل في الوسوسة، والتي بدورها جعلتْ آدم وزوجه يتخليان عن الواجب المنوط بهما، فأصبحا مكشوفان وعاريان من التقوى التي كان يجب أن يكونا مدثران بها.

سياق الآية الكريمة تذهب إلى أنَّ الشيطان نزع عنهما لباس التقوى والطاعة، وليس لباساً مادياً أبداً كما يَفهم البعض:

)يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖوَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَاتَرَوْنَهُمْۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)( (سورةالأعراف: الآيات 26-27).

بدت سوءاتهما؛ أي بدت نتيجة فعلهما في الظهور، وهو ما لم يحبْ آدم وزوجه الاطلاع عليه، وكل إنسان يفعل فعلاً مخالفاً يتمنى أنْ يمرَّ هذا الفعل دون أنْ يُفتضح أمره،  أما وأنْ تظهر نتيجة هذا الفعل للعلن فهو -لا شكَّ- سوءة من أعظم السوءات.

يبدو واضحًا  أنَّ القوة  الفاعلة التي تسبَّبت في خصف ورق الشجر عليهما ليست قوىً مادية متمثلة في أيديهم، بل هي قوىً نفسيَّة متعلقة بالتجاوز الذي حدث، والمعصية التي ارتكبت، فالمعصية والانحراف عن الطريق المستقيم سبَّب هذا الخلل الواضح، وتساقط ورق الجنة، ومما يقوِّى هذا الاستدلال أنَّ التعبير القرآنيَّ )طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة( يدلُّ على الاستمرار، وليس مجرَّد قَطع ورقة أو ورقتين لحاجة ما، وإنما صورةٌ توحي بخللٍ ناتجٍ عن فعلٍ متعمَّدٍ.

 ✦نظام الجنة  التي سكنها آدم وزوجه هي بمنزلة نموذجٍ مصغَّر من هذا  الكون الأكبر، والذي يتطلَّب من آدم تحمل المسؤولية تجاهه، ويجب أنْ يعرف بشكل قاطع أنَّ أيَّ خللٍ -وإن كان بسيطاً- مرتبطُ بهذا النسيج الكوني، ويؤثر فيه ويتأثر به،  ويمكن أنْ يؤدِّي إلى كوارث.

إنها صورة عظيمة تربط بين السلوك والتصرف الإنساني وبين مكوِّنات الكون، وكيف يمكن لسلوك الإنسان المنحرف أنْ يتسبَّب في  انهيار المنظومة الكونية من حوله.

لقد كان هذا الاختبار الرباني بدايةً لظهور الضمير الإنساني، فقد عاش آدم نتائج الطاعة، والمتمثلة في عدم  الجوع أو العري؛ وقاسى نتائج المعصية والانحراف  عندما شاهد انهياراً كاملاً في المنظومة من حوله بسبب فعلته التي فعل، وسوف يتم ترجمة هذه التجربة واقعاً فتصبح الطاعة مدعاة للراحة النفسية والاطمئنان، بينما يصبح السلوك المنحرف مدعاة للقلق والاضطراب؛ بسبب الخبرة السيئة التي عايشها آدم، وعايش وقعها على كلِّ ما حوله.

وحتى تكتمل المنظومة، ويستطيع الإنسان أداء المهمة على أكمل وجه، كان لا بدَّ من سبيلٍ للعودة، ومحاولة إصلاح الأخطاء إذا نسي أو اغتر أوفعل أيَّ تجاوز؛ لقد حان دور الدرس الأخير، وهو كيف يعود لسيرته الأولى ويكفِّر عن جنايته؟

نلاحظ من خلال الآيات التي قصَّت علينا قصة الشجرة، أنَّ آدم لم يندم، أو بالأحرى لم يعرف الندم؛ لأنه –ببساطة- لم يكن يدرك قبل هذه الحادثة نتيجة أفعاله ومدى تأثيرها، وبعد واقعة الشجرة، وتجسيد تأثير الانحراف أمام آدم، أصبحت بذرة الضمير الإنساني جاهزة للنمو والازدهار، وسوف نشهد بزوغ هذا الضمير وتأثيره في موقف آخر من خلال هذا الفصل.

بنص الآيات الكريمة لم يكن آدم يعرف حتى كيف يعود أو يستغفر؛ لأنه –ببساطة- لم يكن الشعور بالندم قد تشكَّل بعد؛ ولذلك جاء التدخل الإلهي بأنْ تلقَّى آدم من ربه كلماتٍ، يستطيع من خلالها العودة مرة أخرى إلى وظيفته في الحياة.

)تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه(، ألقى  الله إلى آدم هذه الكلمات؛ لأنه لم يكن لديه القدرة على التعبير عنها بنفسه، فجاء التدخُّل الإلهي ليضبطَ آدم على الطريق المستقيم.

من خلال كتاب الله تبدو هذه الحادثة كحلقة من حلقات الإعداد والتجهيز لآدم حتى يتمكن من تولي  المسؤولية،  وليس كما تُصوِّرها الكتب السابقة من أنَّ هذه الخطيئة هي سبب تعاسة البشرية، وأنَّه لولا هذه الخطيئة لظلَّ البشر إلى يومنا هذا في الجنة ينعمون.

)فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚإِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( (سورة البقرة: الآية37).

حادثة الشجرة وتلقي آدم الكلمات من ربه كان تدريباً عمليَّاً، وتحولاً عظيماً في التطور المعرفي للبشرية، يبدو لي أنَّ هذا التفاعل الأوَّل، ورؤية آدم خطيئته متجسدة أمامه هو البذرة الأولى للفطرة الإنسانية، التي نتج عنها الضمير فيما بعد.

 ومن خلال هذا المشهد العظيم نستطيع أنْ ندرك أنَّ الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي عدم الاعتداء، أو المسالمة، والتي هي مصدر الإسلام.

إنَّ ظهور الندم، ومن ثم الضمير بعد هذه الحادثة، أسَّس لأوَّل مصدر من مصادر المعرفة.

✦ ظهور الندم، وبزوغ الضمير الإنساني:

في الوقت الذي لم يعرف آدم ماذا يفعل عندما عصى ربه، ولم يرِد ذكر الندم في هذا المشهد الرباني، سنجد أنَّ الأمر اختلف تماماً عندما ارتكب ابن آدم الجريمة النكراء، التي قام فيها بقتل أخيه.

قصة ابني آدم مليئة بالإشارات والدلالات على التطور المعرفي، الذي لا يمكن أن تخطئه العين.

 بدأت الأحداث عندما قرر ابنا آدم تقديم قربان للخالق، فلما تُقبِّل القربان من أحدهم ولم يتقبل من الآخر، قرر هذا الأخير قتل أخيه على الفور، وهذه سيرة أسلافه الذين سفكوا الدماء، وبَغَوا في الأرض؛ فاستبدلهم الله بقوم آخرين، لديهم قدرات معرفية راقية، وقابلين للتعلم، فهل ينتصر الماضي بسيرته المحمَّلة بسفك الدماء، أم تنتصر المعرفة التي تشكلت، وتنمو بسرعة كبيرة في هذا الجيل الجديد؟

لقد تملَّكته طبيعة أسلافه فقتل أخاه، ولكنْ هناك شيءٌ قد تغير، إنها بذرة الفطرة  التي أثمرت الضمير الذي نراه حضر بقوَّة في هذه الحادثة، فقد شعر القاتل بالندم! لقد فعلت المعرفة والقدرات العقلية عملها، فإنْ لم يكن الندم حاضراً عندما عصى آدم ربه فذلك ليس تكبراً، ولكن يبدو أنَّ الضمير لم يكن قد تكوَّن بعد، لكننا نجد هذا الفتى نادمًا يشعر بجريمته وخطأه، ويحاول بكل السُّبل ايجاد وسيلةٍ لتقليل الخسائر قدر المستطاع؛ فنشوء الضمير وظهوره هو المحرك الأساسي الذي يحرك هذا الفتى لإيجاد طريقة يُحسِنُ بها إلى جثة أخيه فيما بقي، وهذا الإحساس بالمسؤولية، أو تحقُّق مفهوم العبودية بمعناه الراقي قد حضر، حتى وإن كان المشهد حزيناً بامتيازومعصية وذنب كبير.

هذه الحادثة تمثِّل محوراً أساسياً في فهم كيفية تطور المعرفة لدى الإنسان، ومعرفة ما هي الركائز الأساسية التي ارتكز عليها في تطوير قدراته، فإذا كان الوعي والإدراك ومن ثمَّ الضمير الإنساني (البرنامج الإلهي) هي أول هذه الركائز؛ فإن القدرة على محاكاة الطبيعة هي الركيزة الثانية، والتي ظهرت جلياً عندما حاول الفتى دفن أخيه، وشاهد الغراب يبحث في الأرض.

لقد صال وجال الباحثون في قصة الغراب، وكيف أنَّ الغراب يدفن موتاه، والحقيقة أنَّ ما جاء في القرآن لا يمتُّ بصلة لما ذهب إليه أساطين الروايات والأساطير.

لو وقفنا على الآيات القرآنية لتغيَّر الواقع تماماً، ولفهمنا دور الضمير والوعي والإدراك في تطوُّر معارف الإنسان، وما حدث أنَّ ابن آدم رأى غراباً يحفر في الأرض، واستنتج من هذا المشهد أنَّ بإمكانه حفر الأرض ودفن اخيه؛ لقد قرأ ما يفعله الغراب، وكيف يمكن أن يستفيد من هذا المشهد في حالته.

 إنها لحظة ولادة المعرفة، يالها من لحظة فارقة! والمفارقة أنَّ ولادة أول معرفة حقيقيَّة جاءت من رحم الموت.

)فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ( (سورة المائدة: الآية 31).

بعيدا عن القصة التي تقول إنَّ الغراب دفن غراباً آخر، ويستدلُّ البعض على ذلك بأنَّ الغراب يشبه إلى حد كبير الإنسان في نمط الحياة الاجتماعية، بل ذهب بعضهم لنسج قصصٍ وأساطيرَ متعلقة بالغراب، تحكي عن العدل الإلهى الذى يقيمه الغربان، والحكمة التي يتمتع بها الغربان، وكأننا أمام كائنات فضائية لا نملك أي معرفة بها.

إنَّ القرآن الكريم متوافق مع نواميس الكون وقوانينه تماماً، ولم يتم تسجيل حالة واحدة لغراب يدفن موتاه، أو يعقد محاكمات، كما يردد محبو الأساطير والروايات، والقرآن الكريم كان شديد الوضوح في الوصف، وهو على ذلك يكمل جزءاً أساسيَّاً من المشهد العام لتطوُّر الإنسان، ويعطي إشارةً قويةً على أهم مصدر من مصادر المعرفة التي حصل عليها الإنسان.

ولو أنَّ الغراب دفن ميتاً من جنسه،  ثم قلَّده الإنسان؛ ما كان لنا أن نستخلص هذه المعلومة القيِّمة، أو نتحصَّل على المصدر الثاني للمعرفة في حياة البشر.

حسب الآية الكريمة، أرسل الله غرابًا يبحث في الأرض، بمعنى ينبش الأرض أو يحاول حفر الأرض فقط، دون أيِّ ذكرٍ أنَّ هذا النبش أو البحث كان بسبب رغبة هذا الغراب في دفن أحد الموتى، ولكن ماذا كانت رد فعل ابن آدم عندما رأى هذا المشهد؟

ïابن آدم لم يقلد الغراب، وإنما استنتج من فعل الغراب أنَّ بإمكانه حفر الأرض مثل هذا الغراب، ثم يواري جثة أخيه، لقد استخدم معرفةً ثم طوَّرها في الحال اعتماداً على قدراته العقلية، وهذا هو أول الدلائل على عمل العقل بطريقة سليمة.

التقليد وهو نسخ ما فعل الغراب بالضبط، أما ما فعله ابن آدم فهو محاولة عقلية راقية، حاكى فيها فعل الغراب، واستخدم هذا الفعل في دفن أخيه.

✦ من خلال تتبع قصة الشجرة، بالإضافة إلى قصة ابني آدم، نستطيع القول:

0. إنَّ المصدر الأول للمعرفة -كما قرأناه في كتاب الله- هو الضمير الإنساني، أو الحاجة الداخلية النابعة من الفطرة لدى الإنسان، والمصدر الثاني هو  المصدر الخارجي المتمثِّل في محاكاة الطبيعية، ومن خلال تفاعل هذين المصدرين داخل العقل البشري تنتج المعرفة.

1. شعور ابن آدم بالندم بسبب وخزة الضمير، ولَّدت لديه حاجةً داخليةً للتكفير عما اقترف؛ فبحث عن مصدرٍ خارجي، والتقطت عيناه وحواسه مشهد الغراب، فهداه عقله لفكرة الدفن.

2. رغم بساطة القصة إلا إنها تلخص مصادر المعرفة التي اعتمد عليها الإنسان، ومازال يعتمد عليها، والتي مكَّنته من مراكمة المعارف بالشكل الذي نراه حالياً، وما يزال هذا الإنسان يراكم المعرفة حتى  يقتنع أنه عرف بما فيه الكفاية، ولا حاجة له بالمزيد، عندها تأتي النهاية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة