Translate

الفصل السادس - "أحسن القصص"

الفصل السادس

"أحسن القصص"


معرفتي أنّ النار قادرة على طهو الطعام، وأنّ السيارة وسيلة مواصلات، وأنَّ  حاصل ضرب 3 في 6 هو  18، و أنَّ الأرض كروية الشكل، وأنَّ مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة؛ كلها معارف نتيجة تجاربَ وخبراتٍ سابقة. كل الحقائق والمعلومات المتاحة تعتبر جزءاً مما نعرف سوياً، وهي التي تشكِّل المعرفة بصفة عامة، ولكنَّ السؤال هنا: ما الذي جعلني أقول إنَّ لون اللبن أبيض؟ أو إنَّ حاصل ضرب  3 في  6 هو 18، أو بمعنى أدق: ما التفاعل الذي حدث بداخلي جعلني أعرف؟ هذا التساؤل يقودنا مباشرة لنسأل سؤالاً آخر، وهو: ما هي طبيعة المعرفة؟


قد تستطيع نظرية التطور تفسير كيف يتعامل العقل مع حاجاته الأساسية، مثل: الغذاء، والدفاع عن نفسه، ولكنَّها بالتأكيد لن تستطيع تفسير كيف تعامَل عَقلُ  فيثاغورث مع قوانين الهندسة، أو عقل أينشتاين مع القوانين الفيزيائية؛ لأنّ الوحيد القادر على تفسير الرقي العقلي الذي وصلت إليه البشرية، وما تبعه من تطور أخلاقي، هو فهم طبيعة المعرفة، وكيف تطورت، وفهم مصادرها وحدودها . 

سوف نتناول في الفصول القادمة نظرية المعرفة من خلال كتاب الله، مع توضيح بعض الأمثلة التي يزخر بها القرآن، ونتناول أهم محطات التطور المعرفي في تاريخ البشرية. 

إنّ قدرة السمع على تسجيل ما يدور حولنا، وقدرة البصر على التقاط الصورة بوضوح؛ هي أوّل خطوة من خطوات المعرفة، وقد لاحظنا في فصل الإنسان كيف تطورّت قدرات المخلوق الذي انتهى به المطاف إلى الإنسان الحالي، من خلال تطور القدرات السمعية والبصرية، وكذلك قدرات القلب على الإحساس أو الشعور الداخلي، والتى حكى كتاب الله عنها في أكثر من موضع؛ عندما أشار إلى جعل السمع والأبصار والأفئدة، وهي الحواس الرئيسة المطلوبة لتكوين معرفة سليمة. أضف إلى هذه الحواس الثلاث حواساً أخرى، مثل: الشم والتذوق والاحساس الخارجي، والتى تعتبر حواساً مساعدةً في التعرف على الأشياء.  

في حياة الإنسان اليومية يسمع أصواتًا، ويرى صوراً مختلفة، ويكوّن شعوراً نحو أمور عديدة يمر بها، ومن خلال هذه الأنشطة يتكون لدى الإنسان ما يسمى المعرفة الذاتية، كذلك البشرية في تطوّرها بصفة عامة مرّت بتجارب عديدة، وانتقلت هذه التجارب، وتراكمت جيلاً بعد جيل؛ لتكوِّن  المعرفة البشريَّة الكليَّة. 

إنّ معرفتي أنّ النار قادرة على طهو الطعام، وأنّ السيارة وسيلة مواصلات، وأنَّ  حاصل ضرب 3 في 6 هو ,18 و أنَّ الأرض كروية الشكل، وأنَّ مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة؛ كلها معارف نتيجة تجاربَ وخبراتٍ سابقة، فكل الحقائق والمعلومات المتاحة تعتبر جزءاً مما نعرف سوياً، وهي التي تشكِّل المعرفة بصفة عامة، ولكنَّ السؤال هنا: ما الذي جعلني أقول إنَّ لون اللبن أبيض؟ أو إنَّ حاصل ضرب  3 في  6 هو 18، أو بمعنى أدق: ما التفاعل الذي حدث بداخلي جعلني أعرف؟ هذا التساؤل يقودنا مباشرة لنسأل سؤالاً آخر، وهو: ما هي طبيعة المعرفة؟

 طبيعة المعرفة:

بعض الفلاسفة يعتقدون أنّ المعرفة هي صورة للواقع، فإذا رأيتُ مثلاً تلك الأداة في يدي، والتي يستخدمها الناس في الكتابة، أقول إنّ هذا قلم، وإذا رأيتُ ذلك النبات المثمر أستطيع أنْ أقول إنَّ هذه شجرة. 

فهذه المعرفة المستمدة من الحواس تعتمد على قوة الملاحظة بالأساس ، وكلما كانت الحواس قويةً كان التعرُّف على الأشياء دقيقاً، وقوة الملاحظة هذه بدأت مع الإنسان قبل أنْ يستطيع التعبير عن أفكاره، مثلُ الطفل الصغير الذي يشدّ انتباهه كل ما حوله، ويحاول التعرف عليه، مرةً من خلال أصوات هذه الأشياء، ومرةً أخرى من خلال اللون، أو من خلال اللمس، أو التذوق.   

إذا كانت المعرفة هي صورة للواقع، فلابد لهذه المعرفة أن تتبلور في شكل تعبير معين، ومن هنا جاءت اللغة لكي تعبّر عن الأفكار؛ فعندما أسمع لفظ شجرة فسوف يتبادر إلى ذهني الصورة النمطية لذلك النبات الضخم، وعندما أقول شجرة مثمرة سوف تزداد تفاصيل الصورة، وعندما أقول شجرة مثمرة ضخمة فنحن أمام تفاصيل أكثر دقة. 

وهذا التعبير عن المسمى هو التحول شديد الأهمية، والذي ذكرناه من قبل في تطور معارف الإنسان، عندما ذكر القرآن أنَّ علم الأسماء الذي حازه آدم كان بتدخل مباشر من الخالق؛ إذ عندما حمل آدم البرنامج الإلهي الذي جعله قادراً على التسمية انتقلت المعرفة من مجرد صورة للواقع إلى التعبير عن هذا الواقع، وبذلك كانت اللغة هي الركن الأساسي الذي بفضله تراكمت المعرفة وانتقلت بين الناس، ودون لغة لا وجود للتراكم المعرفي، وبالتالي لا وجود للأفكار، وعليه لا يمكن أبداً إنتاج أي حضارة.    

المذاهب الفلسفية حاولت تفسير المعرفة، وهل هي تصوّر ذهني عن الأشياء كما تقول الواقعية الساذجة؟ أم أنَّ الواقع هو مصدر المعلومات، والمعرفة محصّلة تفاعل الصورة الواقعية للأشياء مع أفكارنا نحن عن هذا الواقع؟  وسوف نحاول عرض الفكرة بشكل بسيط دون الغوص في جدل فلسفي، وسأعرض وجهة نظري عن المعرفة من خلال دراسة اللفظ القرآني وتحليله.

✦ تنقسم المعرفة إلى نوعين رئيسين، وهما: معرفة الأشياء المادية، ومعرفة الأشياء غير المادية.

النوع الأول: المعرفة بالأشياء المادية 

معرفة الأشياء المادية هي صورة ذهنية للواقع، بحيث إذا رأيتُ سيارة أستطيع أنْ أقول هذه سيارة، ويستطيع كل من يراها أنْ يقول هذه سيارة.

 هذا المعرفة انتقلت لنا من خلال رسم صورة ذهنية عن السيارة، ومن ثم التعبير عنها بلفظ [سيارة]؛ ومن هنا نستطيع القول إنّ طبيعة المعرفة هي صورةٌ للواقع عندما نحاول التعبير عن الأشياء الملموسة. 

مثال: كروية الأرض، والتي ثبت أنها كروية الشكل سواء بالحسابات أو بالمشاهدات العلمية والأدلة المختلفة؛ فإذا سمعتَ شخصاً يقول لك: إنَّ الأرض مسطحة؛ فهذا دليل عجز معرفي واضح، ولا يعتبر كلامه معرفة، بل يوضع في خانة الهذيان، وإذا قال شخص: إنَّ المسافة بيننا وبين الشمس هي 100 ألف كيلو متر، بينما استطاع الإنسان أنْ يصل إلى أبعد من ذلك بكثير، فهنا لا يُعدُّ قول مثل هذا معرفة؛ لأنه غير مطابق للواقع. 

✦ المعرفة عن الأشياء المادية هي صورة ذهنية مطابقة للواقع، وأيُّ شذوذ معرفي عن هذه الصورة لا يُعدُّ معرفةً؛ بل هو عجزٌ معرفيٌّ لدى صاحبه غير القادر على التفريق بين معرفة الأشياء المادية وغير المادية. 

هذه المعرفة المادية البسيطة نرى مظاهرها في بداية حقبة البشرية؛ حين حاول الإنسان التعرف على ما حوله؛ من خلال فكرة التجسيد، وفي هذه المرحلة من مراحل البشرية كان الإنسان غير قادر تماماً على فهم المعاني المجردة، مثل: الطاعة والمعصية والعبادة، وحتى مفهوم الخالق، ناهيك عن تعبيرات حديثة، مثل: الحرية وحق التعبير والمساواة.  

 النوع الثاني: المعرفة بالأشياء غير المادية:

في هذا النوع من المعرفة يحاول الإنسان تكوين صورته الذهنية عن الأفكار الواقعية، وهذه الصورة الذهنية قد تكون مقاربة للواقع، وقد تكون بعيدة عنه، وهذا النوع من المعرفة هو نوع راقٍ جداً؛ إذ إنه تفاعل داخلي بين علاقات عديدة داخل الإنسان؛ فقدرة الإنسان على تصوّر فكرة لا مادية مثل: الحرية أو الوطنية أو التدين أو المساواة، ليست بالشيء الهيّن أبداً؛ فحتى يستطيع الإنسان بناء معرفة عن فكرة غير ملموسة فهو يستعين بخبرات سابقة، ومعارف متعددة، وحاجات نفسية، تتداخل جميعها لتعطي بالنهاية معرفة هذا الشخص عن هذه الفكرة.

 إنَّ سبب اختلاف العالَم هو هذه المعرفة غير المادية، والتي سيظل الناس مختلفين حولها، وإن كانت المؤشرات تدلُّ على أنَّ حجم الاختلاف سوف يقلّ مع تطور الإنسان وتقدم معرفته. 

إنَّ قدرة الإنسان على فهم الأفكار غير المادية هي ما نسميه: القدرة على فهم المعاني المجردة، وأشهر مثال هو فكرة الإله؛ فهل الناس متفقون جميعاً على فكرة الإله؟  طبعاً التصور الذهني للإله يختلف، لا اقول باختلاف الأمم، بل باختلاف فرد عن فرد، ولن أكون مبالغاً إذا قلت إنَّ تصوُّر كل إنسان عن الإله يختلف عن تصور أي إنسان آخر من نفس العقيدة ونفس المذهب؛ فالمعرفة المجردة هي تفاعل داخلي، وتجربة خاصة جداً بالشخص ذاته، ولا يمكن تطابقها بنسبة مائة بالمائة مع شخص آخر، وهذا الاختلاف عبَّر عنه الكتاب الكريم في سورة هود:

﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖوَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّامَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗوَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾ (سورةهود : آيات 118- 119).

فالاختلاف قادم بالأساس من معرفة الأشياء المجردة؛ إذ لا يكون خلاف في معرفة الأشياء المادية إلا بين عاقل وغير عاقل، بينما الاختلاف بين الناس على أساس المعاني المجردة هو اختلاف قائم وله ما يسوِّغه. 

سوف نلاحظ أنَّ كتاب الله قصَّ علينا قصصاً ومشاهدَ قرآنية، تحكي لنا هذه الأنواع المختلفة من المعرفة؛ فقد بدأت البشرية عن طريق المعرفة المادية، ثم أخذت في التطور شيئاً فشيئاً، حتى وصلت لأول سلَّم المعرفة المجردة على يد نبي الله إبراهيم. 

وإذا كان التطور البيولوجي هو الذي أنتج هذا الإنسان الراقي بكل وظائفه الفسيولوجية، ووَضعه على قِمة هرم الكائنات الحية تطوراً؛ فإنَّ وظيفة التطور المعرفي هي نقل الإنسان من مجرد كائن من ضمن الكائنات الحية إلى مسؤول ومكلف بحماية نفسه أولاً، ثم مكونات الكون المحيطة به.

 إنَّ التطور المعرفي هو ما سوف يتيح للإنسان الانسجام مع مكونات الكون، وتجنب الشذوذ الذي قد يؤدي إلى كوارث على كل المستويات، والتطور المعرفي هو ما سوف يتيح للإنسان صيانة التطور البيولوجي وحمايته، وهو ما سوف ينتج عنه التطور الأخلاقي؛ فكلما استطاع الإنسان فهم المعاني المجردة وبالتالي فهم حقيقة وجوده نزع إلى التعايش والانسجام، والذي سوف يؤدي بدوره إلى منظومة أخلاقية متطورة.

قد يرى اللادينيُّ أنَّ مسألة التطور البيولوجي أو المعرفي دليلٌ دامغ على أنَّ الكون أزلي الوجود، وأنَّ كل شيء يسير حسب التطور؛ مما ينفي وجود إله بالأساس، لكننا نرى أنَّ التطور هو من ضمن التقديرات والقوانين التي أخبر عنها ربنا في كتابه، والتى تُخبر عن نفسها مع كل مشهد قرآني، كما نرى أنَّ يد الله واضحة شديد الوضوح في تحفيز هذا الكائن العجيب للتطور، وعندما تعجز حيلة هذا المخلوق نجد التدّخلات الإلهية تعلن عن نفسها من خلال هذا الكتاب العظيم.

إنَّ اللادينيِّين يقفون حائرين أمام كثير من التحولات التي حدثت في تاريخ هذا الكون، سواء على المستوى المادي، مثل تحول المخلوق الأقل رقياً إلى إنسان، أو على المستوى غير المادي، مثل نشاة اللغة، أو نشاة الكتابة، أو الانتقال من المعرفة المادية عن طريق التجسيد إلى المعرفة غير المادية عن طريق التجريد، فهذه التحولات العظيمة لدينا أدلة عليها من خلال كتاب الله، حتى إنَّ إرسال الأنبياء يبدو لنا أنّه كان مرتبطاً بتلك التحولات العظيمة. 

ورغم اعتقاد الفلاسفة أنَّه لا دليل عقلياً على وجود إله، وأنَّ الدين لا يمكن منطقته، نرى كتاب الله يفيض بالنظريات والأخبار التي تخبر عن الخالق، ويصف التطورات التي طرأت على البشرية بشكل مذهل؛ فهذا هو الدليل العقلي الذي ينطق بالحق على وجود الخالق، ولا يحتاج إلَّا منهجاً علمياً لفهم ألفاظه، وكذلك عدم الخضوع للفكر التقليدي، القائل بأنَّ لسان العرب هو الأصل؛ بل يجب أنْ نفهم أنَّ ألفاظ هذا القرآن إنما هي الأصل، والتى يجب أنْ يقاس كلُّ شيء عليها. 

لا شك أنَّ القرآن الكريم ممتلئٌ بالمعرفة، والتي مصدرها الخالق سبحانه وتعالى، ولكي تكون المعرفة ذات قيمة لابد أنْ يتمَّ التعبير عنها بشكل حقيقى يصفها بكل دقة.  لذلك نقول، ولدينا يقين يصل إلى السماء: إنَّ اللغة التي تعبر عن هذه المعرفة لابد أنْ تكون لغةً خاصةً، وألفاظها ألفاظٌ تعبِّر عن حالات حقيقية، ولا يمكن أنْ تكون هذه اللغة من صنع البشر؛ لأنَّ اللغة البشرية مهما أوتيت من قوة وبيان سوف تعجز عن التعبير عن حقيقة الأشياء، وخصوصاً الأشياء التي ليست في متناول الإنسان، والتي لا يعرف عنها شيئاً. 

 لذلك لابد من فهم المسميات القرآنية بشكل مختلف، وعدم اعتبار لسان العرب مقياساً لهذا الكتاب؛ فمجرد اعتبار أنَّ ألفاظ القرآن ألفاظٌ حقيقة، وأنَّ اللسان العربي الذي جاء به القرآن لا يعني لسان العرب سوف يُحدث نقلة نوعية في فهم كتاب الله، بل سوف يُحدث انقلاباً تاماً في طريقة التعاطي مع كتاب الله. 

لماذا لابد من أنْ نولي اهتماماً زائداً بهذا الكتاب الإلهي؟ ولماذا نُصر على إيجاد منهجٍ علمي سليم لفهم كل لفظ فيه؟

الإجابة: لأنَّ طبيعة المعرفة في هذا الكتاب الإلهي هي معرفةٌ صورةٌ طبقُ الأصل من الحقيقة، بخلاف طبيعة المعرفة البشرية، والتي هي في المجمل  تصوُّرٌ ذهنيٌّ عن الواقع؛  فنحن أمام معرفة حقيقية تم التعبير عنها بشكل حقيقي، ومع ذلك لم تلق اهتماماً بحثيَّاً يليق بها، وتم إسناد فهمها لتصورات الأولين. 

✦ مصدر المعرفة:

ما هي مصادر المعرفة؟

 بينما يقول التجريبيون إنَّ مصدر المعرفة هو الخبرات الحسية الناتجة من الحواس، ويقول الواقعيون إنَّ المعرفة أساسها العقل، أو بمعنى أدقّ إدراك العقل، ونجد أنَّ النقديين يعتقدون أنَّ المعرفة مصدرها الخبرات الحسية والمبادئ العقلية.

أتفقُ تماماً مع النقديين في أنَّ المعرفة تتمُّ عن طريق الحواس أولاً، ثم يقوم العقل بمعالجة المدخلات، ومن ثم تَنتج المعرفة، وتطور الحواس لدى الإنسان أهَّله لالتقاط الصورة بشكل أفضل، ومن ثم نقلها للعقل، والذي بدوره يحاول معالجتها لاستنباط شيء مفيد.

 المعرفة في البداية كانت بسيطةً جداً، تقتصر على الحاجات الأساسيَّة؛ كما سوف نرى في مسألة دفن ابن آدم لأخيه عندما قتله، ثم شيئاً فشيئاً ومن خلال تراكم المعلومات ازدادت قدرات العقل على المعالجة، حتى وصل لمرحلة متطورة جداً. 

لكي يستطيع العقل القيام بوظيفته في إنتاج معرفة اعتماداً على الحواس، لابد أنْ يكون لديه برنامج مُعدٌّ يستطيع من خلاله القياس، وهذا البرنامج يعمل بمنزلة قاعدة بيانات، والذي أميل لتسميته بالفطرة.

 يبدو من تتبع الفطرة لدى الإنسان منذ ولادته، وحتى بلوغه أرزل العمر؛ أنها متغيرة فهي تنمو معه، وتزداد فطرته بزيادة معرفته، فتكون في بدايتها بسيطةً للغاية من حيث اقتصارها على الحاجات الأساسية للإنسان، مثل: الغذاء والحاجة للأمان،  ومع تقدُّم البشرية تزداد الحاجات بزوغاً وتطوراً، وبالتالي نشوء أفكارٍ جديدةٍ باستمرار. 

لفظ [فطرة] الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه هو في حد ذاته يصف حالةً من الانشقاق، حيث جاء في مقاييس اللغة أنَّ جذر كلمة [فطر] تعني فَتحَ الشيء وإبرازه. 

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَاۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورةالروم: آية 30).

يبدو أنَّ الفطرة هي الحاجات المشروعة التي تنبثق داخليَّاً، وهي أحد الأركان الأساسيَّة في تكوين المعرفة، وهي على ذلك تنمو بزيادة المعرفة. 

وسوف نعرف كيف يمكن أنْ تتحول الحاجات المشروعة إلى شر، من خلال  نظرية الشَّرِّ، التي سجلتها لنا سورة الفلق في هذا الجزء. 

✦ إذاً الحاجة الداخلية للإنسان لكي يعرف،  أو ما أميل  لتسميته بالفطرة، هي المصدر الأول للمعرفة لهذا الإنسان.

✦ أما المصدر الثاني من مصادر تكوين المعرفة فهو الأفكار الخارجية، والتي غالباً ما تتم بالمحاكاة، إذ تنتقل هذه الأفكار عن طريق تسجيلها بالحواس إلى العقل.

 عندما تنبثق حاجة داخلية لدى الإنسان، ولتكن الحاجة إلى الغذاء مثالاً يعبر عن الحاجة البسيطة في بداية البشرية، فسوف تتكوَّن لديه فكرة بسيطةٌ عن حاجته للحصول على هذا الغذاء بالصَّيد مثلاً، الذي يحتاج لفكرة خارجيَّة حتي يمكنه إنتاج معرفة معينة.

لنضرب مثالاً بسيطاً على هذه الجزئيَّة: إنَّ حاجة الإنسان الداخلية للطعام سوف تدفعه للبحث عن وسيلة للحصول عن هذا الطعام، وهكذا عندما يرى هذا الإنسان كيف للحيوان المفترس المسلَّح بأنياب ومخالب القبض على فريسته، سوف يدفعه عقله لمحاولة محاكاة عملية الصيد هذه، عن طريق صنع أداة تشبه مخالب وأنياب هذا الحيوان المفترس، حتى يستطيع القبض على صيده؛ إذاً صنع أداةٍ للصيد عن طريق محاكاة الطبيعة هي معرفة جاءت نتيجة لحاجة داخلية وفكرة خارجية،  وعن طريق تفاعلهما في العقل أنتج الإنسان معرفة أداة الصيد في هذا المثال.

ومع مرور الوقت سوف تتراكم المعارف، وتضيف للعقل رصيداً جديداً من الأفكار التي سوف يستخدمها في إنتاج معرفة جديدة، وتمثل المعرفة متوالية هندسية؛ فكلما زادت معارف الإنسان استطاع العقل معالجة الأمور بشكل أكثر كفاءة، واستطاع مضاعفة معارفه بشكل مستمر. 

✦ القدرة على فرز الأفكار الخارجية والاستفادة منها هي ما عبر عنها ربنا في كتابه بالتعليم بالقلم، وكنا قد شرحنا في الجزء الثاني من الكتاب ما هو القلم، والذي يعني ترتيب وتهذيب الأشياء لاستخراج شيء مفيد، وطريقة القلم في التعليم تشمل القياس والمقارنة؛ إذ لا يمكن أنْ يستخرج الإنسان معلومةً مفيدةً أو نتيجةً صحيحةً إلا إذا امتلك قدرةً ما على القياس والمقارنة، والتى تبدو أنَّها وظيفة رئيسة للعقل، تتطور بتراكم المعارف. 

السؤال الآن: هل معرفة الإنسان معرفةٌ محدودة أم أنَّها معرفة غير محدودة؟

العقليون و التجريبيون يرون أنَّ المعرفة ممكنة، وليس لها حدود تقف عندها، بينما يرى النقديُّون أنَّ المعرفة ممكنةٌ بشرط أنَّ حدودها تقف عند الخبرة الحسية للإنسان؛ فلا يستطيع الإنسان أنْ يعرف ما لا يستطيع إدراكه بالحواس، أمَّا بعض الفلاسفة معتنقي مبدأ الشك، فيعتقدون أنَّه من المستحيل أنْ يعرف الإنسان حقيقة العالم الذي يعيش فيه معرفةً يقينيَّةً.  

لو حاولنا فهم إمكانية المعرفة من خلال كتاب الله سنجد أنَّها ممكنة، ومستمرة بشرط التسلط؛ كما جاء في سورة الرحمن:

﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُواۚ لَاتَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ (سورةالرحمن: آية 33).

 فعل [سلط] له أصل واحد وهو القوة والقهر، وذلك يعني أنَّ المعرفة مشروطة بالقدرة، والقدرة مرتبطة بالحواس إذ لا وجود للقدرة خارج إدراك الحواس؛ مما يجعل وجهة نظر النقديين جديرة بالاعتبار، وتتوافق مع المفهوم القرآني عن إمكانية المعرفة وحدودها.  

في الفصل الأول من الجزء الأول من كتاب تلك الأسباب حاول الإجابة على سؤال: هل يستطيع الإنسان التحكم في البراكين والزلازل؟ من خلال فهم الآية القرآنية التي تشير إلى ظنِّ الناس القدرة على الأرض، واستطعنا تحليل كلمة القدرة، وقلنا إنَّ التحكم ليس مستبعداً، ولكنَّ الكارثة هي قطعُ الاتصال بين العبد وخالقه، وظنُّه أنه فعل ذلك منفرداً .

﴿إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (سورة يونس: الآية 24).  

إنَّ قدرة الإنسان على شيءٍ ما تعني أنَّه على وعيٍ تامٍ بهذا الشيء، وأداة هذا الوعي هي الحواس، والسمع والبصر والفؤاد هي الحواس الرئيسة التي أهَّلت الإنسان للإدراك والوعي، وسوف تمنحه معرفةً مستمرَّة ولا شك.

من هذه الحواس الفؤاد الذي أفردنا له صفحات في (الجزء الأول - الفصل السادس)، ويبدو أنَّ الفؤاد هو  المسؤول عن العلاقات غير المادية، وهو حلقة وصل مهمَّة جداً بين المخلوق وخالقه من ناحية، وبين المخلوق والكون من ناحية أخرى.

 إنَّ تعطُّل الحواس أو حاسةٍ منها كفيل باضطراب المعرفة، وأعظم الحواس المؤثِّرة في المعرفة -من وجهة نظري- هي حاسة الفؤاد؛ فإذا تعطَّل الفؤاد، أو بمعنى أدقّ؛ انقطع التواصل بشكلٍ ما بين المخلوق والخالق، وبينه وبين الكون، على مستوى العلاقات غير المرئية؛ فإنَّ ذلك إيذانٌ بانهيار معرفة الإنسان، أو على أقلِّ تقدير توقّفها عند ذلك الحد، ويصبح بقاء الإنسان دون فائدة ترجى.

يبدو أنَّ وجودنا في هذا الكون مرتبطٌ بالمعرفة وتطورها باستمرار،  وعندما  يتوقف  الإنسان عن المعرفة فهو إعلان النهاية لوجوده، وأنه لم يعد صالحاً لعمارة هذا الكون.

✦ إنه القانون والسنن الإلهية، والتي يمكن أنْ نلاحظها في الأمم؛ كيف تقوم وكيف تتلاشى، وليس هناك عامل فناء أشدُّ خطراً وفتكاً بالأمة من توقف المعرفة؛ فعندما تصل الأمم لمرحلة من الترف، وتهمل المعرفة؛ بسبب خلل في الإدراك والوعي، وتعطِّل حواسها، تكون بذلك قد خطَّت نهايتها وهلاكها.

بالمفهوم الرياضي؛ لو أجرينا عملية تكامل على الأمة للحصول على معلومات عن البشرية -فالأمة هي جزء من البشرية- فسوف ندرك أنَّ البشرية كذلك مهدَّدةٌ بالاندثار والهلاك  إذا توقفتْ فيها المعرفة؛ نتيجةً لتعطُّل إحدى الحواس، التي غالباً هي حاسة الفؤاد، والتي يمكن أنْ تنطمس بالغرور والكبر.  

مفهوم التكامل وعلاقته بالمعرفة:

يستطيع الإنسان تكوين معرفة معقولة كلما كانت الأشياء قريبة منه وتحت سيطرته، ولكنَّ الأجزاء البعيدة من الكون يبدو دائما أنَّ معرفته بها ناقصة، ومن فهم الطريقة التي يتكوَّن منها الكون، والعلاقات بين مكوناته، وباستخدام مفهوم التكامل الرياضي، يمكننا زيادة جرعة المعرفة عن هذا الكون بشكل مميز. 

مفهوم التكامل هو مفهوم رياضي، ويتمُّ استخدام هذا المفهوم في حساب مساحة أو حجم جزء صغير من عنصر ما، ثم يتمّ تعميم النتائج على العنصر كله، وتكون النتائج في غاية الدقة. 

هذا المفهوم العبقريُّ يمكن استخدامه في فهم الأجزاء البعيدة عنا، والتي لا نستطيع الوصول إليها بسهولة، أو يصعب إدراكها بالوسائل المتاحة، فكل ما نحتاجه هو فهم الطبقات أو الدَّورات التي يتكون منها الكون، إذ يبدو أنَّ الكون مركبٌ تركيباً طبقياً، وكلُّ دورتين متقابلتين يحملان نفس الخصائص تقريباً، وعن طريق إجراء التكامل على الدَّورة التي تدركها حواسنا نستطيع الحصول على معلومات بقدرٍ ما عن الدَّورة التي غابت أو تغيب عنَّا. 

قد يكون هذا التركيب وهذا التطابق بين كل حلقتين أو دورتين أحد أشكال قانون الزوجية في الكون، والذي نصَّ عليه الذِّكر الحكيم عندما قال: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ( سورة الذاريات: الآية 49). 

فهذه هي الطريق الأيسر للفهم السليم لهذا الكون المترامي الأطراف، سواء على مستوى المكان؛ حيث التمدد المستمر في أقطاره، أو على مستوى الزمان؛ حيث الماضي السحيق والمستقبل البعيد. 

حتى نستطيع فهم ما تعنيه الدورات أو الطبقات التي يتكون منها الكون، ننظر إلى بنيَّة الذرة وتركيبها، سنجد أنَّها تتشابه إلى حدٍ كبير مع الحلقة أوالدورة التي تصف بنية الأفلاك والنظام الشمسي بشكل ما، وتطور الجنين على المستوى البيولوجي  منذ اللحظة الأولى وحتى خروجه طفلاً هي حلقة من حلقات هذا الكون، والتي تبدو متطابقة ومتشابهة مع حلقة التطور منذ اللحظة الأولى للحياة على الأرض، وحتى لحظة شيخوختها.

التطور المعرفي للبشرية منذ أنْ تعلَّم آدم التعبير عن أفكاره باللغة، وحتى مراحل نضجها المعرفي، هو أيضاً إحدى هذه الحلقات، والتى تتطابق وتتشابه بشكلٍ لا مثيل له مع التطور المعرفي للطفل الصغير، منذ لحظة ولادته وحتى مرحلة نضجه المعرفي، وصولاً إلى مرحلة أرذل العمر. 

مرحلة العناية الإلهية والتدخلات الغزيرة المباشرة في بداية التاريخ الإنساني هي حلقةٌ تتطابق أو تتشابه مع الحلقة الصغرى، والتي يمثِّلها الأبوان في رعاية طفلهما الصغير منذ لحظاته الأولى وحتى بلوغه سن الرشد، ليصبح بعدها قادراً على تحمل المسؤولية .  

إنَّ تحديد الحلقات التي يتكون منها الكون، ومن ثمّ فهم العلاقة بين هذه الحلقات؛ سوف يمنحنا فرصةً ثمينةً لفهم ما لا يمكن فهمه بسهولة، وبذلك تخطو البشرية خطواتٍ واسعةً في التطور المعرفي. 

فهم التطور المعرفي بشكل صحيح سوف يمنحنا إجابةً على كثير من التساؤلات التي تبدو عصية على الفهم، وخصوصاً في المجال الديني والروحي، فهناك أسئلة كثيرة يتمّ طرحها وتبدو محيرة، وهي ليست كذلك؛ وذلك إذا استطعنا فهمها من خلال التطور المعرفي للبشرية، وأنَّ هذا التطور من تقديرات الخالق، ومن أمثلة هذه الأسئلة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطور المعرفي: 

✦ لماذا  تعددت الرسل وجاءت على فترات ولم يرسل الله رسولاً واحداً منذ البداية؟

لأنَّ العقول البشرية منذ لحظتها الأولى وهي في تطور مستمر، عن طريق تراكم المعارف، وكل رسول يأتي على فترة من الفترات يحمل نظريةً معرفية تدفع بالبشرية خطوة، بل في بعض الأحيان تصنع تحولاتٍ عظيمةً في تاريخ البشرية؛ فلو أنَّ الرسول أصبح رسولاً واحداً لفقد التطور المعرفي قيمته، ولحدث له تيبُّسٌ، وانتهى وجود الإنسان بسبب عجزه المعرفي. 

الرسل والأنبياء هم محطات هامة في التطور المعرفي للبشرية، ولديهم رسالة محددة يؤدونها إلى الناس في أوقات معينة من عمر هذه البشرية، وهم شهداء على المجتمعات في عصورهم، فإذا توفاهم الله لم يبق للناس إلا الرسالة التي جاءوا بها.  والمقصود بالرسالة هي تلك التعليمات المحددة التي تضمَّنها الكتاب السماوي الذي نزل من عند الله، ولا يمكن ضمُّ هذا الكتاب مع أقوال بشرية؛ بسبب طبيعة الكتاب الإلهي الذي يحمل الحقيقة المطلقة، والتي تختلف تمام الاختلاف عن الكتب البشرية القائمة على المعارف البشريَّة النسبيَّة.

اللفظ الإلهي يحمل الحقيقة المطلقة، وعلى الناس التفاعل معه بقدر ما أتاهم الله من فضله، بينما اللفظ البشري هو لفظٌ يحمل معارف صاحبه وتصوره الذهني عن الحقيقة، لذلك فالاعتقاد بأنَّ هناك أيّ نص مساوٍ للنصّ الإلهي هو اعتقاد أقرب للشرك منه للإيمان، وقولُ من لا يُقدّر الله حقَّ قدره. 

لقد اختلط الأمر على الناس؛ بسبب عدم إدراكهم لمفهوم التطور البشريِّ بشِقَّيه البيولوجي والمعرفي، وجعلوا وظيفة الأنبياء التشريع مع الله بحجة أنَّ كلامهم هو كلام رب العالمين، رغم الإشارات المتعددة  في كتاب الله إلى أنَّ كلام رب العالمين  هو الذي تعهَّد بحفظه وبلَّغه رُسله وأنبيائه، وأنَّ الأنبياء فيما دون ذلك يتفاعلون مع النصِّ الإلهي ويتفاعلون مع مجتمعاتهم.

المثال الصريح الذي لا يقبل التأويل في كتاب الله، على أنْ ليس للرسول أو النبيِّ أن ينفرد بفرض حلال أو حرام على المجتمع، دون نصٍّ صريحٍ من الله في كتاب منزل، نجده في المشهد القرآني الذي قصَّه كتاب الله عن تحريم بني إسرائيل الطعام في سورة آل عمران.:

﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗقُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (سورة آل عمران: الآية 93). 

تكاد الآية تعلن عن نفسها؛ إذ إنَّ بني إسرائيل اعتقدوا بحرمة بعض أنواع الطعام بدون نص صريح في كتاب الله (التوراة)، فذكَّرهم ربهم أنَّ كلَّ الطعام كان حِلَّاً لهم إلَّا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، ويجب أنْ نضعَ ألفَ خطٍ تحت: حرَّم إسرائيل على نفسه، إذ إنَّ التحريم على الناس شأنٌ خاصٌّ بالله، وما فعله نبيُّ الله إسرائيل هو شأن خاصٌّ بنفسه، ولم يحرَّم على المجتمع؛ فعندما اختلط الأمر على بني إسرائيل وظنوا أنَّ الطعام الذي حرَّمه نبي الله إسرائيل على نفسه هو تحريم يقع عليهم، جاء كلام الله ليقرِّر ويصحِّح لهم ما ذهبوا إليه، من أنَّ تحريم إسرائيل كان قبل أنْ تنزَّل التوراة، فإذا نزلت التوراة فلا تحريمَ إلا تحريم الله. 

أَبَعْدَ هذه الآية الواضحة يجرؤ إنسان على القول بأنَّ رسول الله انفرد بتحريم شيءٍ لم يحرِّمه الله في كتابه، أو أنَّ رسول الله شرع أمراً لم يذكره الله في كتابه؟

لقد جاء الكتاب الإلهي ليقطع القيل والقال، ويصبح المرجع و الأساس الذي يجب أن يعود إليه الناس عند الاختلاف، ولكنَّ أهواء الناس، واختلاف الأحوال، وعدم وجود منهج علميٍّ لفهم اللفظ القرآني؛ أنتج قواعدَ وشرائع ما أنزل الله به من سلطان.

إنَّ الله سبحانه وتعالى يطلب من بني إسرائيل الاحتكام إلى التوراة، رغم ثبوت أنَّ نبي الله يعقوب حرَّم الطعام على نفسه، ومع ذلك يقول لهم الله إنَّ هذا التحريم لا يُلزمهم؛ لأنَّه بكل بساطة لم ينزِّله الله في التوراة. 

كلما تقدَّم الزمن تطورت وتراكمت معارف الإنسان، ولابد أنْ يؤثِّر هذا التطور في  مسيرة الإنسان وتعامله مع الكون من حوله؛ لذلك نجد إرسال الرُّسل تتراً،  فكلُّ رسول يأتي بشريعة تنسخ الشريعة السابقة إمّا تخفيفاً أو توجيهاً، ومسألة التطور المعرفي للأمم نستطيع ملاحظتها من خلال تعامل أقوام الأنبياء مع أنبيائهم وكيف تلقّوا الرسالة.

من خلال مقارنة سريعة بين عصر نبي الله نوح، ورسول الله محمد صلوات ربي عليهم جميعًا؛ نجد أنَّ نبيَّ الله نوحاً ظلَّ يدعو قومه تسعمائة وخمسين عاماً لم يتبعه إلا القليل، ولم يزدْ عدد الأتباع عن ثمانين شخصاً في أغلب الروايات، بينما رسول الله  تبعه في بداية الدعوة عندما كان يدعو في مكة حوالي 150 شخصاً؛ تبعاً لمعظم الروايات، ثم تزايد هذا العدد بشكل مطَّردٍ عند وصول رسول الله إلى المدينة . 

لو قارنا فقط فترة مكوث رسول الله بمكة، وهي عشر سنوات، بالفترة التي مكث فيها نبي الله نوح وهو يدعو قومه؛ سوف نجد أنَّ نسبة الأتباع إلى عدد سنوات الدعوة  في عهد نبي الله نوح كانت 0.08% ، بينما نسبة أتباع رسول الله إلى سنوات الدعوة في مكة فقط  كانت 15% 

هذا الفرق الشاسع لا يمكن تفسيره إلا بناءً على التطور المعرفي للبشرية، ففي زمن نبي الله نوح لم تكن العقول قادرةً على فهم المعاني المجردة، وسوف نتعرض لهذه الفترة بالتفصيل عند الحديث عن الحضارة الإنسانية، ومع تقدُّم الزمن ازدادت العقول تطوراً، وأصبح إدراك المفاهيم أكثر نضجاً على عهد رسول الله. 

إنَّ عدم فهم التطور المعرفي جعل الناس يظنون أنَّ القرون الأولى أكثر معرفة ودراية؛ رغم أنَّ التطور المعرفي الذي يشير إليه القصص القرآني يشير إلى غير ذلك، ويشير إلى أنَّ اللاحقين دائماً أكثر معرفة، وسيظلُّ التطور المعرفي هكذا سنةً من السنن الإلهية في هذه الحياة، فمجرد فهم التطور المعرفي البشري سوف يزيل كثيراً من الغموض، وسوف يحفظ للأجيال السابقة مكانتها؛ عندما ندرك أنَّ تفاعلهم مع كتاب الله كان بقدر معارف عصرهم، وأنَّ محاكمةَ إنتاجهم بمعارف عصرنا أو أي عصرٍ بعد عصرهم هي محاكمة ظالمة تقوم على مقاييس مخطئة. 

لا يمكن لمنصفٍ أن يتهم العصور القديمة بالجهل والتخلف، حتى لو أنَّ ما وصلنا من كتابتهم فيها من الأمور غير المعقولة والساذجة الكثير والكثير، فالبُعد الزمني ركن أساسي في الحكم على إنتاج الشخص، إذ الظروف المجتمعيَّة مختلفة، والمعارف المتاحة بالطبع أقلّ مما هو متاح حالياً، فلو أردنا حكماً عادلاً و نقداً موضوعيَّاً على إنتاج فكريِّ لعصر من العصور القديمة، فلابدَّ أنْ نعود إلى هذه العصور، ونقارن ما فيها بعضها ببعض، لا أن نقارن ونحاكم  إنتاجها بإنتاجنا.

تكمن المشكلة في أولئك الذين لا يدركون مفهوم التطور المعرفي، ويصرون على أنَّ العصور القديمة هي أفضل من العصور المتقدمة، ودون دليل واحد، سوى حالة نفسيَّة غريبة تجعلهم يؤمنون بذلك. 

الحاكم الذي يحمل في يده العصا يضرب بها الشعب دون محاسبة قد يكون أمره مقبولاً في العصور القديمة، ولكن لا يمكن أنْ يكون أمر كهذا مقبولاً في عصرنا الحالي؛ بسبب وجود قوانين تضبط علاقة الحاكم بالشعب، والتى ليس من بينها سلطة تنفيذية تؤهله أنْ يصدر حكماً وينفذه في ثواني معدودة. 

فما جعل الأمر مقبولاً في الماضي، وغير مقبول في العصر الحالي، هو التطور المعرفيّ للبشريَّة، وإدراك قيم وحقوق لم تكن مدركة بشكل كامل في القديم.  

للأسف الشديد التشدق بنصوصٍ ما أنزل الله بها من سلطان، واعتبارها نصوصاً أزليَّة مساوية لكتاب الله دون الأخذ في الاعتبار مسألة التطور المعرفي؛ سبَّب كثيراً من المشكلات والتجاوزات، وأساء لأصحاب هذه النصوص أكثر مما أفادهم. 

حتى الرسل والأنبياء مع مكانتهم العظيمة لهم رسالة محددة؛ وهي التبليغ، وخارج حدود هذه الرسالة هم بشر عاديُّون، خاضعون للتطور المعرفي، فنبي الله موسى اتبع الرجل الصالح، وطلب منه أنْ يعلِّمه مما لديه علماً؛ في إشارة واضحة إلى أنَّ التبليغ شيء والعلم شيء آخر، وأنَّ النبي خارج حدود الرسالة يجري عليه ما يجري على البشر من تطور معارفه، ويتعلم من البشر ومن محيطه أيضاً. 

✦ الحادثة المشهورة المذكورة في حديث مسلم ((عن أنس رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقوم يلقحون النخل، فقال: (لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصًا) - تمرًا رديئًا - فمرَّ بهم، فقال: (ما لنخلكم؟)، قالوا: قلت كذا وكذا..، قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)))، فالرسول يقترح اقتراحاً خاضعاً للمعارف المتاحة وقتها، وليس فيه شيء من الهوى، ثم يثبت عدم دقة هذا الاقتراح؛ فيقول رسول الله للناس: أنتم أعلم بشؤون دنياكم. 

رسول الله نفسه لم يفسِّر الآيات في كتاب الله، رغم غموض كثير من المفاهيم والتعبيرات القرآنية، والتي حيّرت كثيراً من المفسرين وقتها، ولم يأتِنا خبرٌ عن رسول الله أنه قال ما هي العاديات أو الصافات أو المرسلات أو الطور، ولم يسأله أحد عن هذه المسميات، والتى تبدو غير مألوفة لهم، بشهادات المفسرين ذاتهم عندما اختلفوا في فهم كثير من هذه التعبيرات، ويظن كثير من الناس أنَّ رسول الله لم يفسِّر كتاب الله حتى يترك للناس حرية التفسير والاجتهاد، وهذا رأي لا يقوم عليه دليل؛ فلو أنَّ رسول الله لديه علم بشيء معين ما كان كتمه، وإنما المسألة تدور حول وظيفة الرسول؛ وهي التبليغ.

ربما لو سأل المعاصرون لرسول الله عن تلك المعاني القرآنية لحصلنا على كمّ معلومات لا مثيل له؛ لأنَّ رسول بالطبع لن يتحدث عن كتاب الله إلا  بعلم وبيان، لكنَّ ما حدث هو أنَّ التفسيرات أغلبها  جاءت بعد وفاة الرسول، محكومة بمعارف ذاك الزمان؛ فصارت أغلب التعبيرات القرآنية تدور حول الخيل والإبل والحرب والجبال والرياح. 

إنَّ فهم التطور المعرفي للبشرية بطبيعته ومصادره وحدوده سوف يحلُّ إشكاليَّات تعامل السلف الصالح مع الأمور الحياتية، ومع فهمهم لكتاب الله ,ويفسِّر بقاء الرق، وعدم وضوح مفهوم الحرية بتعبيره المعاصر، وكذلك مسألة حقوق الإنسان والتعامل مع المرأة وقضايا المرأة ونظرة المجتمع للإناث بصفة عامة. 

كما أنَّ القصص والمشاهد القرآنية تعطي لمحات رائعة عن هذا التطور، وتصف مصادره، وتحكي قصة تطور الحضارة الإنسانية في أروع ما يكون. 

ولا شك أنَّ ملامح التطور المعرفي والأخلاقي في كتاب الله كثيفة وغزيرة، وكانت تفوق إدراك  العصور السابقة، وخصوصاً مع غياب مفهوم التطور،  ورسوخ فكرة الخلق الكامل. 

رغم غياب بعض المفاهيم الحديثة؛ بسبب طبيعة المجتمع العربي الذي نزل فيه القرآن، إلا أننا لا يمكن أن ننكر الانقلاب المعرفي والأخلاقي الذي أحدثه التفاعل مع كتاب الله في السنوات الأولى.

هذا الانقلاب تمثَّل في إبراز قيم المساواة، ودحض قيم العنصرية في مجتمع لا يجيد إلا العنصرية والقبليَّة، وتمثّل في ترسيخ قيم العدالة، وأن يصير الضعيف قوياً ويتراجع الظالم رغم قوة مكانته، في مجتمع كان أكثر ما يميِّزه التجبر على بعضه بعضاً، والإغارة على بعضه بعضاً، وهذا أمر من أعجب ما يكون، ويجعلنا نقف احتراماً وإجلالاً لهذا المنهج العظيم، ولقدرة هؤلاء البشر على التفاعل مع كتاب الله  بشكل رائع. 

لكنَّ اعتبار هذه الطفرة الأولى هي كل شيء، أو منتهى كل شيء، هي الكارثة المعرفية التي طالت فكر هذه الأمة التي عطَّلت حواسها عن الإدراك؛ ففاتها من خير المعرفة الكثير؛ لأنَّ الظنَّ بالاكتفاء المعرفي هو أكبر عائق لسنن الله الكونية القائمة على التطور والتجدد، وفيه تعطيلٌ لمهمة الإنسان على الأرض، وهو مفهوم يناقض العبادة لله كما سوف نرى. 

سوف نتابع في الفصول القادمة كيفية تطور المعرفة، من خلال تتبع المشاهد القرآنية، وتحليل اللفظ القرآني؛ لنكتشف عالماً آخر يختبئ خلف القصص القرآني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة