الفصل التاسع
"أمدَّكم بما تعلمون"
من ناحية أخرى، فالحوار
الذي دار بين القوم بعضهم بعضاً يدل على هذا التطور العقلي, حين يسأل المستكبرون
من قومه المؤمنين من قومه: هل تعلمون أنَّ صالحاً مرسل من الله؟ فيرد المؤمنون بكل بساطة: إنَّا مؤمنون بما
يقوله، إنها المراحل الأولى للإيمان بالفكرة بغض النظر عن جذورها, فصالح جاء
بأشياء معقولة ومقبولة, ليس فيها أذى أو ضرر لأحد, ويدعوهم لأشياء صالحة؛ لذلك آمن
به فئة من قومه, وإن كان المؤمنون لم يصرحوا بشكل واضح أنهم يعلمون أنَّ صالحاً
مرسل من ربه، فهذه العملية غيبِيَّةٌ, وتحتاج لقدرات عقلية راقية, تمكِّنهم من ربط
الأشياء بعضها ببعض, واستنتاج نتيجةٍ، إلا أنَّ الإيمان بالفكرة والمبادئ التي جاء
بها صالح هو أمر منطقي لديهم؛ لأنها –ببساطة- مبادئ سليمة ومنطقية.
لقد كان الرد الإلهي مزلزلاً على هذه النماذج، إذْ إنَّ أكبر عملية انتقام وتصفية وصلتنا عبر التاريخ كانت لمثل هذه النماذج، من خلال طوفان لا يرحم، يقتلعهم ويلقيهم في مزابل التاريخ.
بعد بيان
مصادر المعرفة؛ من خلال المقارنة بين موقف آدم عليه السلام وموقف ابنه من المعصية،
وبعد تحليل مظهرٍ من مظاهر التطور المعرفي؛ من خلال المقارنة بين القربان والذبح
والهدي، وبعد تحليل بعض المواقف من حياة نبي الله إبراهيم، سوف نحاول في هذا الفصل
تتبع القصص القرآني؛ لفهم مراحل الحضارة الإنسانية.
سوف
نحاول رصد ظهور مظاهر الحضارة الإنسانية
وبزوغها؛ من خلال تتبُّع الحوار الذي دار بين الأنبياء وبين أقوامهم.
إنها
مشاهد بديعة من مشاهد القرآن الكريم، تمنحنا تذكرة دخول مجانية لفهم
التطور المعرفي للبشرية، وهو الركن الأساسي للحضارة البشرية.
المرحلة
الأولى: آدم عليه السلام
لم
يسجِّل لنا القرآن الكريم أيَّ حوار دار بين آدم ومعاصريه، أو حتى زوجه أو أبنائه،
ولم يصلنا إلا حوار بين ابني آدم عندما قدَّما القربان.
وقد
استنتجنا في الفصول السابقة كيف كانت الحياة البدائية؛ فلم يكن هناك أي معرفة قبل
ظهور اللغة، وبمجرد قدرة آدم على التعبير عن المسميات، ومع بزوغ فجر الضمير
الإنساني رأينا كيف تكوَّنت أول معرفة، وهي معرفة دفن الموتى، على يد ابنليس لدينا
في كتاب الله أي إشارة إلى معالم هذه المرحلة، والتي تبدو أنها بدائية بشكل كبير؛
لا عمران أو أبنية أو أي مظهر من مظاهر الحضارة والعمران، ومع تقدم الزمن سوف
نلاحظ من خلال القصص القرآني تراكم المعرفة، والتى بدورها انعكست على مظاهر
الحضارة آدم.
المرحلة الثانية: نبي الله نوح
كما
يبدو من السياق القرآني أنَّ مرحلة نبي الله نوح هي المرحلة الأقرب لآدم عليه
السلام، ونستطيع رصد أبرز مظاهر هذه المرحلة من خلال المشاهد القرآنية، التي قصَّت
علينا بعضاً من حياة نبي الله نوح، والحوار الذي دار بينه وبين قومه، وهذه المشاهد
وإن كانت متعددة في كتاب الله إلا أننا نستطيع تلمُّسها من خلال سورة الأعراف، وسورة
الشعراء، وسورة نوح، حيث أخبرتنا تلك السورعن بعض التفاصيل في هذه الحقبة.
نبي الله نوح لم يكلِّف
قومه طقوساً شعائرية، أو معاملات، أو أيَّ التزامات أخلاقية محددة، وكل ما طلبه
نبي الله نوح من قومه هو توحيد الله والاعتراف بوجود الله وطاعته، من خلال طاعة
نبي الله نوح بوصفه نبيَّاً؛ فلا تكليفات ولا مسؤوليات مركبة، بل هو أمرٌ بسيط
ومطلب غاية في الوضوح والسهولة.
)لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (
(سورة الأعراف : آية 59).
الآيات
الكريمة في سورة الشعراء تؤكِّد على فكرة التعرُّف على الله، وتكرِّر الفكرة عن طريق تكرار قول الله )فاتقوا الله
وأطيعون( في
شكل بسيط من أشكال التعبير المباشر، دون الدخول في تفاصيل، ويحاول نبي الله نوح
نقل الرسالة الإلهية إلى قومه بشكل بسيط، وتكرار مستمر لعلهم يتذكرون.
)إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
(107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ۖ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (110)( (
سورة الشعراء: الآيات 106-110).
فَهْمُ
بساطة الرسالة التي جاء بها نبي الله نوح لا يمكن استيعابه بشكل كاملٍ، إلا عند
المقارنة بين الرسائل المتتالية؛ لذلك سوف نلاحظ تطور الخطاب والعبارات، كلما
تطورت وتقدمت البشرية من الرسالات التي جاء بها الأنبياء والرسل في العصور
المتتالية.
واستكمالاً
للآيات في سورة الشعراء، سنجد أنَّ قوم نبي الله نوح رغم بساطةِ الرسالة إلا أنهم
لم يتقبلوها، ورفضوا الرسالة دون أدنى نقاش منطقي، في صورة واضحة من صور الانغلاق
الفكري، وكلُّ ما حدث هو تهديد ووعيد من هؤلاء القوم لنبي الله نوح، وطلبوا منه
التوقُّف عن دعوته، وساقوا حجَّةً في منتهى السذاجة والسطحية، وهي كيف لهم أنْ
يؤمنوا به وقد آمن بنوح الطبقة الدنيا من الناس أو الضعفاء (الأرذلون)؛ فليس هناك
أيُّ حوار حول الرسالة ومضمونها، وإنما بدائية التفكير واضحة في مبرراتهم وفي
تكذيبهم:
)قَالُوا
أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّي ۖ
لَوْتَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (115) قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ
لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
(117)(
(سورة الشعراء: الآيات 111-117).
وفي سورة نوح كذلك نجد تأكيداً على بساطة وسهولة الرسالة التي بعث الله بها
نبيه نوح:
)إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)( (سورة نوح:
الآيات 1-3).
هذه
الرسالة البسيطة في مضمونها، العظيمة في محتواها، كانت هي الهدف المباشر من رسالة
نبي الله نوح، لقوم يبدو أنهم في مراحل بدائية جداً من التطور البشري. وهذه
البدائية توضِّحها الآيات التي تشرح كيف كان ردُّ القوم على نبي الله نوح، وكيف
كان تعاملهم مع مضمون الرسالة.
لم
يطلب القوم بيَّنةً أو دليلاً أو برهاناً على ما يدعوهم
إليه أخوهم نوح، ولم يتطرقوا لهذا الأمر؛ فطلب الدليل والبرهان على أمر ما دليلٌ
على ارتقاء العقول، على عكس العقول التي ترفض أيَّ فكرة، حتى دون أنْ يخطر على
بالها طلب دليل أو برهان.
)قَالَ
الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا
قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ
رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)(
(سورةالأعراف: الآيات 60-64)
استمرار
محاولات نبي الله نوح في إيصال الرسالة البسيطة إلى قومه، القائمة فقط على توحيد
الله والاعتراف بوجوده، تحطمت على وقع تلك العقول البدائية التي ترفض النظر في
الفكرة، ولا يخطر على بالها طلب دليل أوبرهان، لقد رفضت هذه العقول الفكرة دون
أيِّ إحساس بالمسؤولية، متَّهمةً حاملها بالضلال والكذب، وأمثال هذه العقول ما
زلنا نعاني منها، وما زال وقع كل تلك السنين لم يغير من تركيبها الفكري شيئاً،
فتراها ترفض الفكرة، وتكذِّب صاحبها، وتتَّهمه بالضلال، دون أن يخطر على بالها بحث
الأمر، أو طلب التوضيح، أو الفهم.
سوف نرى تغيير الخطاب مع
الأقوام المتتابعة، وكيف ارتقت العقول شيئاً فشيئاً مع كل حوار دار بين نبي وقومه،
وعصرنا الحديث يحمل كل هذه الأنماط الفكرية التي
تمثل تلك الحقب التاريخية التي قصَّها القرآن من خلال أحسن القصص، وأكثر
تلك الأنماط انحطاطاً وبدائيةً على الإطلاق هو نمط ونموذج قوم نوح، الذي يرفض
الفكرة مباشرة متهماً حاملها بالكذب والضلال.
)فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)( (سورة نوح: الآيات 6-7).
هذه
الآية الكريمة تُثبت كيف تعاملت هذه العقول البدائية مع الدعوة البسيطة، فهم لم
يمنحوا أنفسهم الفرصة لفهم ما يقول النبيّ، بل كان ردُّ فعلهم مبالغة في العناد
والجهل، عندما جعلوا أصابعهم في آذانهم، ولم يرغبوا حتى بسماع فكر مختلف. هذا النمط غير قابل للتعلم؛ بسبب قدراته
العقلية المتواضعة، وهو في الحقيقة خطر على البشرية؛ لما يحمله من قناعة زائفة
بالمعرفة، وغرور بامتلاك الحقيقة.
إنَّ الاستسلام للمورث
السائد دون أي محاولة حقيقيَّة للمعرفة، والثقة الزائدة فيما قاله السابقون دون
سند حقيقي، ورفض أيِّ محاولة نقدية قائمة على الدليل والبرهان، هي في الحقيقة
انتحار فكري، وموت دماغي، مصيره الاجتثاث والغرق في طوفان الجهل.
وإذا
كانت مرحلة آدم ومعاصريه تشبه بشكل كبير مرحلة الطفل الصغير في بداية تعلم النطق، ونظم
جمل قصيرة، فإنَّ مرحلة نبي الله نوح وقومه تشبه بشكل كبير المرحلة التالية في
الطفولة، من سن ثلاث سنوات، والتي تتميز بالعناد والتمرد وفعل أشياء دون هدف، ورفضٍ
مستمر دون مبرر حقيقي، فيبدو أنَّ اقتلاع هؤلاء القوم كان بسبب تحجُّر أدمغتهم، ورفضهم
للمعرفة، وإصرارهم على ما يعتقدون؛ وإذا توقَّفت المعرفة وظن أهلها أنهم مكتفون، يصبح
بقاؤهم من غير فائدة، ويصبح أمر فنائهم مسألة وقت لا أكثر.
فإذا
كان النمط الفكري للبشرية في حقبة نبي الله نوح كما رأينا، فما هو نمط الحياة في
ذلك الوقت؟
يمكن
تصور شكل الحياة من خلال حوار نبي الله نوح مع قومه، وطريقة ترغيبه لهم، فهو يضرب
الأمثال من البيئة التي يعيش فيها هو وقومه، ويدلل نبي الله نوح على وجود ربه من
خلال مثال خلق السموات والقمر الشمس، ومن خلال مثال خلق الأرض وانبساطها أمامهم، فهذه
صورة بسيطة للحياة، ليس فيها أيُّ ذكر للعمران أو الزراعة، أو أيّ مظهر من مظاهر
الحضارة التي نعرفها، ومن خلال تتبع قصة نبي الله نوح في كتاب الله، لا نجدُ هناك
أيَّ ذكرٍ لأيِّ نشاط حضاريٍّ، بخلاف ما كان في العصور اللاحقة على يد الأنبياء
الذين جاؤوا بعد ذلك:
)مَّا لَكُمْ لَا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ
الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنبَتَكُم
مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا
(18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا
سُبُلًا فِجَاجًا(20)( (سورة نوح: الآيات 13-20).
✦المرحلة
الثالثة: نبي الله هود
سوف
نحاول رصد التطور الاجتماعي، والبنية المعرفية للبشرية في مرحلة نبي الله هود، من
خلال ثلاثة مواضع في كتاب الله، والتي تعطينا معلومات غنية عن تطوُّر العقل البشري
عن المرحلة السابقة، مرحلة نبي الله نوح:
✦ الموضع الأول الذي وردت فيه
قصة قوم هود هي سورة الأعراف:
)وَإِلَىٰ
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا
لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ
وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ
رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ
مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا
آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ
اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَاۖ فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم
مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍۚ
فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)( (سورةالأعراف: الآيات 65-71).
في
هذه الآيات الكريمة نرى تطوُّر خطاب نبي الله هود، وكذلك تطوُّر خطاب قومه، فبينما
كان رفض قوم نوح الرسالة بإصرار وثبات، دون أيِّ فرصة للاستماع، نجد هنا أنَّ قوم
هود استخدموا لفظ [لنظنك من الكاذبين].
الرقي الذي أصاب العقول
عمل على خلخلة التحجر، وبدلاً من اليقين النهائي بكذب الرسالة من الأساس، تحوَّل
الأمر إلى الظنِّ بتكذيب المرسَل نفسه، ورغم قولهم )ائتنا بما تعدنا إن كنت
من الصادقين(
دليلاً على تعنتهم، فهو أيضا دليلٌ على تطور إدراكهم، فقد أدركوا أنَّ تكذيب
الرسالة الصادقة قد يصيبهم بالعذاب، وكانت مشكلتهم الأساسية هي تكذيب النبي نفسه، وعدم
ثقتهم فيما يقوله.
هذا
النمط الفكري لم يقبل الحق، معتمداً موقفاً شخصياً من النبي المرسل، فهم لم
يطلبوا آية أو دليلاً على صدقه مثل أسلافهم، بل استعجلوا العذاب ثقة في أنه من
الكاذبين.
نمط
الحياة
في عهد نبي الله هود تخبرنا به الآيات في سورة الشعراء، فقد أصبح المجتمع أكثر
تطوراً، ومظاهر الحضارة بدأت في الظهور، وأول مظاهر هذه الحضارة البشرية جاءت كما
أخبر القرآن، متمثلة في بناء البيوت، وصناعة أدوات تساعدهم في حياتهم.
)كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ
لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
(125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ ۖإِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)( (سورةالشعراء: الآيات 123-129).
لم
يرد ذكر البنيان أو العمران خلال قصة نوح عليه السلام كما ذكرنا؛ مما يدل على
بدائية المجتمعات، على خلاف الفترة الزمنية التي عاش فيها قوم هود، والتي ظهر فيها
البنيان، وظهرت المصانع، وليس هناك خلاف في أنَّ المقصود بقوله تعالى )تبنون بكل
ريع آية(:
تعني البنيان، أما بخصوص اتخاذ المصانع فالأمر مختلف، فقد جاء فى التفاسير القديمة
أنَّ المقصود بالمصانع بناء أيضاً، أو قصور مشيدة.
✦ جاء في تفسير الطبري: )وَتَتَّخِذُونَ
مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(
✦ عن مجاهد: (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ) قال: قصور مشيدة، وبنيان مخلد.
✦ عن مسلم، عن
رجل، عن مجاهد، قوله: )مَصَانِعَ
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ( قال:
أبرجة الحمام.
✦ وقال آخرون:
بل هي مآخذ للماء.عن قتادة، في قوله: (مصانع) قال: مآخذ للماء.
✦ قال أبو
جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن المصانع جمع مصنعة، والعرب تسمي كل
بناء مصنعة، وجائز أنْ يكون ذلك البناء كان قصورًا وحصوناً مشيدة، وجائز أنْ يكون
كان مآخذ للماء، ولا خبر يقطع العذر بأيّ ذلك كان، ولا هو مما يدرك من جهة العقل.
فالصواب أنْ يقال فيه ما قال الله: إنهم كانوا يتخذون مصانع» انتهى التفسير.
لو
حاولنا فهم كلمة [مصانع] فلابد أنْ نعود لجذر الكلمة، وهو [صنع]، ولها أصل واحد، هو
عمل الشيء صنعاً، كما جاء في قاموس اللغة لابن فارس.
أما
كلمة [صنع] فقد وردت في كتاب الله سبع عشرة مرة، وسوف نعرض ثلاث آيات؛ لبيان مدلول
كلمة [صنع] ومن ثم [مصانع]:
)وَأَلْقِ مَا
فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا
يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(
(سورة طه :الآية 69).
كلمة
[صنع] هنا تدل على عمل شيء بشكل احترافي.
)وَعَلَّمْنَاهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ
شَاكِرُونَ(
(سورة الأنبياء: آية 80).
صنعة
لبوس؛ أي: عمل لبوس، وكلمة [علَّمناه] -كما ذكرنا من قبل- خاصة بكيفية عمل
الأشياء؛ مما يدل هنا على تعلم وإتقان حرفة صناعة اللبوس (الأدرع).
)وَتَرَى
الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ
الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(
(سورة النمل: الآية 88).
هذه
الآية لم تدَعْ مجال للتَّخمين، وأظهرت مدلول كلمة [صنع]، وهي عمل شيء مع الإتقان،
أو كما ذكرنا عمل الشيء بشكل احترافيٍّ.
على
ذلك تكون المصانع هي الأماكن التي يتم عمل الأشياء فيها بشكل احترافيٍّ، ولو
حاولنا تقريب المعنى فهي الورش، أو المصانع بالتعبير العصري.
من
خلال الآيات الكريمة والتي تلقي الضوء على فترة من فترات البشرية سنجد أن ظهور
البنيان وظهور الصناعة بمفهومه البسيط قد ظهر في هذه الفترة والتى كانت معاصرة
لنبي الله هود، وليس هناك أي إشارة للزراعة أو التجارة، ولكن سوف نلاحظ ظهورهما في
مراحل متقدمة من تطور البشرية، فليس معنى لفظ [مصانع] هو ظهور الصناعة بمفهومه
المتقدِّم، ولكنَّ المقصود هو قدرة الإنسان على صناعة أدواتٍ تساعده في حياته، والتي
كانت متمحورة حول البنيان والصيد غالباً، وقد تكون هذه الوِرش التي استحدثها قوم
هود هي أماكن لصناعة بعض الأدوات البسيطة، سواء خشبية أو حجرية؛ وذلك لمساعدتهم في
البناء، أو في طلب الغذاء.
الآيات
الكريمة التالية في سورة هود تعرض مشهداً آخر من مشاهد التطور العقلي للبشرية
وقتئذ:
(وَإِلَىٰ
عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا
قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًاۖ إِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِيۚ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (51) وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ
قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ (53)إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ۗ قَالَ
إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن
دُونِهِۖ فَكِيدُونِي
جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي
وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ
رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا
أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْۚ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ
وَلَاتَضُرُّونَهُ شَيْئًاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ ۖ جَحَدُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍعَنِيدٍ
(59) وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا إِنَّ
عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْۗ أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)(
(سورةهود: الآيات 50-60(
لقد
تطوَّر العقل قليلاً كما ذكرنا، وها هم قوم هود يقولون لنبيهم مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ، ورغم عدم طلبهم البينة على ما يقول إلا أنهم قالوا له ما جئتنا
ببينة؛ فإن كان حدث رقي في التفكير قليلاً إلا أنه الجحود الفكري، المتمثِّل في
إنكار وجود دليل أو برهان على صدق الرسالة.
من
الواضح أنَّ هناك آياتٍ وعلامات أرسلها الله لهؤلاء القوم، وهذه سنة الله في خلقه أن يرسل رسائل وآيات؛ حتى
يستبين الناس الحق، ولكنَّ قوم هود جحدوا تلك الآيات ولم يعترفوا بها.
لقد
ظل قوم هود متمسكين بتكذيب الرسالة؛ بحجة عدم كفاية البيِّنات والأدلة على صدق
الرسالة، وهذا الجحود هو في حد ذاته دليلُ تطور، إذ إنهم عرفوا البيِّنات، ولكنهم
جحدوها وكذبوها، على خلاف الأقوام الذين لا يدركون معنى الدليل والبرهان، ولا
يقيمون له وزناً من الأساس.
)وَتِلْكَ
عَادٌ ۖجَحَدُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ(
(سورةهود: الآية 59).
✦ المرحلة
الرابعة: نبي الله صالح
من
خلال تتبُّع حقبة نبي الله صالح، والحديث عن دليلٍ واضح، وهو الناقة التي حذَّر
نبي الله صالح قومه من المساس بها؛ يتضح لنا أنَّ عهداً جديداً قد بدأ.
يبدو
أنَّ التدخل الإلهي المباشر في إرسال الدلائل والبراهين إلى البشرية قد انتهى، وتحوَّل
إرسال الدلائل من خلال الرسول نفسه، والمثال الأبرز على التدخل المباشر، هو قصة
القوم الذين قالوا: إن الله عهد إليهم ألَّا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان تأكله
النار.
)الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗقُلْ قَدْ
جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( (سورة آل عمران : آية 183).
حقبة
نبي الله صالح تؤرِّخ لعهد الأدلة المادية عن طريق الرسول نفسه، بحيث يخبر الرسول
عن ربه دون الحاجة لتدخل مباشر، ولم يتقبل قوم نبي الله صالح ذلك الأمر بسهولة، ولكنهم
كذبوا واستهزؤوا بما جاءهم به صالح، واعتقدوا أنَّ صالحاً ليس مرسلاً من ربه.
)وَإِلَىٰ
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةًۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِۖ وَلَا
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (سورةالأعراف : آية 73)
مع
أنَّ صالحاً حذَّرهم من المساس بالناقة إلا أنَّهم استخفُّوا بتحذيره، وأجمعوا على
نبذ هذه الآية ورفضها، فجاء العقاب حاضراً وسريعاً ليكونوا عبرة لمن يأتي خلفهم.
)فَعَقَرُوا
النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا
قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا
تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)( (
سورة الأعراف: الآيات 77-79).
من
ناحية أخرى، فالحوار الذي دار بين القوم بعضهم بعضاً يدل على هذا التطور العقلي، حين
يسأل المستكبرون من قومه المؤمنين من قومه: هل تعلمون أنَّ صالحاً مرسل من الله؟
فيرد
المؤمنون بكل بساطة: إنَّا مؤمنون بما يقوله، إنها المراحل الأولى للإيمان بالفكرة
بغض النظر عن جذورها، فصالح جاء بأشياء معقولة ومقبولة، ليس فيها أذى أو ضرر لأحد،
ويدعوهم لأشياء صالحة؛ لذلك آمن به فئة من قومه، وإن كان المؤمنون لم يصرحوا بشكل
واضح أنهم يعلمون أنَّ صالحاً مرسل من ربه، فهذه العملية غيبِيَّةٌ، وتحتاج لقدرات
عقلية راقية، تمكِّنهم من ربط الأشياء بعضها ببعض، واستنتاج نتيجةٍ، إلا أنَّ
الإيمان بالفكرة والمبادئ التي جاء بها صالح هو أمر منطقي لديهم؛ لأنها –ببساطة-
مبادئ سليمة ومنطقية.
)قَالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا
إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ(76)( (سورة الأعراف : آيات 75- 76).
هذان
النموذجان؛ وأقصد النموذج المؤمن والنموذج الكافر من قوم نبي الله صالح، يمثِّلان
نمطين فكريَّين متقابلين؛ فبينما يؤمن المؤمنون بالفكرة بغض النظر عن مصدرها، في
حالة سامية تحاول الانفكاك من التشخيص، نجد أنَّ النمط الكافر يشخصن الأمور، ويحصر
الفكرة في قائلها، ويرفضها بناءً على تصوره الشخصي عن مصدر الفكرة.
لا
يمكن أنْ يفوتنا هنا التنوع والتطور الذي حدث من خلال وجود نمطين فكريَّين مختلفين،
يحمل كلٌّ منهما رؤية وقدرة على التعبير عن أفكاره.
في حالة نبي الله نوح وهود
لم نرَ حواراً بين مجموعات منفصلة، كل منها يحمل تصوراً معيناً، بل كان الحديث
منصبَّاً بين الرسول وبين قومه، وفي الفترة الزمنية التي سجَّلها لنا القرآن
الكريم خلال حقبة نبي الله صالح ظهر جليَّاً تنوُّع الأنماط الفكرية، وتمَّ بالفعل
خلخلة النمط الواحد ليعطي نمطين مختلفين، فهذا التنوع في الأنماط الفكرية في
المجتمعات هو دليل قوي على التطور الفكري لهذه المجتمعات، حتى وإنْ كانت لا تزال
في بدايتها.
الآيات
الكريمة في سورة الأعراف أيضاً تعطينا لمحة عن شكل المجتمع وتطور بنائه، فمجتمع نوح عليه السلام كان مجتمعاً بدائياً، لم
يظهر فيه شيء من العمران أو أي شكل من أشكال التطور الاجتماعي، إلا أنَّ الحقبة
الزمنية التي عاش فيها قوم هود ظهر فيها نوع من أنواع البنيان، وكذلك شكل من أشكال
الصناعة، وعلى الصعيد نفسه نجد أنَّ حقبة قوم صالح حدث فيها تطور واضح في عملية
البناء، وأصبحت المنازل أكثر رقياً وتقدماً، وهذا الذي اشار إليه القرآن بالقول: )تَتَّخِذُونَ
مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ( .
)وَاذْكُرُوا
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ
تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا
آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ( (سورةالأعراف : الآية 74).
أيضاً
من خلال سورة هود سنجد أنَّ القوم يقولون لصالح: إنهم في شك مما يدعوهم إليه، والشك
في حد ذاته هو مرحلة أرقي في التفكير من مرحلة الرفض القاطع، الذي واجهه نبي الله
نوح، على سبيل المثال؛ لأنَّ الشك يفتح باب الاحتمال، ويصدُر من عقول متقدِّمة، بينما
القطع والجزم لا يصدر إلا من عقول متحجرة، يصعب مناقشتها ومحاورتها.
)قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ((سورةهود : آية 62).
من
خلال سورة الشعراء أيضاً، يعطينا كتاب الله صورة وملامح عن الحياة في هذا العصر، والتي
كما قلنا تميَّزت بتطوُّر عملية البناء والمساكن، ولكنَّ الآيات لا تشير إلى أنَّ
الزراعة بدأت بعد، بل تشير إلى جنات وزروع ليس هناك دخل للإنسان فيها.
)وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖإِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)( ( سورة الشعراء : الآيات 145-149).
وأغلب
الظنِّ أنَّ كثافة الزروع ونموها بدون تدخل الإنسان قد أجلت حاجة الإنسان للزراعة،
فلم تكن هناك حاجة ملحة للزراعة في ظل
وفرة كثيفة من الزروع والثمار والنخيل حولهم.
✦ المرحلة الخامسة: نبي الله إبراهيم
مرحلة
نبي الله إبراهيم من المحطات الرئيسة في تاريخ البشرية، وقد تحدثنا في الفصل
السابق عن مشاهد عظيمة في حياة نبي الله إبراهيم.
إنَّ
أهم ملمح من ملامح هذه الفترة هو قدرة العقل البشري على الخروج من مرحلة التجسيد
إلى مرحلة التجريد، والتي تمثَّلت في قدرة نبي الله إبراهيم على الوصول لوجود
الخالق، اعتماداً على القدرات العقلية والمنطقية، لذلك استحق نبي الله لقب أُمَّة
عن جدارة؛ فلقد كان متفرِّداً في تصرفاته، وفي بحثه عن الحقيقة، وفي هذه الحقبة
نلاحظ ظهور لوط عليه السلام، بالتزامن مع نبي الله إبراهيم، كما جاء في سورة
العنكبوت:
)وَإبراهيم
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ۖ ذَٰلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ۚ إِنَّ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا
فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُۖ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (17) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ۖ وَمَا عَلَى
الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ
اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ
سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ
اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُۖ وَإِلَيْهِ
تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِۖ وَمَا لَكُم
مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَٰئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ
أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِۚ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن
دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ ثُمَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ (25) ۞فَآمَنَ لَهُ
لُوطٌۘ وَقَالَ
إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَاۖ وَإِنَّهُ
فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)( (سورةالعنكبوت: الآيات 16-27)
هذا
التزامن الواضح بين زمن نبي الله إبراهيم و زمن لوط، يبدو أنَّه إشارة إلى تنوع
المجتمعات وانتشارها، أو ما يمكن أنْ نسمِّيه البذرة الأولى لنشوء الحضارات
المختلفة؛ فها نحن نرى نبي الله إبراهيم
يقوم داعياً في قومه، وفي الوقت نفسه يوجد مجتمع آخر مختلف تماماً، يقوم
فيه لوط داعياً ومنذراً .
سوف
نلاحظ أنَّ لوطاً عليه السلام كان من أتباع نبي الله إبراهيم، وليس هناك آية صريحة
في كتاب الله تقول: إنا أرسلنا لوطاً، كما جاء هذا التعبير القرآني مع نوح وموسى، أو
أيّ إشارات بالرسالة كما باقي الأنبياء.
آية
وحيدة تقول: إنَّ لوطاً من المرسلين، في سورة الصافات:
)وَإِنَّ
لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ(
(سورة الصافات : الآية 133).
فهل
تعبير )من المرسلين( تعني
أنه يحمل رسالة من الله، أم يحمل رسالة من إبراهيم، وخصوصاً أنَّ الله يقول عن
إبراهيم: )فآمن له لوط(؟
)فَآمَنَ لَهُ
لُوطٌ ۘوَقَالَ
إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(
قد
يكون لوطٌ رسولاً من الله، ولكن يجب أنْ نتساءل: لماذا عندما صدر الأمر الإلهي
بهلاك قوم لوط لم يتم إخبار لوط بذلك بطريقة مباشرة؟ وما حدث أنَّ الله أخبر
إبراهيم بهلاك هؤلاء القوم، حتى إنَّ نبي الله إبراهيم جادل عن القوم، كما حكى
القرآن، وقال إنَّ فيها لوطاً وأهله:
)فَلَمَّا
ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ
لُوطٍ (74) إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إبراهيم أَعْرِضْ
عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ
قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
(76)(
(سورةهود: الآيات 74-76).
حتى
إنَّ رسل الله الذين أُرسلوا لهلاك قوم لوط ليسوا رسل رسالة، ولوط نفسه لم يعرفهم،
وكانوا فقط رسل هلاك، فقد جاء في القرآن أنَّ الرسل كانوا مرسلين لقوم لوط، وليس
للوط نفسه، وكانت لهم وظيفة محددة، وهي تدمير قوم لوط:
)فَلَمَّا
رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ قَالُوا لَا
تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ( (سورةهود : الآية 70).
نحن
هنا لا نجزم بكون لوط رسول من رب العالمين أو أنه كان يحمل رسالة إبراهيم التي آمن
بها، وحاول حملها إلى قومه، ولو سلَّمنا بفكرة إيمان لوط لإبراهيم، وحمله رسالة
إلى قومه، فهذا دليل قوي على تطور العقل، وظهور فكرة الأستاذية أو المعلم، فقد صار
إبراهيم أستاذاً للوط، وقدرة لوط على فهم الرسالة وحملها إلى قوم آخرين هو نقلة
نوعية في تطور البشرية.
✦المرحلة
السادسة: نبي الله شعيب
ننتقل
الآن إلى حقبة صارت فيها المصالح تحكم التفكير، فعندما مس الإصلاح مصالحهم وقفوا
له بالمرصاد، وقالوها بكل صراحة: )لَئِنِ
اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ(
)وَإِلَىٰ
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْۖ فَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَاۚ ذَٰلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلَاتَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ
تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا
عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا
إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْۖ وَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا
بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ
يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ۚوَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ
أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ
عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَاۚ وَمَا
يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ
رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَاۚ رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
(89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن
لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ
الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ
آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)( (سورةالأعراف
: الآيات 85-93).
سوف
نلاحظ من خلال الآيات الكريمة بزوغ نجم النشاط التجاري، والذي تمثَّل في الكيل
والميزان الذي أشار إليه القرآن.، ويبدو أنَّ التجارة تبلورت في هذا العصر، وبدأت
تأخذ شكلاً متطوراً حتى إنّ عملية الكيل والميزان -وهي نوع من القياس المتطور-
أصبحت سمة هذا العصر، ولقد اقترنت قصة شعيب دائماً بالكيل والميزان؛ دلالة على
النشاط التجاري الواضح في هذا العصر
)كَذَّبَ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا
تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖإِنْ
أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا
تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
(182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ (183)(
(سورة الشعراء: الآيات 176-182).
في
سورة هود سنجد أنَّ رفض أهل مدين الصلاح كان رفضاً مركَّباً؛ فقد كان رفض الانصياع
لشعيب قائماً على عدم معقولية أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم، وكذلك الإضرار
بمصالحهم من وجهة نظرهم.
)قَالُوا يَا
شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن
نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ
لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ(
(سورة هود: الآية 87).
لقد
ظهر للمرة الأولى رفض الطاعة بسبب المصالح، وهذا إن دلَّ فإنه يدلُّ على تطور فكري،
بغضِّ النظر عن النتيجة وهي كفرهم، ولكنه كفر مبرر من وجهة نظرهم.
حديث
شعيب عليه السلام إلى مدين كان معقولاً بعض الشيء بالنسبة إليهم، ودليل ذلك أنهم
قالوا له: إنهم لا يفقهون كثيراً مما يقول، مما يعني أنهم يفقهون بعض ما يقول، ولكنه
الكِبْر الذي أفسد طاعتهم.
)قَالُوا يَا
شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا
ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا
رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ(
(سورة هود: الآية 91(
هذا
النمط الفكري منتشر في المجتمعات ذات المصالح المتشابكة، فمعرفة الحق ليست عصية، ولكن
بسبب المصالح يتم إنكار الحق؛ خوفاً من كساد مصالحهم، لقد نضجت البشرية درجة، ولكن
ما زال أمامها الكثير والكثير .
✦المرحلة السابعة: نبي الله يوسف
لقد
حدثت تحولات عظيمة بعد فترة نبي الله إبراهيم، وتتابعت الأنبياء في بني إسرائيل، وحدث
تطور مشهود ومتسارع، ويظهر ذلك جلياً من كثرة عدد الأنبياء بعد نبي الله إبراهيم، وأغلبهم
من نسله.
لقد تبلورت فكرة العبادة، وفكرة
الخالق في العقول، وها هو نبي الله يعقوب يوصي أولاده بالإيمان بالله، وقد أجابوه
على ذلك عندما قال لهم: ماذا تعبدون من بعدي؟ فكان ردهم: إلهك وإله آبائك.
)أَمْ كُنتُمْ
شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إبراهيم
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(
(سورة البقرة: الآية 133).
يبدو
أنها كانت فترة استقرار نوعاً ما، وانتشار لفكرة الإله، وهذا ما نلاحظه من تتبع
قصة نبي الله يوسف، وكيف كان داعياً لله في السجن، ولم ينكر أحد عليه ذلك، بل يبدو
أنَّ الأمر كان متقبَّلاً نوعاً ما، ولم يحدث جحود أو إنكار أو اتهام، كما حدث من
قبل:
)يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا
أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)(
(سورة يوسف: الآيات 39-40).
يبدو
أن هذا الاستقرار جاء بسبب تطور العقول نوعاً ما، وقدرتها على تقبل الأفكار
التجريدية بسهولة عن السابق.
وهذه
الحقبة تميَّزت ببعض التحولات وبعض الأنشطة، التي أدت إلى استقرار المجتمعات.، فالنشاط
الذي أدى إلى استقرار المجتمعات، وبالتالي تكوين حضارات ونظام حكم، هو بالتأكيد
النشاط الزراعي، الذي وردت الإشارة إليه في قصة نبي الله يوسف، والظهور الأول
للزراعة جاء من خلال لفظ [تزرعون] الذي ذكره نبي الله يوسف عندما أوَّل رؤيا الملك:
)قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُون(
(سورة يوسف: آية 47).
قد
يساور البعض الشكَّ حول قيام الزراعة في عهد نبي الله يوسف، ولكن ما يمكن قوله
إنَّ بدايات الأشياء تختلف عن جدول الضرب، وتطور الحضارة ليست معادلة من الدرجة
الثانية، وإنما هي مصفوفة متكاملة من التفاعلات المتراكمة، تؤدي بالنهاية إلى بزوغ
فجر أحد أركان هذه الحضارة.
قد تكون الزراعة سبقت
قليلاً، ولكنَّ استقرارها كان لا يتعدَّى حقبة نبي الله يوسف بقليل، وأيضاً لا
شكَّ أنَّ الزراعة جاءت بعد مرحلة البنيان، وبعد مرحلة الصناعة (الأدوات البسيطة
المساعدة في عمليات البناء والصيد)، وكذلك بعد بزوغ فجر التجارة.
لقد
جاءت الزراعة متأخرة قليلاً، وربما ذلك بسبب عدم حاجة الناس لمجهود الزراعة الشاق؛
في ظل وفرة من الفواكه والمزروعات التي تنمو بدون تدخل بشري، ولكن على ما يبدو
أنَّ زيادة عدد البشرية وتمركزهم في تجمعات ضخمة دفعهم لاستحداث طريقة لتوفير
الغذاء، فجاءت الزراعة تترجم هذا الاحتياج.
ويبدو
أيضاً أنَّ المجتمعات قد تكاثرت بالشكل الذي لا
يمكن معه الاكتفاء الغذائي بدون
زراعة، وهذا ما تترجمه رؤيا الملك، وانزعاجه من هذه الرؤيا، وما تبع هذه الرؤيا من
تفسير نبي الله يوسف لها:
)وَقَالَ
الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ
وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(
(سورة يوسف: آية 43).
هذه
الرؤيا كانت سببًا مباشرًا في تنصيب يوسف عليه السلام عزيزًا على مصر، وتحكي سورة
يوسف من ضمن فصولها دورة فيضان النيل، وكيف يمكن أنْ تتسبَّب هذه الدورة في هلاك
أمم، إن حدث فيها خلل.
يبدو جليًا أنَّ فهم دورة
الفيضان هذه من أهم أسباب تطور الحضارة فيما بعد، فمن خلال فهم هذه الدورة استطاع يوسف عليه
السلام تخزين الحبوب، وتلافي موسم الجفاف والقحط، وانتقل هذا الإجراء الوقائي إلى
الأجيال المتعاقبة كما سوف نرى.
إننا
هنا نتحدث عن فترات عجاف، فترات قاتلة ومهلكة حقاً، ونادرة الحدوث، ولكنها إذا
حدثت أهلكت الحرث والنسل؛ فنحن لا نتحدث عن فترات جفاف عادية، ولكنَّ الحديث عن
فترات لا تبقي ولا تذر، ولدينا شاهد على مثل هذه الفترات من خلال قصة الرؤيا التي
رآها الملك، واحتاط لها نبي الله يوسف ، وكذلك من خلال التاريخ فيما يعرف: بالشدة
المستنصرية.
×يقول
المؤرخون عن الشدة المستنصرية إنها كانت أقرب للخيال حتى إنَّ الناس ظنوا أنَّ
القيامة قد حانت؛ فقد أكل الناس القطط والكلاب والميتة، وأكل بعضهم بعضاً وكان يتم
اصطياد الناس من الطرقات لغرض أكلها، يقول المقريزي عن هذه الشدة: لقد تصحَّرت الأرض، وهلك الحرث والنسل، وخُطف
الخبز من على رؤوس الخبازين، حتى إنَّ وزير الدولة ذهب للتحقيق في أمر ما على بغلة
له، فخطف الناس البغلة وأكلوها، ولما علم الوزير بذلك قبض على المتهمين، وكانوا
ثلاثة، ثم صلبهم ليكونوا عبرة للناس، ولما أصبح وجد أنَّ الناس قد أكلوا المصلوبين،
ولم يتبق منهم إلا الهياكل العظمية، وتبعا
للمؤرخين فقد أبادت هذه الشدة ثلثي الشعب المصري، واستمرت هذه الشدة ما يقرب من
سبع سنوات.
سوف
نجد أنَّ رقم سبعة قد تكرر في رؤيا الملك، والتى فسَّرها نبي الله يوسف على أنها
سبع سنوات غزيرة المطر، ثم سبع عجاف ليس فيها مطر، أو سنوات جفاف:
)قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ
سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا
تُحْصِنُونَ (48)(
(سورة يوسف: الآيات 47-48)
كلمة
[دأب] كما في قاموس اللغة تعني المداومة، ويقال دأب الرجل، أي: جدَّ في عمله، وكلمة
[شداد] أصلها: شدَّ، وتعني: القوة في الشيء، ويبدو أنَّ هذه السنين شداد على غير
العادة، إذاً كلمة [دأب] توحي بغزارة
الأمطار التي نتج عنها الزراعة في السنين
السبع الأولى، بينما السبع التالية كانت قاحلة بشكل مبالغ فيه.
بالرجوع
إلى الجغرافيا المائية سنجد أنَّ دورة الفيضان الطبيعية الخاصة بنهر النيل هي 20 عام: سبع سنوات غزيرة المطر، ست سنوات متوسطة المطر، ثم سبع سنوات شحيحة
المطر، أو ما يسمى بالجفاف، فهذه الدورة الطبيعية للفيضان، والتي كان يحترز منها
سكان وادي النيل بتخزين الحبوب لفترات طويلة، حتى إذا حضرت سنوات شُحِّ المطر
استفادوا من مخزون هذه الغلال.
ويبدو
أنَّ تقليد تخزين الحبوب مصدره يوسف عليه السلام، عندما أشار على الملك بتخزين
الحبوب؛ بسبب السنوات العجاف المنتظرة، فهو إجراء احترازي من السنوات العجاف، وهذا
التقليد سوف نلاحظ صداه من خلال المؤرخين الذين كتبوا عن الشدة المستنصرية
وأسبابها.
يحكي
المؤرخون أنه في زمن المستنصر، والذي حدثت في عهده الشدة المستنصرية، كان هناك تقليد تخزين الغلال وكان معمولاً به في
البلاد، فقد كان الخليفة يشترى بما يقارب مائة ألف دينار حبوباً وغلالاً ويخزنها.
يقول
المؤرخون: إنَّ هذا التقليد كان معمولاً به لمنع التجار من الاحتكار، حتى إذا ندرت
السلع أخرج الخليفة الحبوب والغلال للناس، وأعتقد أنَّ تخزين السلع كان طقساً
وتقليداً من زمن يوسف عليه السلام في هذه البلاد ولكن لمَّا طال الأمد نسي الناس، واعتقد
المؤرخون أنَّ تخزين الحبوب كان بسبب منع الاحتكار، ولكنَّ الواقع أنَّ تخزين
الحبوب كان أحد الإجراءات الاحتياطية لمواجهة الجفاف، وجذوره تعود لتصرف يوسف عليه
السلام.
اللافت
للنظر أنَّ قُبيل الشدة المستنصرية أشار أحد وزراء المستنصر بالله الخليفةِ
الفاطمي إلى أنه لا داعي لشراء الحبوب والغلال وتخزينها، وبالفعل توقف هذا
التقليد، ولمَّا ضرب الجفاف الشديد البلاد تفاقمت الأزمة؛ بسبب عدم وجود مخزون
كافٍ من الحبوب والغلال.
هذه
الأزمة ليس لها مثيل في التاريخ، وربما تكرَّرت ولم ندرِ عنها شيئاً، أو أنها
تكرَّرت، ولكن بفضل التقليد المتبع منذ زمن نبي الله يوسف لم تكن بالسوء الذي حدثت
في وقت المستنصر بالله.
الرؤيا
التي رآها الملك وكانت مزعجة بالنسبة إليه، تدلُّ على أن الأمر كان غير معتاد، ولذلك
طلب تأويلها بشكل سريع، وعندما قام نبي الله يوسف بالمهمة وفسرها على أنها سبع
سنوات غزيرة المطر ثم سبع سنوات جفاف انزعج الملك، وطلب من يوسف أن يتولى
المسؤولية، أوعلى الأصح وافق على عرض يوسف أن يتولى المسؤولية، وجعله عزيز مصر.
بديهيَّاً،
لو أنَّ الجفاف كان شيئاً طبيعيَّاً وخاصَّاً بدورة الفيضان لما انزعج الملك كل
هذا الانزعاج، إذ إنَّ الدورة تتكرر كل عشرين عاماً، ولابد أنَّ الناس لديهم معرفة
بتلك الدورة أو مرت عليهم وتعاملوا بشكل ما معها، ولكنَّ هذا الانزعاج، وتولي
يوسف المسؤولية، وذكر كتاب الله لهذه
الواقعة؛ لهي دلالة قوية على أنَّ الحدث غير اعتيادي، ويحمل إشارات جديرة بالتدبر
والقراءة، ويبدو أنَّ الشدة المستنصرية هي النسخة الطبيعية لما كان سوف يحدث، لولا
اتخاذ نبي الله يوسف الاحتياطات اللازمة.
من
خلال القصص القرآني، ومن خلال تتبع المعلومات العلمية، والاسترشاد بالمعلومات
التاريخية، سنجد أنَّ دورة فيضان النيل هي دورة منتظمة بشكل ما، كما يقول العلم، وهي:
7 سنوات غزيرة المطر، و6 سنوات متوسطة المطر، و7 سنوات شحيحة المطر، وهذه هي الدورة الطبيعية والمعتادة، وماحدث في
عهد نبي الله يوسف، وما حدث في عهد الشدة المستنصرية، يبدو أنه خلل في هذه الدورة،
بحيث تحوَّلت الدورة إلى سبع سنوات غزيرة المطر، يعقبها سبع سنوات جفاف شديد
مباشرة، دون المرور بالسنوات الست متوسطة المطر.
هذا
الخلل في دورة الفيضان قد يكون مرتبطاً بحركة الكواكب، أو بالدورة الشمسية بشكل
ما؛ لأنه حدث على فترات طويلة نسبياً، وحدوث هذا الجفاف الشديد، وارتباطه بدورة
الفيضان على فترات طويلة، جعل من المستحيل تتبعه علمياً، ووضعه في معادلة رياضية
تستطيع التنبؤ به، حتى يمكن تجنبه في
المستقبل. لقد أصابت فترات جفاف عديدة وادي النيل، وكان أقربها فترة الجفاف في
الثمانينات، التي حدثت في السودان، ولكنَّ مصر نجت منها؛ بسبب اختزان الماء خلف
السد العالي، ولكنْ تبقى هذه الفترات من ضمن الفترات الطبيعية لدورة الفيضان، والخطير
في الأمر أنَّ القرآن يشير إلى فترة استثنائية من الجفاف الشديد على غير المعتاد، والتى
يلزمها احتياطات عظيمة.
أعتقد
أنَّ إشارات كهذه وفى عصر العلم الذي نعيشه،
لابد أنْ تقود لبحوث جدية؛ تحاول
فهم دورة الفيضان والعلاقات التي تحكمها، سواء
حركة الشمس أو حركة الكواكب، لمحاولة فهم لماذا يحدث خلل في دورة الفيضان، الذي
يسبب جفافاً شديداً، لدرجة أنْ يهدد وجود الناس من الأساس، ومثل هذه الأبحاث هي
أبحاث جدية لأقصي درجة، ولا يمكن تجاهل مثل هذه الإشارات والدلالات؛ بسبب ندرة
حدوثها؛ لأنه في حالة حدوث خلل في دورة الفيضان كما بيَّنا، وكما حدث في عهد نبي
الله يوسف وفي عهد الخليفة الفاطمي المستنصر، سوف تكون القاضية لملايين يعيشون على
ضفاف نهر النيل، في ظل زيادة سكانية غير طبيعية، تعاني بالأساس من ندرة مائية.
أقرب
سنوات عجاف سجلها التاريخ هي فترات الشدة المستنصرية عام 1065 م، وذلك في حد ذاته إنذار شديد اللهجة، بأنَّ
احتمالية حدوث هذا الخلل قد تكون أكبر بكثير من أي وقت مضى، وكلما مر الوقت كانت
احتمالية الدخول في فترات السنوات العجاف ممكنة بشكل كبير.
لقد
أرشد القرآن الكريم إلى كيفية التعامل مع مثل هذه الأزمات، عندما حكى على لسان نبي
الله يوسف، وكيف طلب من الملك أنْ يجعله على خزائن الأرض ليتدبر الأمر ويضع الحلول
المناسبة.
)وَقَالَ
الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا
كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
(55)(
(سورة يوسف: الآيات 54-55)
سورة
يوسف استحقَّت بجدارة أنْ تكون أحسن القصص، من ناحية الإشارات التي تحملها، وشكل
الحضارة الإنسانية المنتظمة التي سجلتها، والتى ظهرت لأول مرة من خلال نظام سياسي
محكم، ودولة حقيقية من خلال دستور ينظم أعمالها.
ربما
يتبادر إلى ذهن البعض أنَّ الحضارة الفرعونية كانت تعرف كل ذلك؛ بسبب التأثير
الكبير لهذه الحضارة، دون النظر إلى البعد الزمني المقصود، فيبدو أن فترة نبي الله
يوسف كانت في بدايات هذه الحضارة، ولم تكن بعد قد ثبتت أركانها كما في عهد موسى
عليه السلام.
حاول
كثير من الباحثين فهم لماذا في حالة نبي الله يوسف ذُكر حاكم مصر بالملك، بينما في
كل المواضع التي جاءت بعد ذلك على مصر تم وصفه بالفرعون، هناك تأويلات كثيرة حاولت
فكَّ هذا اللغز، فمنها ما ذكر أنَّ حقبة يوسف عليه السلام وافقت مرحلة الهكسوس؛
استناداً إلى ما قيل إنه نتيجة لفك شامبيلون حجر رشيد، ومنهم من قال إن لفظ
الملك جاء بسبب عدل هذا الرجل.
كل
هذه التفسيرات والاجتهادات تسقط تماماً حال حاولنا تتبع قصة الحضارة الإنسانية، ولاحظنا
أنّ مرحلة يوسف عليه السلام كانت على ما يبدو في بدايات تكوين النظام السياسي
للبشرية، ونظام الملك كان قبل فترة
استقرار النظام وتحوله إلى نظام الفراعنة، وقبل مرحلة الهكسوس بالطبع.
أضف
إلى ذلك أن الكتابة لم تكن معروفة في ذلك الوقت كما سوف نرى، وأنها ظهرت بعد ذلك
بآلاف السنين؛ لذلك لا نجد أيَّ تدوين عن هذه الحقبة؛ مما يدحض الادعاء أنها كانت
في عصر الهكسوس.
النظام
السياسي في حقبة نبي الله يوسف:
المفردات
التي استُخدمت لأول مرة في عهد نبي الله يوسف، مثل: دين الملك، والملك نفسه، والعزيز،
وخزائن الأرض، والسجن، تُرشد إلى تكوُّن نظام سياسي واضح، وتطور لشكل الدولة بصورة
لا يمكن تجاوزها.
هذه
هي المرة الأولى التي يتم استخدام مفردات الدولة بهذا الشكل، وبهذه
الكثافة، ما يدعم قولنا أن حقبة نبي الله إبراهيم شهدت ذكر رجل آتاه الله الملك، ولكن
لم تكن سلطة ودولة ونظام، وإنما ملك بدون سلطة، وهو شكل بدائي جداً ومرحلة أولى
تسبق تكوين الدولة ذات السلطة.
)أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِي حَاجَّ إبراهيم فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ
قَالَ إبراهيم رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إبراهيم
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(
(سورةالبقرة: الآية 258).
هذا
الرجل الذي حاجَّ إبراهيم في ربه ليس ملكاً بالمعنى السياسي، ولكنه مثال لمن يملك ولا يحكم، فربنا يقول إنه
آتاه الملك، ولم يقل إنه ملك كما تحكي كتب التفسير، والفرق بينهم كبير بشكل واضح؛
فمن آتاه الله الملك هو في الحقيقة يملك ملكاً عظيماً ولكن لا يشترط أن يكون له
سلطة سياسية، ولديه شكل من أشكال الحكم، بينما الملك نفسه هو شكل متطور من أشكال التحكم، فهو يملك
من جهة، ولديه نظام حكم معين من جهة أخرى.
هذا
الذي آتاه الله الملك لا يمكن أن يكون ملكاً بالمعني المعروف والمتطور، لأن
إبراهيم حاجَّه وغلبه ومع ذلك لم يتوعد إبراهيم
بشيء ولم يسبب له أيَّ أذى، فلو كان هذا ملكاً بالمعنى المعروف لما تردد
بتهديد إبراهيم أو عقابه، ولكن القرآن لا يشير إلى أيٍّ من ذلك، لقد كانت محاجَّة
غلب فيها إبراهيم من آتاه الله الملك، وانتهى كل شيء، بينما نجد في عهد نبي الله
يوسف أن الملك قد أخذ شكلاً متطوراً وأصبحت سطوته أكثر حضوراً، وأصبح لديه نظام
محدد.
يجدر
بنا الإشارة إلى إن القصة المنتشرة عن زوجة نبي الله إبراهيم سارة، ومحاولة إخفاء
نبي الله علاقته بها؛ خوفاً من فرعون مصر، لا وجود لها في كتاب الله، وليس لها
أدنى أثر، ونحن هنا بناء على ما تحت أيدينا من دلائل على نظام الملك والدولة
نستطيع القول إنَّه في عهد نبي الله إبراهيم لم يكن هناك دولة بالمعنى الحقيقي، وإنما
أصحاب ملك .
قد
بدأ النظام السياسي يستقر مع عهد نبي الله يوسف، وظهر الاستقرار لهذا النظام من
خلال التدرج في المناصب، فنجد منصب الملك، ومنصب العزيز الذي يقابل منصب الوزير.
إنَّ ذكر مفردات مثل
السجن يدل على شكل متطور جداً من أشكال
العقاب لمن يخرج عن الدستور العام للدولة، كذلك
أشار القرآن أن لهذه الدولة قانوناً ودستوراً تسيَّر به أمور الحياة؛ ولذلك
عندما عرض إخوة يوسف على يوسف أن يأخذ أحدهم بدلاً من الأخ الأصغر، تحجج نبي الله
يوسف بأنَّ هذا الفعل غير جائز، ولا يمكنه فعله في دستور الملك ( دين الملك):
)فَبَدَأَ
بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ
أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ
كِدْنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ
مَّن نَّشَاءُۗ وَفَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(
(سورة يوسف : الآية 76)
الشكل
المتطور للدولة ظهر جلياً عندما طلب يوسف عليه السلام بأن يكون على خزائن الأرض، أو ما نسميه نحن وزارة المالية، أو وزارة
التموين والإمداد.
بانتهاء
حقبة نبي الله يوسف دخلت المجتمعات مرحلة مستقرة نسبياً، وبدأ شكل الدولة في
الظهور بقوة، من خلال حقبة نبي الله موسى، ومواقفه المتعددة مع الحكَّام، الذين
تحولوا من ملوك إلى فراعنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق