الفصل الرابع عشر
"إمَّا مَنَّاً وإمَّا فداءً"
عدم
استيعاب مفهوم التطور, وخصوصاً على المستوى المعرفي عطَّل كثيراً من المفاهيم,
وصادر كثيراً من المعارف, وما ساعد على ذلك طبيعة بعض المجتمعات القبلية
الإقصائية, التي لا تعترف بالآخر من الأساس, فصاغت الدين على مقاييس معارفها,
وقلَّمت العلم حسب رؤيتها, وهذا الانغلاق الفكري وهذا الاحتكار المعرفي حَرَم
العالم من الاطلاع على هذا الكتاب العظيم, حتى أصبحت المحاولات التجديدية ومحاولات
الفهم المختلفة تقابل إما بالسخرية, أو بالاحتقار, أو بالتكفير.
ولله المثل الأعلى، ولكننا بهذا المثال نحاول
تقريب الصورة، وضرب الامثلة، وتجسيد
الفكرة؛ حتى يسهل فهمها وإدراك الصورة الكلية لعملية التطوير المعرفي والأخلاقي
للبشرية.
إنها عادات المجتمعات التي تربت على القهر والطاعة؛ فتجد صعوبة بالغة في الانفكاك
من هذه الدائرة والتفكير بحرية.
كيف
يُحرم الله الخمر في القرآن، ولم يُحرم استعباد الإنسان للإنسان، إلا إذا كانت
قيمة الإنسان وحريته لا تمثل قيمة كأس خمر في الإسلام ؟
سؤال
كهذا لا يمكن الإجابة عليه بشكل منطقي إلا من خلال فهم التطور المعرفي والأخلاقي للبشرية، والمسؤولية
التي أوكلها الله للإنسان، ومتطلبات الإعداد الجيد لهذا الإنسان؛ ليصبح مسؤولاً
ناضجاً يستطيع تحمل مسؤوليته تجاه الكون بكل اقتدار.
المدى الزمني الطويل نسبياً هو ركيزة أساسية من
ركائز التطور، سواء البيولوجي أو المعرفي، وتنزيل القرآن الكريم كان بمنزلة إعلان
أنَّ الإنسان أصبح مؤهلاً تماماً
للمسؤولية، وما عليه إلا استخدام قدراته العقلية والمنطقية في فهم وإدارة
هذه الحياة، مستعيناً بالنظريات المعرفية التي تضمنها هذا الكتاب العظيم.
وإذا
كانت الظروف وقت نزول القرآن لم تسعف الناس في فهم مضامين الحرية، بسبب إرث
قَبَليٍّ واجتماعيٍّ ثقيل؛ فما حجتها اليوم وقد وصلنا إلى درجة كبيرة من التطور المعرفي، وما زال التطور مستمراً و
مرشحاً للتضاعف باستمرار .
عدم
استيعاب مفهوم التطور، وخصوصاً على المستوى المعرفي عطَّل كثيراً من المفاهيم، وصادر
كثيراً من المعارف، وما ساعد على ذلك طبيعة بعض المجتمعات القبلية الإقصائية، التي
لا تعترف بالآخر من الأساس، فصاغت الدين على مقاييس معارفها، وقلَّمت العلم حسب
رؤيتها، وهذا الانغلاق الفكري وهذا الاحتكار المعرفي حَرَم العالم من الاطلاع على
هذا الكتاب العظيم، حتى أصبحت المحاولات التجديدية ومحاولات الفهم المختلفة تقابل
إما بالسخرية، أو بالاحتقار، أو بالتكفير.
من
أبرز الأمثلة على هذا التطور الأخلاقي، والذي
لم يتم استيعابه بالشكل الكامل، هو قضية التعامل مع أسرى الحروب؛ والتي كانت المصدر الرئيس للرق والعبودية في
ذلك العصر.
وعندما
يتعامل القرآن مع القضايا يتعامل مع القضايا من جذورها، ويعالج المرض ليس الأعراض
فحسب، وقضية الرِّق والعبودية هي قضية الظلم والجور، والاعتداء غير المبرر، والانتقام
والتشفي، فما إن يتم ضبط هذه الأمراض وتقنينها وعلاجها؛ إلا ويتم القضاء نهائياً
على ما يعرف بالرق والعبودية البشرية.
لقد
وضع القرآن حدوداً وتعاليمَ لرد الاعتداء ودفع الظلم، وكان واضحاً شديد الوضوح، ولكنَّ
الحاجة الاقتصادية والسياسية جعلت الدين ستاراً لجني مغانم اقتصادية ومكاسب سياسية
أكبر، بغض النظر عن الهدف الأسمى وهو نشر العدل، وإتاحة حرية الاختيار للناس.
لقد
كان أول مطلب لرسول الله من صناديد قريش هو أن يخلُّوا بينه وبين الناس، أي: لا
تحجروا على الناس في سماع وجهات النظر والأفكار الأخرى، ثم لكل إنسان الحق في
اختيار ما يريد، لكن تحوَّل هذا الحق وهذا التوجيه السامي إلى إمَّا التوحيد وإما
السيف.
لقد
وضع القرآن تشريعاً جديداً لم تعرف البشرية له مثيلاً، يختتم به حقبة التطور
الأخلاقي والمعرفي، من خلال الأمر المباشر في التعامل مع أسرى الحروب، فلو التزم
الناس بهذا التوجيه الإلهي لانتهت مسالة الرق من الوجود في غضون جيل أو جيلين على
الأكثر .
لنا في مسألة القرابين المثال الواضح؛ فالتدخل
الإلهي يقدِّم الأسس الرئيسة للبشرية، ويدع لهم تقبل الأمر وتنفيذه عن طريق
قدراتهم العقلية ومعارفهم.
إننا نتحدث عن تطور معرفي يحتاج لمدى زمني معقول؛ لكي يكتسب قدرةً وتحصيناً
تجعله قابلاً للتطبيق والتنفيذ، ودون فهم مفهوم التطور لا يمكن فهم لماذا تم علاج
مسألة الرق عن طريق اجتثاث جذورها، وليس عن طريق القطع المفاجئ.
صغير
الطائر يحتاج إلى وقت كاف ليكسر البيضة من الداخل ويتحرر، ويكتسب الحياة الجديدة، بينما
إن حاول أحدهم كسر البيضة من الخارج هلك الطائر؛ إنها سنة الحياة وقوانينها
الملتفة والمتشابكة والتي لا يمكن تفسير أحدها منفصلاً عن الآخر.
الناس ليسوا ملائكة ولم يُرِد لهم ربهم ذلك،
إنهم مكلفون ومسؤولون، يضع لهم ربهم الأطر العامة، وعليهم التصرف والسلوك السليم؛
وهكذا الطفل الصغير يعوِّده أبواه على
تحمل المسؤولية شيئاً فشيئاً، يخطئ ويصحح له أبواه، ويصيب فيحصل على المكافأة.
تدخل الأبوين في تقويم الصغير وإرشاده في سن
مبكرة لا شك أنه تدخل هام، ومع مرور الوقت يقلُّ هذا التدخل شيئاً فشيئاً حتى يشب
الفتى ويصبح ناضجاً، ويستطيع الاعتماد على نفسه واتخاذ قرارات سليمة، ولكن أحياناً
يترك الأبوان صغيرهم يعاني في حل مشكلة، ولا يقدمان له المساعدة، ليس بسبب هوانه عليهم؛ ولكن لكي يشتد ساعده
ويقوى.
إنَّ
كل تطور معرفي حرَّض عليه التشريع الإلهي لم يتقبله الناس بسهولة؛ فعندما توقف طقس
القربان، وانتهت النار التي تنزل من السماء تأكل القربان، اعترض الناس وصنعوا
نارهم وقدموا لها قرابين، وتطرَّفوا حتى قدموا القرابين البشرية، وعندما أعلن رب
العزة على يد نبيه إبراهيم انتهاء تقديم القرابين البشرية، ظلت
القرابين لفترة من الزمن موجودة ومقرَّرة. إنها الطبيعة البشرية التي لا
تستوعب الأمور بسهولة وييسر؛ ولكنها تحتاج لمدى زمني معقول حتى تنضج، وهكذا يتم
بذر بذور المعرفة، وما علينا إلا أن نرعاه بالعلم والمنطق؛ حتى تستوي حضارة تقود
البشرية.
الأمر
والتوجيه الإلهي الخاص بالقضاء على الرق والعبودية البشرية أُنزل في كتاب الله، وكان
توجيهاً شديد الوضوح، من خلال التعامل مع
المحاربين؛ وهم المصدر الرئيس بل الوحيد للرق العبودية.
لقد جاء التوجيه الإلهي من خلال أحد أمرين لا ثالث لهم، الأمر الأول: اطلاق
سراح الأسرى بعد انتهاء الحرب تفضلًا ورحمة؛ وهذا هو المن ، والأمر الثاني:
الفداء، أو ما يعرف بالمبادلة، سواء بالمال أو بأي شيء آخر.
)فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ
الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ
وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم
بِبَعْضٍۗ وَالَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ( (سورةمحمد : الآية 4).
هذا
التطور القيمي والأخلاقي العظيم والفريد تحول إلى مجرد شيء ثانوي؛ بسبب عدم
استيعاب هذا التشريع بشكل كامل، أو بسبب عوامل أخرى لم نستطع الوصول إليها، وبدلاً من تحكيم كتاب
الله حدث تداخل بين الواقع الاجتماعي وبين التشريع الإلهي، وتبعًا لذلك تحوَّل
التعامل مع الأسرى إلى حالة من خمس حالات من بينها القتل والاسترقاق.
الأمر المحير هو عدم اقتصار الأمر على الأسرى
المحاربين؛ بل تعدى ذلك ليشمل النساء والأطفال، وبدلاً من أن تنتهي مظاهر الرق
والعبودية في غضون سنوات معدودة؛ ازدهرت وأصبحت صناعة وموردًا اقتصاديًا بالغ
الأهمية.
فهل
ما حدث كان أمراً قرآنياً؟ً أم أنَّ المسألة هي عدم قدرة العقول البشرية على
استيعاب التطور القيمي والأخلاقي، الذي جاء به القرآن الكريم مقابل الواقع
الاجتماعي؟
للأسف
الشديد؛ إلى الأن لا يستطيع كثير من رجال الدين استيعاب هذه الحقيقة، ويصرون أن
مسألة السبي والرق من الشرع، وأن الشرع وضع حدوداً للتعامل مع عبودية البشر واستمرارها.
هذا الأمر على درجة عظيمة جدًا من الخطورة ولابد
من استجلاء الحقيقة؛ لما لها من نتائج وآثار طويلة الأجل على حاضر ومستقبل الأمة
الإسلامية، بل على نظرة الآخر أيضاً لهذا الشرع وهذا الكتاب العظيم .
عندما
يقول أحدهم فى أريحية وثقة يحسد عليها: (إنَّ الرِّق والسبي من الشرع، ومن الإسلام، ولكنِ الآن بسبب التقدم الأخلاقي لم يعد مقبولًا، لذلك لا يجب العمل به، ويجب تعطيله؛ لأن الزمان
تجاوزه). نقول نحن إنَّ قولاً كهذا لا
يصدر إلا من عقول لا تدري ما تقول، ولا تستطيع التفريق بين ما قال الله وما قال الناس،
والأفضل أن يصمت هؤلاء لا أن تنتفخ اوداجهم مدافعين عن تراث بشري ما أنزل الله به
من سلطان.
إنهم يقولون للعالم إنَّ الكتاب السماوي غير
صالح، وتخطاه الزمن ولا مانع من تعطيل بعضه إذا اقتضت الحاجة. فهل من يقول ذلك
يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويدرك حقيقةَ أنَّ هذا الكتاب إلهي، ويفهم معنى الخالق
وقدرته وعلمه المحيط ؟
لقد
جاء القرآن صراحة لاقتلاع جذور هذه العادة الاجتماعية، عندما أصدر تعليمه الحكيم في إطلاق سراح الأسري أو
المن عليهم، ولكن لو نظرت إلى الفقه ستجد الأمر يختلف تماماً ، وأحكام الأسري كما
جاءت في الفقه خمسة أحكام.
حكم
الأسرى في الإسلام:
1) ذهب
الحنفية إلى أن الإمام مخيَّر بين أمرين: إما القتل، وإما الاسترقاق فقط.
2) ذهب المالكية إلى أن الإمام مخيَّر بين أمور خمسة: القتل، أو
الفداء، أو الاسترقاق، أو الجزية، أو المن.
3) ذهب
الشافعي وأحمد إلى أن الإمامَ مخيَّرٌ بين أمور أربعة: إما القتل، وإما الاسترقاق،
وإما الفداء بمال أو أسرى، وإما المن.
4) ذهب
بعض التابعين كالحسن البصري وعطاء وغيرهم إلى أن الإمام مخيَّر بين المنِّ والفداء
ولا يجوز القتل.
كيف
صار الحكم الواضح في كتاب الله والذي لا لبس فيه من المن أو الفداء إلى القتل
والاسترقاق؟!
أدلة
من ر أي القتل هي:
قال
الله تعالى: )فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ( (سورة التوبة: الآية 5).
هذه
الآية الكريمة يطلق عليها الفقهاء آية السيف، رغم أن السيف لم يذكر ولا مرة في كتاب الله؛ إلا أن الناس تبرعوا وأطلقوا على
هذه الآية الكريمة آية السيف، وهذه الآية يقول عنها المفسرون إنها نسخت -أي أبطلت
عمل- حكم (124) آية في كتاب الله تحض على التسامح والعفو والتعايش.
رغم
موقفنا من مسألة النسخ الذي يَرفض تمامًا القول بأن هناك آية في كتاب الله تبطل
عمل أخرى؛ إلا أن هذه الآية لا يمكن أن
تُفهم إلا في سياقها، ومن خلال الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن قتال فئة من
المشركين اعتدوا وظاهروا على فئة مسالمة.
كثير
من العلماء المعاصرين تحدثوا عن فكرة الجهاد والقتال، وأنها لا يمكن أن تكون
ابتداء منا، ولكنها رد اعتداء، وعلى رأس هؤلاء الإمام محمد الغزالي في كتابه جهاد
الدعوة، حيث جاء ما نصه: «لكن ناساً من
المفسرين -عفا الله عنهم- لم يعيشوا في جو السورة، ولم يدركوا مواقع النزول، ولم
يربطوا الحكم بحكمته، وزعموا أن السورة ألغت كل ما سبقها من آيات الدعوة
والمسالمة، وأنها أحلَّت العنف مكان اللطف، والإكراه مكان الحرية، وبهذا القول
الجزاف نسخت مائة آية نزلت من قبل في أسلوب الدعوة».
بالنظر
إلى الآيات السابقة واللاحقة لهذه الآية نجد أن الآيات موجهة إلى مجموعة من
المشركين نقضوا العهد.
)بَرَاءَةٌ
مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُۚ فَإِن
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْۚ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ
عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِۖ فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا
يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةًۚ
يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
(8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ
سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا
ذِمَّةًۚ
وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِۙ إِنَّهُمْ
لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا
نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْۚ فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (13)( (سورة التوبة: الآيات 1-13 (
الآيات
الكريمة بمنزلة إعلان حرب على من نقض العهد، وتستثني الذين لم ينقضوا العهد؛ كما
جاء في الآية الرابعة، وبغض النظر عن آراء المفسرين حول هذه الآية؛ ففي كل الحالات
هذه الآيات تتحدث عن حالة حرب ولا علاقة لها بالأسرى، ولا يمكن الاستدلال بهذه
الآية الكريمة على قتل الأسرى.
كذلك
الآيات الأخرى التي استدل بها المفسرون
على قتل الأسرى كلها تتحدث عن حالة حرب قائمة، والله فصَّل حكم الأسرى بعد أن تضع
الحرب أوزارها:
)إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(
(سورة الأنفال: الآية 12).
أما
الدليل على الاسترقاق، فلا يوجد آية واحدة في كتاب الله تشير إلى ذلك من قريب ولا
من بعيد، وجُلُّ كلام الفقهاء هو أدلة من التراث، فرضها الواقع الاجتماعي والواقع
السياسي.
أسهب
الفقهاء في بيان جهل من يرفض الاسترقاق في الإسلام، ويعتقدون أن من يرفض الاسترقاق
إنما يرفض ركناً أصيلاً من أركان الإسلام، ويتساءلون بكل ثقة: لماذا استَرقَّ
الصحابة في صدر الإسلام إن كان الاسترقاق حراماً وليس له أصل في كتاب الله؟
الإجابة
بكل بساطة هي التطور المعرفي! القرآن لم ينزل لأصحاب الرسول، وإنما للعالمين، وأصحاب
الرسول وأتباعه هم حلقة من ضمن حلقات البشرية؛ فإن كان الجيل الأول لم يستوعب هذا
التطور المعرفي وتفاعل مع القرآن الكريم بحكم المعارف المتاحة، فلا يمكن أن ينسحب
هذا التفاعل على باقي البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
القرآن
جاء هاديًا ومرشدًا للبشرية في كل حالاتها، ولا يمكن لمجموعة من البشر أن تحتكر
هذا الكتاب وتصدر الحكم باسمه فتكفِّر من تشاء، وتجعل الرجز على من تشاء، وتصطفي من تشاء.
لماذا
يصر أولئك كل هذا الإصرار على أن نظام الرق من الإسلام، مع أن القرآن حدد التعامل
مع الأسرى بكل وضوح؛ فهؤلاء ثقتهم في كبرائهم أكبر من ثقتهم في كتاب الله.
ªكلمة ندين
بها لله:
إنّ الرق لا يمت لكتاب الله بصلة وهو نظام اجتماعي سيطر على عقول الناس، ولم
يستطيعوا الفكاك منه، ولن يستطيعوا التبرؤ منه بسهولة.
رغم
الآية الكريمة في سورة محمد التي أقرت
مبدأ التعامل مع الأسرى؛ وهم المحاربون، إلا أن التراث وضع شرعاً ما أنزل الله به
من سلطان، وهو سبي النساء واسترقاق الأطفال.
بحكم
الآية الكريمة، وبحكم الآيات العظيمة في كتاب الله لا يمكن التعرض للرجال غير
المحاربين في حالة الحرب، فكيف وصل الأمر إلى سبي النساء غير المحاربات والأطفال
الذين لا يملكون حولاً ولا قوة؟ .ثم يصرخ شيوخ التراث إن من يقول خلاف ذلك عدو لله
ولرسوله، وهو مطية أعداء الله.
كل هذه الأمور يُسأل عنها أصحابها، ويُسأل عنها
من فسرها وأوَّلها، وسمح بها، ومن سهلها، لكن حسبنا كتاب الله واليقين الذي نحن
عليه؛ من أنَّ كل ما جاء خلافاً لكتاب الله في مسألة الأسرى هو اجتهادات شخصية
لرجال لا تلزمنا ولا نُسأل عنها أمام الله، فلهم أعمالهم ولنا أعمالنا.
لو
تم تطبيق هذه الآية الكريمة منذ نزلت، هل
كان هناك مكان للرق في الأمة الإسلامية؟
وكيف كانت لتكون نظرة الأمم السابقة لهذا الشرع وهذا التنزيل؟.
أمر
مخجل أن يكون لدينا كتاب الله زاخراً بكل هذا الكم من المعارف والرقي، ثم ننتظر
إعلان تحرير العبيد من الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن عام 1863م، فتتبعه البشرية أمة تلو أمة، أما الأمة التي شرفها الله بالقرآن ولكنها لا تفقه
هذا الكتاب العظيم ظلَّت تستميت في الإبقاء على نظام الرق بحجة أنه من الشرع، ولما
أصبح العالم أكثر تحضراً ورقياً تبعه العالم الإسلامي في إعلان إلغاء الرق، في
أواسط القرن التاسع عشر تقريباً.
✦بعد أن فهمنا
مفهوم العبد ومفهوم الأمة وفك رقبة، وكيف أنَّ تلك المفاهيم لا تمت للرق أو
لاستعباد الإنسان بصلة، ثم وضَّحنا هنا كيف قطع القرآن الكريم جذر استعباد الإنسان
للإنسان، نكون بذلك قد وصلنا لنهاية هذا الفصل، ونأمل أنْ يمنحنا الله الوقت لبحث
مسألة ملك اليمين من كافة جوانبها، والتي لا علاقة لها بالرق والاستعباد أيضاً.
مسألة
ملك اليمين مسألة طويلة جداً، وتحتاج لبيان جميع الآيات التي ذكر فيها لفظ ملك، ولفظ
اليمين، وكذلك التعبير القرآني ملك اليمين كوحدة واحدة، ولا يتسع هذا الجزء لبحث
كهذا، وربما خصصنا له جزءاً خاصاً أو باباً في كتاب قادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق