Translate

الفصل الثالث عشر - "لكم في القصاص"

الفصل الثالث عشر

"لكم في القصاص"


القصاص بمعنى تتبع الجريمة ومعرفة أسبابها ودوافعها متوافق تماماً مع التطور المعرفي والأخلاقي للبشرية, ولا يمكن النظر لجريمة عظيمة كالقتل دون فهم الحالة العامة التي أدت لهذه الجريمة.

 
مناقشة موضوع الحرية وتقرير كتاب الله لها ليس بالموضوع السهل أبداً؛ بسبب التراث "الإسلامي" المختلط بالمنهج الرباني، والعادات الاجتماعية، وتداخلها مع الشرع الإلهي. وبسبب عدم إدراك مفهوم التطور المعرفي البشري أصبحت عادات اجتماعية غاية في البدائية  من المسلَّمات الشرعية؛ بسبب غياب المنهج العلمي السليم في فهم اللفظ القرآني.

ألفاظ مثل: العبد، والأمة (الجارية بالمفهوم البشري)، وفك رقبة، وملك اليمين، سوف تواجهك عندما تحاول تتُّبع المفهوم الناضج للحرية في كتاب الله.

 عندما نعتبر لسان العرب هو المرجع في فهم هذه المسميات؛ فعليك أن تنسى تماماً مفهوم الحرية وقيمتها العليا في كتاب الله؛ فكلما حاولت الوصول لمفهوم الحرية من خلال كتاب الله هاجمتك تلك الألفاظ بكل شراسة، لتجد نفسك أمام تعريفات تفيض، ومدلول كلمات تخالف مفهوم الحرية تماماً.

 مفهوم العبد والعبودية -الذي أفردنا له الفصل السابق- هو أحد هذه المفاهيم التي أزكت الاتجاه القائل بأنَّ التشريع الإسلامي غير معنيٍّ بالحرية ومفهومها.

 على الجانب الآخر  لو حاولنا فهم ألفاظ كتاب الله، وجعلنا  مفردات الكتاب هي المقياس، من خلال القاعدة القرآنية التي تنص على  أن ألفاظ القرآن الكريم جاءت بلسان عربي، وليست بلسان العرب؛ سنجد حلاً لكل المشكلات، وفهماً أكثر مما نتخيل أو نتوقع.

ومن دون المنهج العلمي الذي نشير إليه دائماً لا يمكن فهم حالة الألفاظ، وسوف نظل هكذا ندور في حلقة مفرغة، ويصبح موقف الإسلام من الحرية موقفاً خطابياً، يقوم على الشعارات التي تفتقد المنطق والعقل، ولا يمكن مواجهة أجيال حالية أو قادمة بخطابات رنانة فارغة المحتوى، لا تقوم على شيء سوى حناجر أصحابها، ولا يسمعها أو يستمع إليه أحد.

مفهوم الحرية في كتاب الله يمرُّ من خلال فهم آية القصاص، والتي بدورها تشير إلى لمحة تطورية غاية في الأهمية في حياة البشرية، ولكن بسبب تأثير الكتب السابقة والموروث القبلي وخصوصاً في مجال الثأر؛ اختفى هذا الملمح المهمّ، وصار القصاص يعني القتل ولا شيء آخر، وأصبحت كل الأحكام الخاصة بالقتل العمد إن لم تنتهي بقتل الفاعل كأنها تخالف الشرع، وليست حكمًا مما أنزل الله.

بعد إلقاء الضوء على مفهوم العبد في القرآن؛ وهو المسؤول أو الذي يتلقى تكليفات، سنحاول في الأسطر القليلة القادمة فهم مدلول كلمة [القصاص] وكذلك مفهوم كلمة [أمة] (التي يفهمها المفسرون على أنها جارية مملوكة).

-مدلول كلمة القصاص:

جذر كلمة [القصاص] هي قص، وقد ورد هذا اللفظ أو أحد مشتقاته خمساً وعشرين مرة في كتاب الله، كالتالي:

)إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ( (سورة آل عمران : الآية 62(

)وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ( (سورة الأعراف: الآية 176).

)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ( (سورة يوسف: الآية 3).

)فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ( (سورة القصص: الآية 25).

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى( (سورة البقرة: الآية 178).

)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( (سورة البقرة: الآية 179).

)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ( (سورة البقرة: الآية 194).

)وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ( (سورة النساء: الآية 164).

)وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ( (سورة المائدة: الآية45).

)إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ( (سورة الأنعام: الآية 57).

)أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي( (سورة الأنعام: الآية 130).

)فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( (سورة  الأعراف: الآية 7).

)إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي( (سورة  الأعراف: الآية 35).

)تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا( (سورة الأعراف: الآية 101).

)ذٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ( (سورة هود: الآية 100).

)وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ( (سورة هود: 120).

)قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ( (سورة يوسف: الآية 5)

)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ( (سورة يوسف : الآية 111).

)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ( (سورة النحل: الآية 118).

)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ( (سورة الكهف: الآية 13).

)قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا( (سورة الكهف : الآية 64).

جذر كلمة [قص] في اللغة تعني تتبع الشيء، ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله نجد أن مدلول الكلمة متوافق تماماً مع جذر الكلمة.

 قصُّ القصص هو تتبع أحداثها، وقصُّ الأثر هو تتبعه؛ كما جاء في قصة فتى نبي الله موسى، الذي فقد الحوت وارتد على آثارهما قصصاً؛ أي: متتبعًا الأثر، حتى يستدل على مكان فقد الحوت.

من هنا نجد أن القصاص  يعني تتبع الجريمةِ النكراء، جريمةِ القتل، ولا ندعها تفلت دون معرفة تفاصيلها، و أي عقاب تستحق.

وفي لفته سريعة، سوف نحاول فهم الفرق بين الفعل [قص]، والفعل [يقصص] الذي  تم فك تضعيفه، ونفهم المدلول الصوتي لهذا الفعل، إذ إنَّ التعبير القرآني له دلالته ولا يمكن فهم لفظ في كتاب الله بشكل منفرد؛ ولكن يتم فهمه من خلال التعبير بشكل كامل، ودلالة هذا التعبير. 

جاء فعل قصَّ يعني تتبع الأحداث والأخبار بشكل عام، دون تفاصيل كثيرة، مثل أنباء القرى:

)تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا( (سورة الأعراف: الآية 101).

حرف الصاد مشدد ولم يتم فك تضعيفه، بالرغم من أن تعبير نقصص صحيح أيضًا.

)ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ( (سورة هود: الآية 100).

وجاء أيضاً فعل [قصَّ] عندما أخبر ربنا نبيّه أنه يقصُّ من أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده، وذلك يعني اختيار بعض الأخبار والتي تثبِّت الفؤاد، وليس كل شيء أو الأخبار بالتفصيل.

)وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ( (سورة هود: 120).

مدلول كلمة قص واضح لا لبس فيه، عندما أخبر ربنا قصة الفتية أصحاب الكهف

)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ( (سورة الكهف: الآية 13).

فكما هو معلوم أن قصة أصحاب الكهف لم يقصها ربنا بالتفصيل، بدليل إخفاء عددهم، وأمْره سبحانه تعالى ألا يَستفتي فيهم أحد:

)سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا( (سورةالكهف : الآية 22).

على الجانب الآخر نجد أن الفعل [يقصص أو نقصص] بفك التضعيف يدل على تتبع الأخبار والأحداث بشيء من التفصيل، ومثال ذلك الرؤيا التي رآها نبى الله يوسف، وكيف أنَّ أباه نهاه أنْ يقصص الرؤيا على إخوته، والمعروف أنَّ الرؤيا كانت مفصلة، فجاء النهي بصيغة يقصص؛ أي: لا يفصِّل لهم،  ولا يخبرهم بتفاصيل هذه الرؤيا:

)قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ( (سورة يوسف: الآية 5).

بالرغم من صحة الفعل [تقص] ولكن ورد الفعل هنا بفك التضعيف، وجاء في صورة تقصص.

كذلك الفعل [قصص] في سورة النحل، عندما أشار ربنا إلى المحرمات التي حرمها على بني إسرائيل، فاستخدم فعل قصص؛ ليشير إلى تفصيل تلك المحرمات، وهو ما جاء بالفعل مفصلاً في القرآن الكريم.

)وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ( (سورة النحل: الآية 118).

يبدو أن زيادة صوت حرف الصاد  قد أعطى دلالة و بعداً آخر، بحيث أصبح معناها أكثر عمقًا، وأصبحت الكلمة تحمل تفاصيل أكثر.

بالقياس نجد أنَّ مفهوم القصاص يعني تتبع الجريمة بكل تفاصيلها ومن كل جوانبها، وليس مجرد تتبع الخطوط العامة للجريمة؛ فهذا التفصيل يستلزم -لا شك- اختلاف العقاب، وهذا ما بيَّنه ربنا في بقية الآية الكريمة التي تتحدث عن القصاص، والتي ذكر فيها العبد والحر والأنثى، ولكن قبل هذا التفصيل دعونا نتتبع لفظ [القصاص] نفسه في كتاب الله، والذي جاء في أربعة مواضع.:

)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( (سورة البقرة: الآية 179).

إذا كان القصاص معناه القتل، فكيف يكون في القصاص حياة؟ يقول المفسرون في هذا المعنى إنَّ القصاص بمعنى القتل يحمل في طياته الحياة؛ إذ عندما يرى الظالم القصاص أمامه يرتدع ولا يفكر في  القتل، وبذلك يصون الحياة ولا ينتهكها.

 وهذه مجمل الأقوال التي جاءت عن هذه الآية الكريمة كما ذكرها الطبري:

«القول في تأويل قوله تعالى :)وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ(:

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ(، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة.

عن مجاهد في قوله: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ( قال، نكالٌ، تَناهٍ. عن سعيد، عن قتادة: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ(، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالاً وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض. قال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر، وبالعبد الحرّ. عن السدي: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ(, يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.» انتهي التفسير

لو كان التعبير القرآني ذكر على سبيل المثال: لكم في  قتل المعتدي، أو لكم في قتل من قتل النفس بغير الحق حياة، ربما كان التفسير مقبولاً ولا شيء عليه، ولو أن التعبير القرآني استخدم لفظ [عظة أو موعظة أو عبرة] بديلًا عن لفظ الحياة لكان دليلاً آخر على قبول التفسير،  وخصوصاً أن كلمات مثل عظة وعبرة كلمات قرآنية، أما وأنه جُمع القصاص بالحياة، فإن التفسير الذي أُرجِّحه بشدة هو أن تَتبُّع الجريمة وتفاصيلها قد يهب الحياة للقاتل، إذا عرفت الدوافع والملابسات التي تحيط بالجريمة، وليس مجرد حكمٍ صلبٍ لا مرونة فيه، كما يحلو لكثير من الفقهاء وتفسيره، وهو من قتل يُقتل، دون أيِّ حساب للتفاصيل و الدوافع والملابسات، فإذا أخذنا بالمعنى الذي ذكرته قبلاً وأُرجِّحه يكون  القصاص هو ما  أسَّس للحياة،  ويحمل في طياته الحياة حرفيًا، سواء للقاتل نفسه أو للمجتمع بصفة عامة.

القصاص بمعنى تتبع الجريمة ومعرفة أسبابها ودوافعها متوافق تماماً مع التطور المعرفي والأخلاقي للبشرية، ولا يمكن النظر لجريمة عظيمة كالقتل دون فهم الحالة العامة التي أدت لهذه الجريمة.

المثال الأشهر والذي يمكننا من خلاله فهم كيف يحمل القصاص الحياة داخله هو مثال قتل الزوجة زوجها وهو متلبس في حالة الزنا، إذ يُفتى الفقهاء في ذلك أنَّ المرأة تُقتل قصاصًا إذا قتلت زوجها وهو في هذه الحالة، بينما الحالة نفسها لا تنطبق على الزوج إذا قتل زوجته إذا رآها تزني، وهذا -لا شك- لا يمت لمدلول القصاص بشيء، لذا جاء لفظ [القصاص] لمثل هذه الحالات، إذ أرشد الله سبحانه وتعالى إلى تَتبُّع الجريمة ومعرفة كل دوافعها، ومن ثم تحديد العقاب الأمثل. 

قتل النفس بالنفس دون الأخذ في الاعتبار الدوافع والملابسات يبدو أنه كان في الشرائع السابقة، وهذا الفعل هو ما نسخه الله في الشريعة الحالية من خلال تخفيف الحكم، وجعله مرتبطًا بالقصاص كما في الآية التالية: 

)وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( (سورة المائدة: الآية 45(

من أغرب ما قرأت في تفسير هذه الآية الكريمة هو أن هذه الآية نسخت آية كتب عليكم القصاص في القتلى، وعلى هذا الأساس جُعل القصاص مرادفاً للقتل.

ولكن القارئ لكتاب الله يعرف أن الآية التي نحن بصددها تتحدث عن حكم التوراة السابق للقرآن، كما هو واضح من الآية السابقة لهذه الآية الكريمة:

)إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚيَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًاۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( (سورة المائدة: الآية 44).

- وقفة مع مسألة النسخ:

لم يتأثر تفسير كتاب الله بشكل سلبي أكثر مما تأثر بمسألة النسخ، التي يدعيها  كثير من رجال الدين، لقد أخذ النسخ مكانة مرموقة في التراث الإسلامي؛ مما عطَّل فهم آيات كتاب الله بشكل لا مثيل له، بل إنَّ بعض رجال الدين لديهم إصرار عجيب على أن من لا يحمل علم الناسخ والمنسوخ لا يجوز له تفسير كتاب الله، وقد ذهب بعضهم إلى أن قول الرسول يمكن أن ينسخ آيات في كتاب الله، ولعمري إنَّ هذا هو الشرك العظيم؛ إذ جعلوا من رسول الله شريكاً لله، بل في درجة أعلى؛ بحيث  تنسخ أقواله أقوال الله، وبالطبع سوف تجد تبريرات لا تنتهي في مسألة النسخ هذه، ولا نملك لمن يُصرُّ على ذلك شيئاً، والله يحكم بين العباد. 

لدينا يقين أن النسخ بمعنى أنَّ آية قرآنية تبطل عمل آية أخرى لا يجوز في كتاب الله، وإنما النسخ يعني أنَّ أحكاماً وآيات كريمة في هذه الشريعة تبطل أو تُخفف أو تُفصل أحكامًا وآيات في شرائع سابقة.

الآيات التي يُستدل بها على النسخ في كتاب الله لا تتحدث مطلقاً عن آيات القرآن الكريم؛ وإنما تتحدث عن أنَّ القرآن هو من ينسخ الشرائع السابقة، ولكن –للأسف- كلما استعصت آية على الفهم تعجَّل المفسر وقال بنسخها، ولو تريَّث قليلًا لربما وجد تأويلها دون القول على كتاب الله ما لا يليق.

)مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (سورة البقرة: الآية 106).

هذه الآية الكريمة جاءت رداً على المشركين وأهل الكتاب الذي يشككون في الآيات القرآنية؛ بأنها مختلفة عما كانت عليه  التشريعات السابقة في كتبهم، وليست وصفاً لآيات القرآن  نفسه من قريب أو من بعيد؛ كما هو واضح من الآيات السابقة لهذه الآية الكريمة:

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)( (سورةالبقرة: الآيات 104، 105).

وكذلك الآية الكريمة الثانية التي يستدل بها أصحاب النسخ، تتحدث عن المشركين بالقرآن؛ أي: من يجعلون مع القرآن مصادر أخرى، فالمشرك هنا لديه مرجع آخر، وليكن كتباً سابقة، فمن الطبيعي أن يتساءل لماذا الآيات مختلفة عن بعضها البعض إذا كانت من نفس المصدر؟.

مثال ذلك: آية النفس بالنفس التي قال عنها ربنا إنه أنزلها في التوراة، جاء بدلاً منها آية القصاص في القرآن الكريم، وفي هذه الحالة حدث نسخ آية النفس بالنفس الموجودة في التوراة بآية القصاص في كتاب الله، وهذا الأمر طبيعي جداً في ظل التطور المعرفي للبشرية؛ فالشرائع السابقة كانت تراعي حاجة البشرية في وقت معين، فإذا جاءت شريعة خاتمة فمعنى ذلك توقف عملية النسخ بين الشرائع، وأن الشريعة الحالية تحمل حلولاً ومعارف لكل ما هو قادم. 

المشرك الذي يستخدم مصدرين وليس مصدراً واحداً لن يقتنع بذلك، وسوف يتساءل: لماذا بدَّل الله هذه الآية؟ ولماذا نسخ هذه الآية؟ إذ إنها ليست الآية نفسها في المصدرين.

)وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( (سورةالنحل : الآية 101).

وهذه الآية الكريمة تبينها وتوضحها الآيات السابقة لها:

)فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)( (سورة النحل: الآيات 98-100).

المشرك الذي يتلقى العلم من مصادر مختلفة غير القرآن هو من يتساءل ويشكك في الآيات والأحكام؛ بحجة أنها في مصادر أخرى أو في شرائع سابقة مختلفة عن هذه الشريعة، وقد أرشد ربنا عباده أن عملية النسخ التي يتحدث عنها القرآن إنما تتحدث عن نسخ القرآن لما سواه، وهذا النسخ إنما يدور في فلك التطور المعرفي والأخلاقي للبشرية، والتي أصبحت ناضجة بقدر كافٍ مع نزول القرآن. 

فأيُّ عقل يقبل أن تُبطل آية في كتاب الله عمل آية أخرى في الكتاب  نفسه؟ وكيف يستقيم هذا المفهوم مع كتاب الله الموصوف بالتبيان والإحكام؟ وكيف ينزِّل ربنا كتاباً محكمًا وتفصيلًا لكل شيء ثم يجعل فيه آيات لا تعمل، ولا يذكرها صراحة، ويتركها هكذا يتأرجح بينها الناس؟ هذا لا يجوز على  الكتب البشرية فكيف –بالله- قبلته العقول على كتاب الله؟ هل يُعقل أنَّ طالباً يدرس الدستور على سبيل المثال، ثم يقول له الأستاذ إنَّ في هذا الدستور قوانينَ تُبطل عمل قوانين أخرى، ولكن لن اخبرك بها، وسأدعها هكذا لكلِّ مفسِّر حسب معارفه!

الجدير بالذكر أنه لا توجد آية أجمع عليها العلماء أنها منسوخة بمفهومهم التقليدي، وما ذكره بعضهم أنه منسوخ، قال آخرون عنه إنه غير منسوخ، ويبدو أنَّ الأمر لا يتعدى كونه محاولة للتغلب على عدم فهم آية، أو عدم القدرة على التوفيق بين آية وأخرى، فالقول بالنسخ أسهل من أن يتركها هكذا دون تآويل.

- يصل عدد الآيات المنسوخة لدى بعضهم إلي بضع مئات، بينما عند آخر لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ويكفي أن أُفرد لك ما قاله الدكتور عبد الله الشنقيطي عن عدد الآيات المنسوخة عند الباحثين،  لتعلم أنَّ مسألة النسخ مسألة غير مجمع عليها، وأنها تعتمد بشكل أساسي على قدرة الباحث أو رجل الدين على فهم آيات الله : 

0.  الدكتور مصطفى زيد ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (293) آية.

1. ابن الجوزي رحمه الله ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (247) آية.

2. السكري ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (218) آية.

3. ابن حزم ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (214) آية.

4. ابن سلامة ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (213) آية.

5. الأجهوري ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (213) آية.

6. ابن بركات ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (210) آية.

7. مكي بن أبي طالب ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (200) آية.

8. النحاس ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (134) آية.

9. عبدالقاهر ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (66) آية.

10. محمد عبدالعظيم الزرقاني، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (22) آية.

11. السيوطي ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (20) آية.

12. الدهلوي ، عدد الآيات المدعى عليها النسخ (5) آية.

بحث مسألة الناسخ والمنسوخ يطول جدًا، ويلزمه التعريج على كل الآيات المدعى عليها بالنسخ، وبيان أقوال العلماء حولها، وكذلك وجهات النظر المغايرة، ولا يتسع المجال هنا  لعمل بحث متكامل عن مسألة النسخ، وربما في قادم الأيام نفسح لهذا البحث كتاباً كاملاً.

ما يمكننا قوله إنّ صعوبة فهم آية معينة في كتاب الله، أو عدم توافقها مع آية أخرى ليس معناه أن أحد الآيتين أبطلت حكم الآخرى، ولكن يعني أننا غير قادرين على استيعاب وفهم الآيات في سياقها، وربما يأتي من يستطيع تأويل الآية بدون القول بالنسخ على كتاب الله نفسه.

وقول المفسرين إن آية القصاص منسوخة بآية النفس بالنفس هو قول مقلوب وغير موفَّق على الإطلاق.

)وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( (سورةالمائدة: الآية 45).

هذه الآية الكريمة تتحدث عن حكم نزل في التوراة بدلالة الآية التي تسبقها:

)إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚوَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( (سورةالمائدة: الآية 44).

الحكم كان في التوراة النفس بالنفس، ولم يكن القصاص إلا في الجروح؛ فتحول الحكم في القرآن إلى القصاص في القتل، كما وضحت آية القصاص، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه أنَّ القرآن نسخ الشرائع السابقة، أمَّا القول إنَّ آية التوراة نسخت الآية في القرآن فهو قول غريب، يخالف كلام رب العالمين.

إنه الإعلان الإلهي بأن يتولى الإنسان مسؤولية هذا الحكم، والله سبحانه وتعالى يعلم أن لدى الإنسان من المقومات ما يؤهِّله لذلك، وعندما نُقرُّ بما قال الله سبحانه وتعالى؛ وهو القصاص بمفهومه ومدلوله القرآني، وليس القتل كما جاء في التوراة، فليس معنى ذلك أنْ نقول إنَّ من قتل لا يُقتل، أو لا يتعرض للمساءلة، كما يحلو للمتعجلين فهم الأمر.

 القول بالقصاص يعني أنَّ حكم الله في جرائم القتل يتراوح ما بين القتل بوصفه العقوبة القصوى، والعفو فلا عقوبة، وبينهما مدىً متسعٌ من العقوبات؛ حسب الدوافع والملابسات لكل جريمة على حدة، ولا يمكن أن يكون تعريف القصاص هو القتل؛ وإنما تَتبُّع الحالة، والقياس الصحيح، وتقدير العقوبة حسب كل حالة كما الآية التالية:

)الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ( (سورة البقرة: الآية 194).

)الحرمات قصاص( أي: إعطاء الإنسان مسؤولية التقييم والتقدير والعقاب، وليس معناه القتل أو حتى إنزال العقوبة نفسها بالمتسبب، فكيف يمكن أن نعاقب كل من أخطأ بالعقوبة نفسها؟ على سبيل المثال قتل طير في الحرم، أو أي فعل محرم آخر، الأمر ببساطةٍ أنَّ الحرمات تخضع لعملية الفحص والتقييم، ثم العقوبة، وكذلك القتل الذي قال عنه ربنا كتب عليكم القصاص في القتلى.

محاولة فهم ألفاظ  [العبد والحر والأنثى] في آية القصاص سوف يزيل كثيراً من الالتباس ويكشف حالات القتل، وكيف يمكن أن يكون العقاب من اختصاص المجتمعات التي تقوم على القسط، مع الاسترشاد بالأمر الإلهي في حدوده القصوى وهو القتل بالمثل، وحدوده الدنيا وهو العفو، كما سوف نرى.

قبل التطرق لموضوع [الحر والعبد والأنثى] يجب أن نشير إلى أنَّ ربنا يذكر في آية القصاص أنها تخفيف من ربكم، فكيف يكون القصاص تخفيفاً إلا إذا كان هناك حكمٌ ثقيلٌ، وهو ما أشرنا إليه في التوراة أنَّ النفس بالنفس، فجاءت آية القصاص تخفيفاً؛ وأُعطي الإنسان مسؤولية في الفحص و التقدير والتقييم.

ربما مع تطور البشرية تصبح الحاجة لإلغاء عقوبة الإعدام مطلباً، أو الإبقاء عليها في أضيق الحدود، فلا يكون لدينا حرج من ذلك في ظل فهم آية القصاص، وفهم مدلول الحالات الثلاث التي وردت في هذه الآية وهي [الحر والعبد والأنثى]:

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثى بِالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (سورة البقرة : الآية 178)

من هو الحر؟ ومن هو العبد؟ وما المقصود بالأنثى؟

لو أنَّ المقصود -كما قال المفسرون- بالعبد هو العبد المملوك، وأن الحر هو الإنسان الحر، وأن الأنثى هو مقابل الذكر؛ إذن أين عقوبة الجارية في هذه الآية الكريمة؟

إن كان يجري على الجارية ما يجري على الأنثى فلماذا التفصيل في الذكر بين العبد والحر، ولا يوجد تفصيل بين الأنثى الحرة والأنثى غير الحرة؟ 

أتعتقد أنك بذلك قد أقمت البيِّنة، أو قدَّمت دليلاً منطقيَّاً بتساؤل كهذا؟ كلا، فعند من لا يرغب في سماع صوتٍ غير صوته تكون الإجابة حاضرة بالقول إنَّ الله يفعل ما يشاء، وما هذا الحكم إلا لحكمة يعلمها الله.

ببساطة شديدة، إذا كانت إجابتك عن سؤال كهذا بإجابة كهذه: (الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد) فأنت غير مؤهل للنقاش حول هذه المسألة بالأساس، فالناس ليسوا سواء، فمنهم من يبحث ويظل يبحث خلف المعاني، محاولاً السباحة والتسبيح في ملكوت الله، سواء الكوني أو اللفظي، ومنهم من يخشي ويتخوف ويضطرب بمجرد ذكر شيء يخالف اعتقاده.

وهذان النمطان من الناس مختلفان كل الاختلاف، والنقاش بينهم مضيعة للوقت؛ لأن الاساس الذي ينطلق كلٌّ منهما منه مختلف تماماً؛ فبينما ينطلق الفريق الأول من قول الله تعالى )وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ( (سورة القمر: آية 22)، ويستند إلى تكرار قول الله يعقلون ويعلمون في كتابه؛ نجد الطرف الثاني يرتكن إلى قول الله تعالى )قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)( (آل عمران: آية 84 )، ليس معنى ذلك أن أياً من النمطين مخطئ، ولكن كل ما هنالك أنَّ اجتماع النمطين في نقاش مسألة علمية هو أمر أشبه بحوار اثنين كلٌّ منهما يتحدث بلغة مختلفة تماماً، وليس هناك أمل للتواصل أو التفاهم، على الأقل في الوقت الحالي.

في الآية الكريمة التي بين أيدينا لفظ صريح [للعبد] ولفظ صريح [للحر]، مما يدعم فرضية التقليدين؛ بأن القرآن أشار للرق دون اتخاذ قرار حاسم بشأنه، وأنَّ الرق من تشريعات الإسلام، وفي الفصل السابق كنا قد أسهبنا في تحليل لفظ [العبد والعبودية] وقلنا إن مفهوم العبد يعني المسؤول أو المكلف،  وليس  الشخص الذي يُشترى ويُباع.

لفظ [العبد] يصف حالة شخص لديه مسؤوليات وتكليفات، ومرتبطة بشكل ما بالموضوع الذي تدور حوله الآية، وهو القتل، بينما لفظ [حر] ولفظ [أنثى] أيضًا يصف حالات معينة مرتبطة بجريمة القتل وظروفها، وليست وصفاً لجنس معين، كما هو الحال في الكلمات القرآنية.

كيف يكون المقصود بالعبد هو الشخص المسؤول، والذي لديه تكليفات معينة خاصة بالقتل؟

حتى نفهم هذه الجزئية يلزمنا ضرب مثال من الحياة، ولن نجد مثالاً أكثر وضوحاً من

مثال رجل  الشرطة:

القتل هو أحد الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها رجل الشرطة عند ممارسة عمله، وحسب التكليفات الملقاة على عاتقه؛ فإن رجل الشرطة مخوَّل بالتعامل مع الموقف بما يراه مناسباً، ومن ضمن حدود التعامل القتل إن لزم الأمر.,في حالة تصدِّيه للجريمة، أو في حالة اعتداء معين.

الآية الكريمة تشير إلى أن موضوع القتل حتى وإن تم عن طريق المسؤول الذي من ضمن واجباته القتل في حالات معينة؛ فلابد أنْ يخضع للقصاص بمعنى التقصِّي والتَّتبع للوقوف على أسباب ودوافع القتل، وكل ما يتعلق بهذا الفعل، حتى لا يستغل أحد كائناً من كان سلطاته، ويتخذ التكليفات الملقاة على عاتقة ذريعة في قتل من لا يجب قتله، أو في ظلم بريء.

القصاص في هذه الحالة  إما أن  يبرِّئ المسؤول  ويؤكد حقه في استخدم القوة، أو يثبت أنه  أساء استخدام القوة، وعندها لابد من أن ينال عقوبة  يتم تحديدها عن طريق السلطة (الإنسان) حدِّها الأقصى القتل بالمثل. 

بعد بيان [العبد] والحالة التي يصفها لابد أن نفهم الحالة التي يصفها لفظ [الحر]،  ولماذا لم يُذكر لفظ الحرية في القرآن الكريم  تعبيراً عن حرية الإنسان؟

مدلول  كلمة [حر] فيه التباس شديد، وفي قاموس اللغة عند ابن فارس عُرف جذر الكلمة على أن له أصلان؛ الأول: خالٍ من النقص والعيوب، وهو ما خالف العبودية، والثاني: نقيض البرد، وفي هذه الحالة من الأفضل الاسترشاد بالمعنى الفيزيائي للكلمة، ومن ثم محاولة فهم مدلول الكلمة في القرآن.

كلمة [حَر] الحاء والراء بفتح الراء تصف المعنى المعاصر للحرارة، ومن خلال كتاب الله نجد مدلول الحر هو المشتق من الحرارة، أو هو انبعاث الطاقة، كما وصف ربنا نار جهنم:

)فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّاۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ( (سورةالتوبة : آية 81).

الحر الذي ذكر في الآية الكريمة هو نفسه الحرارة بالمفهوم الفيزيائي، ومن خلال فهم خصائص الحالة الفيزيائية للحرارة سوف نستطيع فهم خصائص وصِفات اللفظ القرآني.

الحرارة أو الحرّ هي نوع من أنواع الطاقة، وشعورنا بهذه الطاقة يعتمد بالأساس على عملية انتقال للطاقة من نظام إلى نظام آخر، وحرارة النار هي انتقال الطاقة من المواد المشتعلة إلى الوسط المحيط، وكلما اكتسب الجزيء طاقة حرارية زادت حركته، إلى أن يستطيع التغلب على الروابط التي تُقيد حركته، فيتحرَّر تماماً ويتحرَّك بعشوائية.

مفهوم كلمة حُر يحمل الخصائص نفسها ؛ من ناحية الانفكاك من القيود، والحركة بعشوائية.

من خلال مقابلة كلمة [العبد] وكلمة [الحر]، ومن خلال مدلول الكلمة في كتاب الله، والمدلول الفيزيائي؛ نجد أنَّ المقصود بالحُرّ هو خلاف العبد، فإذا كان العبد يتحرك تبعاً للمسؤوليات والتكليفات المختلفة التي يتلقاها؛ فإن الحر يتحرك بحرية دون مسؤوليات أو تكليفات.

كيف نفهم  مدلول الحر في آية القصاص؟

في الآية الكريمة  المقصود بالحر هو الشخص الذي ارتكب الجريمة بكامل إرادته، دون  أي  مسؤولية أو تكليف معين، وهذا النوع من الجرائم هو أغلب الجرائم التي نقرأ ونشاهد أخبارها، مثال: شخص قتل شخصاً آخر بسبب خلافات الجيرة، أو بسبب أولويات المرور، أو شجار لأي  سبب كان.

نظرة سريعة على لفظ [حر] ومشتقاته في كتاب الله، حيث ورد لفظ الحر بمعاني عديدة في كتاب الله، منها حر ,وتحرير، وحرور، ومحرراً:

)لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍۚ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْۚ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (سورةالمائدة : الآية 89).

تحرير رقبة أي إطلاقها من القيود والأغلال، ولكي نفهم ما المقصود بتحرير لابد أن نقوم بتحليل لفظ [رقبة] وماذا يعني.

التعبير القراني [فكُّ رقبة] تعبير هام، وسوف نحاول إزالة الالتباس حول هذا التعبير، والذي يعتقد كثير من رجال الدين أنه قاصر على مسألة تحرير الرق والعبودية.

لفظ رقبة  أصلها رقب، وتعني انتصاباً لمراعاة شيء ما؛ كما في قاموس اللغة.

فتحرير الرقبة في هذه الحالة هو محاولة تخليص هذا الشخص من تلك المصيبة أو ذلك الهم الذي أثقله وشتت انتباهه؛ ليعود لحالته الطبيعية، وفك رقبة ليست قاصرة على مفهوم الرق الذي هو حالة اجتماعية مؤقتة،  ويعتبر وقتها نوعاً من أنواع فك الرقاب، ولكن كل ما يعيق الإنسان عن ممارسة حياته الطبيعية هو تقييد لحريته، وصرف انتباهه عن حياته، ومحاولة إزالة كل ما يمنع انتباهه ويصرف تركيزه هو نوع من فك الرقاب.

مساعدة الإنسان السجين ولو بسببٍ يمكن التفاهم حوله، أو فك الأسير، أو حتى إنقاذ شخص من عمل لا يوفر له سوى الكفاف، أو مساعدة عاطل عن العمل أو تأمين خائف، أو إعانة طالب حتى ينتبه لدروسه، كل ذلك نوع من فك الرقاب؛ إذاً فكّ الرقاب هو مساعدة الإنسان حتى يستطيع  التركيز على مهمته الأساسية، عن طريق تخليصه قدر الإمكان من العوائق والمصاعب  الأخرى التي تعيقه عن أداء مهامه الرئيسة.

من خلال هذا المفهوم الجديد للتعبير القرآني )فك رقبة( سنجد أنَّ مصارف الصدقات التي ذكرها القرآن في سورة التوبة ليست معطلة، كما يقول الفقهاء بذلك: 

)إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (سورة التوبة : الآية 60). 

يقول المفسرون في هذه الآية: إنَّ مصرف (في الرقاب) انتهى؛ بسبب انتهاء الرق ، إذ جعل المفسرون تعبير )وفي الرقاب( مقتصراً فقط على تجارة البشر بشكلها القديم.

لكن عن طريق الفهم الجديد للتعبير القرآني نجد أنَّ مفهوم تحرير الرقاب ما زال موجوداً، وسوف يظل هكذا إلى يوم الدين، فطالما توجد حياة فهناك أنواع من البشر مثقلون بالهموم، تتجاذبهم مسؤوليات جانبية، وتصرف انتباههم عن مهمتهم الأساسية، فهؤلاء حقٌّ على المجتمع أن يعينهم، ويخلِّصهم من هذا التشتت؛ حتى يكونوا أكثر تركيزاً وانتباهاً في حياتهم، وأكثر فائدة لمجتمعهم.

لفظ [تحرير] يعني إطلاق هذه الرقاب من كل القيود التي تكبلها بشكل تام، بحيث تكون منتبهة لمهمتها التي ترغب في إنجازها.

لا يصح –إطلاقاً- الادعاء بأن كتاب الله فيه آية معطلة، أو انتهى العمل، ولكنَّ الأفضل أن نتواضع ونقول إننا لا ندرك مفهوم الآية أو المقصود منها؛ لأن ادعاء معرفة كل شيء أغلق الباب أمام الاجتهاد، بينما القول بعد فهم ما هو غامض سوف يحفِّز ويثير شهية الباحثين للبحث والتقصي واستجلاء الحقيقة قدر المستطاع.

)إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( (سورة آل عمران: الآية 35).

)نذرت لك ما في بطني مُحرَّراً( أي خالصًا لله، وكأنها السباحة الدائمة في معية الله، محرراً من كل المسؤوليات البشرية، مقبلاً على الله فقط، فلفظ [محرر] هنا لفظ يصف نقاء ما نذرت –مريم- من جميع الشركاء، وأن ليس لأحد عليه قيد، وليس لأحد فيه شيء إطلاقاً..

)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُواۚ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍۖ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا( (سورة النساء : الآية 92).

معنى تحرير رقبة هنا هو نفسه في الآية التي أشرنا إليها في  سورة المائدة، ولا معنى لإعادة ما توصلنا إليه من قبل.

)فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚلَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ( (سورةالتوبة: الآية 81).

الحر هو ما حاولنا فهمه من خلال المعنى الفيزيائي للحرارة، وتأثير هذا الحر الذي  أشرنا إليه بالانفكاك من القيود.

باقي الآيات التي ذكرت فيها مشتقات [الحر] على هذا المنوال، وليس فيها جديد يمكن أنْ نضيفه في تأويل معنى الحر. 

)وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ۚ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ( (سورةالنحل: الآية 81).

)وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ( (سورة فاطر: الآية 21)

)وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ۚ ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( (سورة المجادلة: الآية 3).

من هنا يتضح لنا أن مفهوم الحرية وإن كان يحمل سمعة طيبة في حياتنا المعاصرة؛ إلا أن مدلول الكلمة يوحي بالتحرر من المسؤوليات والتكليفات، وهذا التحرر عكس مهمة الإنسان على الأر؛. فالعبودية بمفهومها القرآني وهو حمل المسؤولية،  سواء مسؤولية ذاتية (الضمير)، أو مسؤولية خارجية ( قوانين المجتمع) هو المفهوم  الأنسب والأقرب لمفهوم الحرية الناضج.

مفهوم العبودية القرآنية والذي يعني تحمل المسؤولية متحقق في كل الناس، حتى من لا يؤمن بالله؛ فكل شخص على هذه الأرض يحمل مسؤولية وتكاليف يسير بموجبها ويُسير حياته.

الملحد الذي لا يعترف بوجود الله يحمل نوعاً من المسؤولية الأخلاقية تجاه نفسه ومجتمعه والبيئة، وحتى الإنسان المتحرر من كل القيود لابد له من مسؤوليةٍ ما يحملها، أو تكليف يعمل من خلاله، وعلى سبيل المثال: المجرم المنفلت من كل القيود؛ إلا أنه يفعل ما يفعل  بسبب مسؤولية معينة، قد تكون هذه المسؤولية جمع المال، أو حتى مجرد الانتقام أو فرض السلطة؛ فكل إنسان يعبد ما يحلو له، ويكلِّف نفسه ويجعلها مسؤولة عن الأفعال، بقدر هذا المعبود.

 تتجلى دقة التعبير القرآني في عدم استخدام لفظ [حرية] للتعبير عن إرادة الإنسان في فعل ما يريد؛ بسبب مدلولها الأقرب إلى الفوضى، وعدم تقيُّدها بقيود، في حين أن أفعال الإنسان بصفة عامة بمسؤوليةٍ ما كَلَّف نفسه بها. 

بعد شرح مفهوم العبد والحر، نأتي في السطور القادمة على مفهوم الأنثى .

 تبعاً للمنهج الذي نستخدمه فإنَّ وصف الأنثى لابد أنه يصف حالة معينة، وهذه الحالة منطبقة تماماً على الأنثى المعروفة والأكثر شهرة (مقابل الذكر)؛ لذلك سميت أنثى، فما هي الحالة التي تصفها كلمة أنثى ؟

صعوبة تتبع اللفظ في كتاب الله جعلتنا نحاول فهم حالة هذا اللفظ، من خلال تقارب صوت ]فعل أنس  بالفعل أنث]، ولم يزد قاموس اللغة على وصف الفعل [أنث] على أنه نقيض الذكر.

فهم كلمة [ذكر]، والاسترشاد بفعل [أنس]؛ لتقارب الصوت، ومحاولة التعرف على الجذر الثنائي للكلمات، وكذلك فهم مدلول الكلمة في كتاب الله، هو مهمتنا في السطور القادمة؛ لفهم  الحالة التي تصفها كلمة أنثى .

جذر فعل [أنث] الثنائى هو [أن]، وله أصل واحد وهو صوت التوجع، ومنه الأنين، وصوت حرف الثاء يدل على البث والإنتشار، فحالة الاسم تتضمن التوجع أو ظهور التوجع، وهذا التوجع دليل على حالة ضعف معينة.

فعل [أنس] له أصل واحد، وهو ظهور الشيء، وكل شيء يخالف التوحش، وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب كنا قد عرجنا على فعل أنس ومفهومه، وقلنا إنه يوحى بضم الشيء إلى الشيء للمؤانسة، وسمى الإنسان إنساناً بسبب مرحلة تكوين المجتمعات، التي أصبح لكل واحد فيها دور محدد، حين بدأ التكافل والتعاون في الظهور؛ أي: إنَّ لفظ [أنس] يصف حالة من الاجتماع والتقارب والظهور؛ مما يدفعنا للقول إنَّ لفظ [أنث] يقارب إلى حد كبير لفظ [أنس].

لفظ [ذكر] وأصلها الذال والكاف والراء، بالرغم من أنَّ ابن فارس في قاموس اللغة لم يزد عن قوله: إنَّ أصل الكلمة هو المولود الذكر؛ إلا أن الجذر الثنائي للكلمة وهو [ذك] يعني شدة وذكا، ويعني شدة ونفاذ؛ مما يدل على أن الحالة التي تصفها كلمة [ذكر] تشمل الحدة والشدة.

من هنا نجد وصف الذكر يحمل الشدة والقوة والحدة؛ مما يجعله غير محتاجٍ لدعم ما، بل يقوم بذاته، وعلى العكس من ذلك وصف الأنثى، وهي مقابل الذكر، فهي حالة ضعف ووهن، تحتاج للدعم والمساندة والكفالة، والذكر والأنثى هو أحد أشكال الزوجية التي أشار إليها القرآن، والتي تشمل كل شيء في الكون.

مبدأ الزوجية في الكون هو مفتاح الاستقرار الكوني، والتوافق بين مكونات الكون بعضها مع بعض، والزوجية تعني أن كل فرد من الزوجين متوافق تماماً مع الفرد الآخر و يكمل كلٌّ منهما الآخر. 

الأنثى الضعيفة والتي تحتاج إلى دعم تتوافق تماماً مع الذكر القادر على تقديم الدعم بذاته؛ بسبب القوة والشدة التي تميزه، وبهذا الشكل سوف نجد توافقاً تاماً بين أيِّ زوجين من مكونات  الكون؛  إذ لا بدَّ أن يكمل كل زوج الزوج الأخر.

قد لا تروق مسألة الضعف هذه لأنصار المرأة، ويعتبرونها تقليلاً من شأن المرأة، لذلك علينا أنْ نفهم  أنَّ القرآن ليس كتاب وجهات نظر، أو كتاباً يتبنى وجهة نظر عنصرية؛ وإنما كتابٌ يعرض حقائق، ويصف حالات معينة.

الحالة العامة للفظ الأنثى يعني الضعف الذي يحتاج لدعم أو كفالة أو رعاية من نوع خاص، وليست مجرد ارتباط بالحالة الجنسية،  فإذا تقرَّر أنَّ فتاة أو أو سيدة تقوم بشئون نفسها، ولا تحتاج لدعم ومعاونة في أمر من أمور حياتها؛ سوف ينتفي عنها فوراً وصف الأنثى، وتتحول إلى أوصاف أخرى، مثل: امرأة أو فتاة أو غير ذلك.

وكذلك وصف ذكر هو وصف حالة من القوة والشدة والقدرة على الدعم، ولا تعني بالضرورة الحالة الجنسية؛ فإذا وُجد من لا يملك القدرة على الدعم، ولا تتوافر فيه شروط القوة والشدة، ويحتاج إلى من يقوم بشؤونه؛ تنتفي فوراً عنه صفة الذكورة. 

على هذا الأساس نجد كتاب الله يفصِّل لفظ [أنثى] تفصيلًا مذهلًا، ليس له علاقة بالحالة الجنسية في حد ذاتها، ولكنْ له علاقة مباشرة بحالة الضعف العام، والاحتياج للدعم والمساندة.

ورد لفظ [الأنثى] في كتاب الله في ثلاثين موضعا، منها ما جاء بلفظ [أنثى أو أنثيين أو إناث]، وسوف نمرُّ مروراً سريعاً على هذه الآيات؛ لفهم مدلول كلمة الأنثى.

لفظ [الأنثى] في كتاب الله أكثر ما ورد خاصاً بالمرأة، فقد جاء مع حالة الحمل؛ وهي حالة الضعف الأكثر وضوحًا، والتي غالباً ما تحتاج فيها المرأة إلى الدعم والمساندة:

)اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى  وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ( (سورة الرعد: الآية 8(

)وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى  وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( (سورة فاطر: الآية 11).

)إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى  وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ( (سورة فصلت: الآية 47).

كذلك لفظ الأنثى جاء مرافقاً لحالة عدم الرضا عند الميلاد، وهذا السخط بسبب مخالفة التوقعات، ففي حالة المجتمعات البدائية غالباً ما ينتظر رب الأسرة المولود الذكر؛ بسبب الاحتياج للقوة والدعم من وجهة نظره، وعندما يبشَّر بالأنثى  يستحضر الضعف والاحتياج للدعم فيحزن، وهذا الذي عبَّر عنه ربنا في سورة النحل، وفي سورة آل عمران عندما وضعت امرأة عمران مريم:

)فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنثىٰ ۖوَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ( (سورة آل عمران: الآية 36).  

جاء كذلك لفظ الأنثى في سورة النحل، وقد سبقها لفظ البنات الذي نسبه المشركون إلى الله سبحانه وتعالى:

)وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأنثى ٰظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ  أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِۖ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)( (سورة النحل: الآيات 57-60).

لفظ [بنت] الوارد في الآية الأولى يعني اللزوم والإقامة أو الإلتصاق، مثل القول (بنات الأرض)؛ أي: الملتصقات بالأرض التي تخفى على الراعي، و(بنات الصدر) تطلق على الهموم التي تلازم الصدر، و تجثم عليه.

 هذا اللزوم والالتصاق إنما هو ناتج عن ضعف؛ لذلك يطلق دائماً لفظ بنات مضافاً لشيء آخر، مثل: بنات الأخ وبنات الأخت.

وُصف ربنا سبحانه وتعالى بأنَّ له ولداً، وأياً كان نوع هذا الولد هو وصف لا يجوز؛ فالله سبحانه وتعالى واحد أحد، فكيف بمن يصف الله بأن له بنات ضعاف، هذا الوصف لا يقبله المخلوق نفسه، وقد عبر عنه ربنا في الآية التالية بالقول: )وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأنثى ٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(، لماذا يظلُّ وجهه مسود وهو كظيم؟ لأنه يستحضر ضعف هذا المخلوق واحتياجه، فاستحضار حالة الضعف هو السبب الرئيس للحزن.

  لقد كان رد ربنا سبحانه وتعالى على هذا الفعل من خلال )أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(؛ أي: هذا الحكم الذي أصدره هذا الإنسان حكم خاطئ بالمرة؛ لأن هذا الضعف ليس عيباً، وإنما من تقدير العزيز الحكيم، ويتبع القوانين الكونية القائمة على الزوجية.

 ختمت الآيات بقول الله تعالى (أن هؤلاء لا يؤمنون بالاخرة) أي لا يدركون العواقب، ولا يستوعبون القادم، بل ينظرون تحت أقدامهم، والله سبحانه هو العزيز الحكيم في كل تقديراته.  الآية التالية والتي جاءت في سورة آل عمران هي ايضًا آية متعلقة بحالة الضعف كما سوف نرى:

)إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنثى ٰۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)( (آل عمران: الآيات 35-37).

القصة من بدايتها أن امرأة عمران نذرت ما في بطنها لله، ومعنى أن تنذر ما في بطنها لله؛ أي يقوم على خدمة أهداف ومراد الله، على سبيل المثال القيام بأمور من شأنها التقرب لله، مثل: خدمة بيوت الله، ومساعدة المحتاجين، وهذه الأمور في الأغلب تحتاج إلى قوة وصبر وتحمل ذاتي، وكل هذه الصفات تحتاج للقوة والشدة المتمثلة في الذكر، فلما وضعتها أنثى ، وأدركت ضعفها في القيام بما نذرته قالت ما قالت: )رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أنثى ٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنثى ٰ(

ليس في الآية الكريمة أي نوع من تقليل الشأن؛ إنما هو تقرير لحقيقة أدركتها امرأة عمران، ومع ذلك يقول الله: إنه تقبلها بقبول حسن، وهذا هو الفرق بين حكم البشر وحكم الله؛ فامرأة عمران أدركت بالمقاييس البشرية أن الأنثى لا تصلح لما نذرته من أجلها، فكان الرد الإلهي أنْ قبلها بحكمته، وأعدَّها للوظيفة التي تناسبها؛ مما يؤكد على مبدأ التكامل بين الخلق، وليس التنافر والتناحر، فبدلاً من أن تقوم على خدمة المحتاجين أو بيوت الرب التي تحتاج للقوة والمثابرة، حملت المسيح عيسى نبي الله الوجيه في الدنيا والآخرة .

تُختتم الآية الكريمة بذكر ما فعله نبي الله زكريا من كفالة مريم، فحالتها الضعيفة والمحتاجة للدعم والمساندة متوافقة تماماً  مع وصفها بـالأنثي في بداية الآيات.

فهم لفظ [الأنثى] على حقيقتة يبيِّن لماذا لم يقبل ربنا وصف الملائكة بالإناث، فهذا الوصف في كتاب الله –للأسف- حجة عند كثير من المشككين في كتاب الله على ازدراء المرأة وتحقير شأنها، وحتى نكون منصفين فإنَّ وصف التحقير والازدراء أوحى به المفسرون للناس، ولا علاقة له بكلام رب العالمين، وذلك عندما اعتبروا أن لفظ [إناث] يصف جنس النساء، وليس وصف حالة معينة،  كما بيَّنا في كتاب الله.

 الآية التالية في كتاب الله تضع القول الفصل في المقصود بالإناث أو الأنثى  :

)إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا( (سورة النساء: الآية 117).

- جاء في تفسير هذه الآية الكريمة عند الطبري:

«القول في تأويل قوله: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(

فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى وَمناة، فسماهن الله " إناثًا "، بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث. عن أبي مالك في قوله: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، قال: اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث. عن السدي: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، يقول: يسمونهم " إناثًا ": لاتٌ ومَنَاة وعُزَّى. قال ابن زيد في قوله: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، قال: آلهتهم، اللات والعزى ويَسَاف ونائلة، إناث، يدعونهم من دون الله. وقرأ: )وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا(.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مَواتًا لا رُوح فيه. عن ابن عباس قوله )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، يقول: مَيْتًا. عن قتادة: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، أي: إلا ميتًا لا رُوح فيه.

وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون: ( الملائكة بنات الله (

عن الضحاك في قوله: )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، قال: الملائكة، يزعمون أنهم بنات الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم " إناثًا "، فأنـزل الله ذلك كذلك.

عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم، يسمونها: (أنثى بني فلان)، فأنـزل الله )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(

وقال آخرون: "الإناث" في هذا الموضع، الأوثان. عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إناثًا" قال: أوثانًا..» انتهى التفسير.

تقول التفاسير إنَّ الأصنام كانت تسمى بأسماء الأنثى؛ لذلك قال الله )إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا(، والآية الكريمة ومثلها آيات أخرى مثال لا لبس فيه على أن تسمية الإناث ليس لها علاقة بالجنس؛ وإنما وصف لحالة معينة.

ولو أن المقصود بالإناث الأصنام، لقلنا إنَّ الأصنام ليست أنثى أو ذكراً، و من يدَّعي أن الناس كانت تسمي الأصنام بأسماء إناث؛ فهي مسميات غير حقيقيَّة، وما أنزل الله بها من سلطان، وليست من نسق القرآن.

وبتطبيق مفهوم الأنثى الذي توصلنا إليه؛ نجد المقصود بالإناث هي حالات الضعف والاحتياج للكفالة والدعم، والمعبودات التي يدعوها الناس آلهة من دون الله -لا شك- هي ضعيفة، وليس بمقدورها تقديم الدعم أو كفالة مخلوق بشكل حقيقي، وهي ليست مصدر  العون أو المساعدة بذاتها مقارنة  بالخالق القدير.

  لقد اقترب  بعض المفسرين من المفهوم العام لكلمة [إناث] عندما قالوا أنَّ المقصود تدعون مواتاً، ولكنْ بالوقوف على منطوق الكلمة ودلالتها تبين لنا أنَّ المقصود حالة الضعف العام،  وعدم القدرة والاحتياج.

هذا المفهوم العام يفسر لماذا ربنا استنكر وصف الملائكة بالإناث، أو نسبة الإناث إلى ذاته العالية؛ فالملائكة ليست ذكوراً أو إناثاً بمفهومنا البشري، وكل المعلومات لدينا عن الملائكة بأنهم عباد الرحمن.

عندما يصف الناس الملائكة الذين هم عباد الرحمن؛ أي المكلفون من الله، والذي يتلقون تكليفاتهم من الله حصراً، بأنهم إناث؛ أي ضعفاء محتاجون للمساندة والدعم، فلا شك أن هذا الوصف لا يليق بهم، ولا يجوز في حق الملائكة، ليس لأنهم ذكور بمفهومنا البشري؛ ولكن لأنهم عباد الرحمن، ويفعلون ما يؤمرون دون الاحتياج إلى مساندة أو كفالة.  

مفهوم الضعف والاحتياج للدعم والكفالة للفظ [الأنثى] هو المفهوم الأقرب في الآيات التالية جميعها، والذي لا يليق وصف الملائكة به.:

)أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثى( (سورة النجم الآية 21).

)إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثى( (سورة النجم: الآية 27).

)أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا( (سورة الإسراء: الآية 40).

)وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ( (سورة الزخرف: الآية 19). 

بعد هذا الوصف والتفصيل لمفهوم كلمة الأنثى؛ استقر في الوجدان أن الأنثى  تعني حالة الضعف وعدم القدرة،  والمحتاجة للدعم والتقوية.

والآن ما المقصود بالأنثى  في آية القصاص؟

إنَّ الأنثى  في آية القصاص وما تمثله من ضعف وعدم قدرة تمثل الطرف الأضعف، ولاحظ أنَّ آية القصاص تتحدث عن حالة فيها قاتل ومقتول، فإذا وُصف القاتل بحالة الأنثى فهذا يعني أنه كان في الموقف الأضعف، والمقتول هو الطرف الأقوى؛ وهذه الحالة تمثل حالة الدفاع عن النفس، وهي الحالة الثالثة من حالات جرائم القتل، وهي حالة قتلٍ عمدٍ ولكن دفاعًا عن النفس. 

يمكننا الآن تلخيص حالات القتل وأطرفها، كما في آية القصاص،  وكلها حالات  قتل عمد:

الحالة الأولى: حالة الإنسان الذي لديه تكليفات من ضمنها حق القتل؛ إذا استدعت الضرورة،   مثال: رجل الشرطة.

الحالة الثانية : وهي الحالة العامة، والتي يقتل فيها الشخص  شخصاً آخر، في شكل اعتداء واضح، وهي الحالة العادية والأكثر شيوعاً. 

الحالة الثالثة: حالة الدفاع عن النفس؛ بحيث يكون القاتل فيها هو الطرف الأضعف وقت حدوث الجريمة. 

أما حالات القتل الخطأ فلها حكم آخر، ولا تختص به هذه الآية الكريمة.

استكمالاً لمفهوم العبد والعبودية والتعبير القرآني فك رقبة، يتبقى لدينا مفهوم الأمة، والذي يشير حسب المفسرين إلى الجارية التي تباع وتُشترى.

ولكن من خلال تتبع لفظ العبد والعبودية في كتاب الله، ومفهوم فك رقبة؛ نجد أن القرآن الكريم لم يقرّ ولم يتسامح ويشرع لحالة العبودية بمفهومها البشري، وهي حالة الرقيق؛ وإنما تعامل مع الحالات بصفة عامة، وحتى تكتمل هذه الدائرة يجب أنْ نفهم كلمة [الأَمَة] كما جاءت في كتاب الله .

 - مفهوم [الأَمَة]:

جاء لفظ الأمة  يصف المرأة مرة واحدة في كتاب الله،  في سورة البقرة:

)وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( (سورة البقرة: الآية 221).

الآية تذكر العبد والأمة في معرض الحديث عن النكاح، والذي هو مقدمة تكوين أسرة، وتشير الآيات إلى علة الاختيار، ولماذا يجب أن نرفض المشركين، ومن هم المشركون في هذه الآية الكريمة.

المشرك هو الذي تعددت علاقاته، ولديه تكليفات متعددة من شركاء مختلفين، وهو على ذلك  مشتت الانتباه، وأظلم أنواع الشرك هو الشرك بالله؛ إذ يتعلق الإنسان بشركاء من دون الله، مثل: السلطة أو المال أو الطاغوت، فإذا كان الأمر يتعلق بالنكاح كما في الآية الكريمة؛ فيكون المقصود بالشرك هنا شرك النكاح؛ ولكن كيف يكون الشرك في مسألة النكاح؟

الرجل المشرك في مسألة النكاح هو الذي لديه علاقات متعددة، والمرأة المشركة هي أيضاً التي لها علاقات متعددة، أما المؤمن في النكاح هو المستقر والمطمئن إلى شيء واحد.

إنها إشارة لطيفة إلى حسن الاختيار؛ بحيث تفضل المرأة الرجل الخالص من الشرك؛ أي: الخالص من الصاحبات، أو الخليلات، أو حتى الزوجات الأخريات،  فمن الأفضل اختيار غير متعدد العلاقات.

واستخدام لفظ عبد إشارة إلى المسؤوليات الملقاة على عاتقه، وأن العبد المشرك هذا موزع العلاقات، ومشتت المسؤوليات؛ لذلك العبد المؤمن المطمئن والمستقر على علاقة  واحدة أفضل من العبد المشتت.

هذا بالنسبة للعبد، فماذا عن الأمة؟

جذر كلمة [أمة] هي أم، وتعني الأصل والمنشأ والمرجع، وهنا أيضاً إشارة للرجل إلى حسن الاختيار؛ بحيث يختار الفتاة أو المرأة الخالية من الشرك؛ أي: متعددة العلاقات.

وهذا التفضيل لكونها أمة؛ أي: الأصل والمرجع والمنشأ للذرية القادمة؛ فلا ينبغى أبداً  أن يكون نكاحها يخالطه شرك؛ أي: مخالطة آخرين.

إذن [الأمة] تعني المرأة منشأ وأصل الأسرة القادمة، وليس الجارية التي تباع وتُشتري.

ها نحن نسوق الدليل تلو الدليل على أنَّ الكلمات في كتاب الله تصف حالات معينة، وها هي ألفاظ مثل: الشرك والإيمان والكفر، نجدها تصف حالات لا يمكن فهمها إلا من خلال سياق الآيات الكريمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة