Translate

الفصل الحادي عشر - "فصل الخطاب"

الفصل الحادي عشر

"فصل الخطاب"


بعد ظهور الكتابة اتخذت العلاقات بين البشر منحى جديداً، واتسعت المعاملات؛ مما استدعى وجود نظام للفصل بين المنازعات، على أساس سليم دون تدخل للهوى الشخصي. ومن هنا كان لابد من ظهور نظام قضائيٍّ، يقوم على أساس الأدلة، ويعتمد القانون بشكل صارم، دون تدخل للعواطف، ولم يكن لمثل هذا النظام المتطور من الظهور لولا وجود الكتابة، من أجل تدوين الاتفاقات، وتدوين القوانين أيضاً التي تفصل بين الناس


يعتقد الباحثون أن العمليات التي كانت تجري على الحديد هي عمليات طَرق في البداية، تحتاج لقوى مكانيكيةومطارق، وليست عمليات سبك، تحتاج لحرارة عالية وأفران، وتقول الأبحاث إنّ أول شعب استخدم الحديد بشكل كبير هو شعب الأناضول سنة 1500 قبل الميلاد.  

لا شك أن حركة التطور حركة مستمرة، جعلت البشرية تنتقل من حالة أقل تطوراً إلى حالة  أرقى، معتمدة على ما حققته في السابق، فتراكم المعرفة يدفع إلى إنتاج العلم، والعلم يؤدي لتراكم المعرفة، وقد كانت الكتابة حجر الزاوية في هذا التطور؛ إذ استطاع الإنسان تدوين المعرفة؛ مما سبب تراكمها بشكل متزايد، والنتيجة الطبيعية لظهور الكتابة والتدوين لا يقل أهمية عن ظهور اللغة؛ فمن خلال الكتابة استطاع الإنسان حفظ المعرفة؛ مما أدى لقفزات تنموية في كافة المجالات.

بعد ظهور الكتابة اتخذت العلاقات بين البشر منحى جديداً، واتسعت المعاملات؛ مما استدعى وجود نظام للفصل بين المنازعات، على أساس سليم دون تدخل للهوى الشخصي. ßومن هنا كان لابد من ظهور نظام قضائيٍّ، يقوم على أساس الأدلة، ويعتمد القانون بشكل صارم، دون تدخل للعواطف، ولم يكن لمثل هذا النظام المتطور من الظهور لولا وجود الكتابة، من أجل تدوين الاتفاقات، وتدوين القوانين أيضاً التي تفصل بين الناس.

لدينا إشارة قرآنية في مشهد من أروع المشاهد على هذا النظام والتوجيه الإلهي السليم للفصل بين المنازعات، من خلال قصة نبي الله داوود والمتخاصمين الذين دخلوا عليه المحراب.

للأسف، معظم التفاسير التي تناولت قصة الخصمين الذين دخلوا على نبي الله داوود المحراب لا تقوم على أي دليل، ولا تمُت لكلمات الله بصلة، وكل ما جاء حول هذا المشهد العظيم هو من نسج الأساطير القديمة، التي تسيء إلى أنبياء الله وأصفيائه، والآيات الكريمة التي لخصت هذا المشهد القرآني العظيم جاءت في سورة ص:

)اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةًۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَاب (24)( (سورة ص: الآيات 17 -24).

²جاء في تفسير الطبري أن نبي الله داوود رغب في زوجة أحد جنوده، وكان لديه 99 زوجة، فجاء الخصمان وهم في الحقيقة ملكان في شكل معاتبة من الله لنبيه داوود، وسوف نستعرض التفسير الخاص بقول الله تعالى: وشددنا ملكه، والآية التالية: هل أتاك نبأ الخصم:

«وقوله )وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ( اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدّد ملكه، فقال بعضهم: شدّد ذلك بالجنود والرجال، فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف، أربعة آلاف، عن السديّ، قوله )وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ( قال: كان يحرسه كلّ يوم وليلة أربعة آلاف، أربعة آلاف، وقال آخرون: كان الذي شدد به ملكه، أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها.

عن ابن عباس، أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داوود النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال المستعدي: إن هذا اغتصبني بقرًا لي، فسأل داوود الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البيِّنة، فلم يكن له بيِّنة، فقال لهما داوود: قوما حتى أنظر في أمركما; فقاما من عنده، فأوحى الله إلى داوود في منامه أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه، فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى الله إلى داوود في منامه مرة أخرى أن يقتل الرجل، وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داوود إلى الرجل: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟! فقال له داوود: نعم، والله لأنفذنّ أمر الله فيك; فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذت بهذا الذنب، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فبذلك قُتلت، فأمر به داوود فقُتل، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداوود، وشدد به مُلْكه، فهو قول الله: )وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ( .

 وقوله )وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ( اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع، فقال بعضهم: عني بها النبوة. عن السديّ، قوله )وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ( قال: النبوّة.، وقال آخرون: عنى بها أنه علم السنن. عن قتادة )وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ(: أي السنة.

 وقوله )وفصل الخطاب( اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: عني به أنه علم القضاء والفهم به. عن ابن عباس )وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وفصل الخطاب( قال: أعطي الفهم. عن مجاهد )وفصل الخطاب( قال: إصابة القضاء وفهمه. عن السديّ، في قوله )وفصل الخطاب( قال: علم القضاء.، وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفصل الخطاب، بتكليف المدّعي البينة، واليمين على المدعى عليه. عن شريح أنه قال في قوله )وفصل الخطاب( قال: بيِّنة المدَّعي، أو يمين المُدَّعى عليه. عن شريح أنه قال في هذه الآية )وفصل الخطاب( قال: الشهود والأيمان.

 القول في تأويل قوله تعالى : )وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وهل أتاك يا محمد نبأ الخصم وقيل: إنه عني بالخصم في هذا الموضع ملكان.

وقوله )إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ( يقول: دخلوا عليه من غير باب المحراب; والمحراب مقدّم كل مجلس وبيت وأشرفه. »  انتهى الاستشهاد بالتفاسير.

حتى نستطيع فهم الآيات الكريمة لابد لنا أن نقف على الكلمات التي جاءت في الآيات الكريمة، وهي: الحكمة، الخطاب.

في البداية سوف نحاول فهم هذا الدخول إلامَ يرمِ؟، وما معنى تسوروا المحراب؟ )وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(

مع أن الحديث كان عن خصمين إلا أننا نجد التعبير القرآني يتحدث عن جماعة تسوروا المحراب ودخلوا عليه؛ فالتعبيرات بصيغة الجمع مع أن الواقعة بين اثنين.

من الواضح  أن هناك جماعة دخلت على نبي الله داوود تسوروا المحراب، أي: عملوا شكل سور حول المحراب، وليس كما يقول المفسرون: إنهم تسلقوا المحراب على داوود، ويبدو نَّ الأمر كان نزاعاً بين خصمين وأنَّ مجموعة من الناس كانت حاضرة هذا النزاع، ودخلوا جميعاً على نبي الله داوود؛ مما تسبب في فزعه من هذا الجمع،  وبعد هذه المقدمة البسيطة دعونا نحاول فهم مدلول بعض الكلمات؛ حتى نستوضح الصورة كاملة في هذا المشهد القرآني. 

مدلول كلمة [الحكمة]:

أصل كلمة الحكمة هو حكم، وكما في قاموس اللغة لها أصل واحد، وهو المنع، ومن خلال تتبع لفظ [الحكم والحكمة] في كتاب الله سنجد أن مدلولها يعني: الفصل بين الأشياء.

)سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (سورة المائدة : آية 42).

الحكم بين الناس هو الفصل بينهم، وتحديد ما لكل طرف وما عليه.

)وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ( (سورة المائدة : آية 43).

حكم الله: هو التعليمات التي تُفصِّل وتَفصل بين الأشياء.

)فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ داوود  جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (سورة البقرة: آية 251).

الحكمة هنا: القدرة على الفصل بين الأشياء.

مدلول كلمة [خطاب]:

أصل كلمة خطاب هو خطب، وكما جاء في قاموس اللغة لها أصلان: الأصل الأول هو الحديث بين اثنين، والأصل الثاني هو الأمر يقع.

بالنظر في كتاب الله لفهم مدلول الكلمة، سنجد أنها تعني: الأمر، أو الشأن الذي يدفع إنساناً لفعل شيء ما،  أو المحفز، وورد جذر الكلمة في كتاب الله في ثمانية مواضع، منها موضعان بلفظ [خطاب]، منها الآيات السابقة.

)وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( (سورة البقرة : آية 235).

خطبة النساء هنا تعني: شأن النساء أو أمر النساء، أي أن هذا الإنسان مهتم بأمر النساء، وغالباً ما يكون هذا الأمر خاصاً بالنكاح؛ فخطبة النساء: هي الدوافع المؤهلة للارتباط  بالنساء.

)قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ( (سورة يوسف: الآية 51).

خطبكن تعني: ما الشأن أو الأمر الذي كان بينكم بخصوص يوسف، أو ما الدافع الذي دفعكم  لفعل ما فعلتم مع يوسف.

)قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ( (سورة طه : آية 95).

خطبك يا سامري تعني: شأنك، أو ما قصتك،  أو ما الذي دفعك لفعل ما فعلت.

)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ( (سورة الحجر : الآية 57).

خطبكم تعني: ما الأمر الذي دفعكم لذلك، أو الدوافع. 

)وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ( (سورة القصص : الآية 23).

أيضا هنا خطبكم تعني: ما الأمر الذي دفعكم إلى فعل ما فعلتم.

)قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ( (سورة الذاريات: الآية 31)، تم بيان لفظ خطبكم في الآيات السابقة.

من هنا نستطيع أن نقول إنَّ لفظ [خطب] تعني وقوع أمر أو شأن يؤدي إلى أمر آخر، وهذا المعنى واضح تماماً من خلال كتاب الله.

 بتطبيق النتيجة التي وصلنا إليها على الآيات التي بين أيدينا عن الخطاب، نجد الآتي:

الخطاب تعني الأمور التي دفعت الأطراف لفعل ما فعلوا،  أي  الدوافع )وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(

أما لفظ [عزني في الخطاب] التي وردت في نفس المشهد القرآني، تعني: غلبني بدوافعه، )أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(،  فهذا المشهد ظاهرة ليس فيه ظلم، إنما هو اتفاق بين  اثنين، كل طرف فيه ألقى دوافعه ومبرراته.

بعد فهم مدلول كلمة [الحكمة وكلمة الخطاب] يتبقى لنا فهم كلمة [نعجة] حتى نتمكن من فهم المشهد القرآني بشكل كامل.

مدلول كلمة [نعجة]:

أصل كلمة نعجة هو نعج، وهو لون من الألوان، كما جاء في قاموس اللغة.

وعندما فسر المفسرون كلمة نعجة قالوا: إن معناها زوجة، وذلك يعني أن أحد الرجلين كان لديه 99 زوجة، وطلب من الشخص الآخر الذي يملك زوجة واحدة أن يتنازل له عنها، وهكذا جاءت التفاسير حول الآية الكريمة )إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب(

يقول المفسرون إن هذه الحادثة هي تورية لنبي الله داوود، لأنه كانت له 99 زوجة، وطلب من أحد جنوده وكان له زوجة  واحدة التنازل عنها لكي يتزوجها داوود  عليه السلام، ويستكمل المفسرون حديثهم عن هذه الحادثة بالقول: إن الشخصين اللذَين جاءا إلى  نبي الله داوود كانا ملكين.

هذه القصة لا يمكن قبولها على نبي من أنبياء الله، الذين كانت مهامهم ورسالتهم أعظم بكثير من هذا الهزل البشري، وهذه الصغائر التي لا تليق بصاحب خلق رفيع، فكيف تجوز في حق رجال اصطفاهم ربهم لحمل الرسالة والتبليغ، وحتى تكتمل الصورة دعونا نحاول فهم كلمة  [خلطاء] التي جاءت في الآية التالية )وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْض(

خلط تعني مداخلة شيء في شيء، ونجد أنَّ الخلطاء تعني بمفهومنا المعاصر شركاء العمل؛ إذ تتداخل أعمالهم معاً. 

بوضع جميع هذه المعطيات جنباً إلى جنب، ومن خلال تحليل الألفاظ؛ نجد أنَّ لفظ [نعجة] تعني لوناً من الالوان، ومدلول الأرقام وهو 99 يكتمل بالمائة، فيكون المقصود هو نسبة مشاركة الخلطاء أو المشاركين في العمل

الآيات الكريمة تتحدث عن خلاف دبَّ بين شريكين، أحدهما يملك 99 جزء من الشركة التي بينهم، والآخر يملك جزء واحد أي نسبة 99% إلى 1% ، وكان بينهم اتفاق على ذلك، ويبدو أنَّ الاتفاق كان في صالح صاحب 99%، فلما وصل الأمر لداوود عليه السلام لم ينظر للاتفاق، وإنما حكم بظاهر الأمر؛ إذ يبدو الأمر ظلماً لصاحب 1%

التوجية الرباني وَضَع القواعد القانونية في المجتمعات، وهي الحكم بالبينة وليس بالرأي الشخصي، والقرآن يقرر أنّ فصل الأحكام، أو ما نسميه نحن القضاء، يجب أن يتبع قواعد الاتفاقات، ويسير خلف القوانين، لا أن يتم الحكم بالرأي الشخصي، مهما بدت الأمور في غير صالح الضعيف فالحكم بالبينة وحسب الاتفاقات المتفق عليها أفضل، وأنسب للبشرية من ترك الأمر للهوى والرأي الشخصي.

 هذه القاعدة القانونية هي القاعدة الأسلم التي تعمل بها جميع المؤسسات القانونية حول العالم، إذ الحكم والفصل يتم على أساس الاتفاقات حتى لو أن ظاهر الأمر عدم عدالة لأحد الأطراف، فالحكم والفصل على أساس البينة، والدليل مقدَّم على الحكم تبعاً للرأي الشخصي، بل إنَّ الحكم تبعاً للرأي الشخصي وإن كان يبدو في ظاهره رحمة إلا أنه مخالف للمنهج القرآني؛ لما يمكن أن يترتب عليه من تضييع للحقوق في حالات أخرى.

كان هذا المشهد القرآني العظيم إيذاناً بنشوء نظام قضائي سليم؛ ولذلك جاء التعبير القرآني الكريم واصفاً نبي الله داوود  بأنه خليفة، فخليفة تعني أنه يخلف في أمر ما، ومن خلال الآيات يتضح لنا أن داوود حكم بين الناس بما علَّمه الله وآتاه من حكمة، إذ جعل الله الحكم بين الناس من خلال بعضهم بعضاً بما أراهم وأرشدهم ربهم.

إنَّ فضل الحكم بين الناس بالعدل لا يضاهيه فضل؛ فالذي يحكم بين الناس هو في الحقيقة خليفة الله في هذه الأحكام، ولا بدَّ أن يضع نصب عينيه هذه الحقيقة، ويحكم بما علمه الله، وبما أرشد إليه، وأهم هذه الإرشادات البينة والدليل وعدم اتباع الهوى، ومن لم يفعل ذلك فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً.

يبدو جلياً ترتيب الفترات، فظهور الكتابة مع نبي الله موسى، والتي أهَّلت البشرية للتدوين وحفظ تعهداتها وأفكارها واتفاقياتها، ومن ثم كان ظهور القضاء مع حقبة نبي الله داوود؛  نتيجةً مباشرةً لظهور الكتابة.

الزَّبور:

يقول ربنا في كتابه إنه آتى داوود  زبوراً، كما جاء في سورة النساء، وسورة الإسراء:

)إنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا( (سورة النساء: آية 163)

)وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا( (سورة الإسراء : آية 55)

بالعودة لجذر كلمة [زبور] وهو زبر، ولها أصلان، أحدهما: قراءة وكتابة،  والثاني: إحكام الشيء وتوثيقه، ونجد أنهما أصلان متقاربان جداً، ومن خلال الآية التي تتحدث عن أن الله آتى داوود الحكمة وفصل الخطاب، وبجمع جذر الكلمة مع سياق الآية جنباً إلى جنب نستنتج أن الزبور أحكام ونصوص متعلقة بعملية العدالة والفصل بين الناس، ونتائج هذه العدالة وآثارها.

الآية التالية والتي ذكر فيها الزبور تكمل الصورة، إذ يقول فيها ربنا: إنه كتب في الزبور من بعد الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون. :

)وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ( (سورة الانبياء: الآية 105).

 هذه الآية الكريمة هي النص المؤسِّسُ الحقيقيُّ للنص المتداول: العدل أساس الملك، فيبدو جلياً أنَّ الزبور كان كتاباً يتعلق بالعدالة، والنتائج المباشرة لهذه العدالة هي ميراث الأرض، كما حدث مع نبي الله سليمان ابن نبي الله داوود .

حقبة نبي الله داوود وكذلك حقبة نبي الله سليمان مليئة بالملاحظات الجديرة بالتوقف؛ كتسخير الكثير من الأشياء وتطويعها في ذلك الوقت، والتي كانت نتيجةً مباشرة لاستقرار المجتمعات، بواسطة نظامٍ قضائيٍّ عادل.

آيتان يمكن أن نقف أمامهما طويلاً، ويُعتبرا مؤشِّرًا على نظريتين من النظريات الهامة في تاريخ البشرية، النظرية الأولى: هي نظرية تكوين الجبال، والنظرية الثانية: استئناس الطيور، وهاتان الآيتان كانتا منحة لنبي الله داوود .

)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19)( (سورة ص: الآيات 18-19).

لا شكّ أنَّ العدالة وما تسببه من اطمئنان نفسيٍّ، مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بعملية الرخاء والبركات التي وعد الله عباده الطيبين، فهذه مرة أخرى يظهر لنا تأثير السلوك النفسي وارتباطه بمكونات الكون المختلفة.

عملية استئناس الطيور عملية مفهومة، ولكنَّ عملية تسخير الجبال تبدو غامضة، وربما تحتاج لمزيد من الجهد والتدقيق لفهم مدلول التعبير القرآني )سخرنا الجبال(، دعونا نبدأ بنظرية استئناس الطيور أولاً، والتي حدثت على عهد نبي الله داوود،  ثم نتبعها بنظرية تسخير الجبال وما تعنيه.

استئناس الطيور:

1. طائر الحمام:

تشير الدراسات إلى أن طائر الحمام هو أقدم الطيور المستأنسة على الإطلاق، إذ تم اسئناس هذا الطائر على ما يبدو في الألف الخامسة أو السادسة قبل الميلاد، فالحضارات القديمة مثل الحضارات في بلاد الشام اعتنت بهذا الطائر بشكل خاص، وانتقل هذا الاهتمام إلى الحضارات الأخرى المجاورة، مثل: الحضارة المصرية، و الحضارة الهندية، و تشير النقوش إلى أنَّ الحمَام تم استخدامه في عملية المراسلات في عهد رمسيس الثالث سنة 1150 قبل الميلاد، أما استخدام الحمام في المسابقات فقد جاء متاخراً بزمن طويل حسب الدراسات، إذ تشير الدراسات إلى أنَّ المماليك أول من استخدم الحمام في المسابقات الرياضية.

2. الدجاج:

من ناحية الترتيب الزمني يمكن اعتبار الدجاج حلَّاً ثانياً بعد عملية استئناس الحمام، إذ يُعتقد أنَّ استئناس الدجاج قد تم في منطقة الهند، وفي الفترة ما بين الألف الرابعة أو الخامسة قبل الميلاد، وإن كان تاريخ الألف الرابعة أو الخامسة غير مؤكد ولا يمكن الجزم به بنسبة مائة بالمائة، إلا أنَّ هناك أدلة دامغة على أنَّ استئناس الدجاج قد بدأ مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد، فالنقوش الأثرية والهياكل العظيمة التي وجدها الباحثون تدلُّ على ذلك بشكل قاطع.  هناك أدلة تاريخية عديدة تشير إلى أهمية الدجاج في الحضارات القديمة، فعلى سبيل المثال: هناك أدلة تشير إلى استخدام الدجاج في إنتاج اللحم، في حضارة بلاد الرافدين، في الألف الثانية قبل الميلاد.

 وكذلك الآشوريون لديهم تاريخ مع تربية الدجاج، وخبرة لا بأس بها، دلَّت عليها آثارهم.

 كما عُرف الدجاج لدى الحضارة الفارسية باسم طائر الضياء؛ بسبب صفة الصياح التي تُميز الديكة عند بزوغ الفجر.

كما اهتمت الحضارات القديمة بعملية التفريخ الصناعي، ويُعتقد أنَّ الصينيين هم أول من استطاع إنتاج أفراخ الدجاج بشكل صناعي، إذ كان يتم وضع البيض في سلال مملوءة بقش الأرز في غرف مخصصة، وعند درجات حرارة مرتفعة ومناسبة لعملية التفريخ. 

يبدو أن محاولات استئناس الطيور أخذت في التقدم والاستمرار بخطىً ثابتة، حتى إن الرُّسوم والآثار تخبرنا أنَّ عمليات متتابعة لاستئناس الإوز والبط والطاووس قد حدثت في التاريخ القديم، وأن الحضارات القديمة أولت أهمية كبرى لعملية استئناس الطيور؛ للاستفادة منها سواء في إنتاج اللحم، أو المراسلات، أو حتى المسابقات.

والآن دعونا نرى ماذا قال كتاب الله، وكيف أشار لعملية استئناس هذه؟

مفتاح فهم عملية الاستئناس التي حدثت للطير يكمن في فهم لفظ [سخر] الذي جاء في سورة الأنبياء:

)فَفَهَّمنَـٰهَا سُلَیمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَینَا حُكماً وَعِلماً وَسَخَّرنَا مَعَ دَاوُوُدَ ٱلجِبَالَ یُسَبِّحنَ وَٱلطَّیرَۚ وَكُنَّا فَـٰعِلِینَ( (سورة الانبياء: آية 79).

مدلول كلمة [سخَّر]:

جذر كلمة سخَّر في قاموس اللغة لها أصل واحد: وهو تذليل وخضوع، وهذا الأصل ينطبق تماماً في حالة الطير، فكيف يمكن أن نصف انتقال كائن ما من حياة البرية إلى حياة المدنية إلا إذا مر بحالة من التذلل والخضوع؛ لكي يتقبل الحياة الجديدة ويألفها، ولا يجب أن يذهب تعبير التذليل والخضوع إلى المفهوم السلبي للذل وما يشمله من ظلم وقهر وعدم عدالة؛ وإنما الذليل والخضوع بغرض الاستفادة، فيمكننا القول إن تسخير الشيء يعني جعله قابلاً للاستعمال أو في المتناول، ومتاحاً من ناحية القدرة على طلب مميزاته والاستفادة منها. سوف نحاول المرور على بعض الآيات التي ذكر فيها لفظ سخر؛ لبيان الحالة التي يصفها اللفظ:

الآية الأولى: )إِنَّ فِی خَلقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرضِ وَٱختِلَـٰفِ ٱلَّیلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلفُلكِ ٱلَّتِی تَجرِی فِی ٱلبَحرِ بِمَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءٍ فَأَحیَا بِهِ ٱلأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِیهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةٍ وَتَصرِیفِ ٱلرِّیَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلمُسَخَّرِ بَینَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلأَرضِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّقَوۡمٍ یَعقِلُونَ( (سورةالبقرة :الآية 164).

تسخير السحاب في الآية الكريمة يعني كونه ملائماً تماماً لوظيفته، ويمكن الاستفادة منه بشكل كامل، فلا هو يضيع في السماء، ولا هو يسير على غير هدى، بل بنظام محكم  من خلال قوانين كونية صارمة، جعلت السحاب يتراكم بعضه فوق بعض، في تطور محسوب ومقدر بشكل منضبط، على نحو يصبح بالنهاية جزءاً من دورة المياه على سطح الأرض.

الآية الثانية: )زُیِّنَ لِلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلحَیَوٰةُ ٱلدُّنیَا وَیَسخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ فَوقَهُم یَومَ ٱلقِیَـٰمَةِۗ وَٱللَّهُ یَرزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیرِ حِسَابٍ( (سورةالبقرة: الآية 212)

لفظ [سخر] في هذه الآية بمعنى الاستهزاء، والسخرية هنا فعل خبيث؛ لأن لها غرضاً معيناً، وليست كلمة عابرة أو جملة فكاهية على سبيل المثال، والسخرية ترمي إلى تقليل شأن الشخص المستهدف، بحيث يصبح منتهَك الخصوصية ومباح العِرض وفي متناول الجميع، وخصوصاً السفهاء منهم، وهي نفس الحالة التي تصف التسخير،  ولكنَّ السُّخرية هنا هي تناولٌ واستغلال بالمعنى السلبيّ.

الآية الثالثة: )أَلَم یَرَوا۟ إِلَى ٱلطَّیرِ مُسَخَّرَاتٍ فِی جَوِّ ٱلسَّمَاۤءِ مَا یُمسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِی ذَلِكَ لَـَٔأیَـٰتٍ لِّقَومٍ یُؤمِنُونَ( (سورة النحل: آية 79).

)wمسخرات في جو السماء( أي: نطاق عملها جوُّ السماء، و لديها كل الإمكانات التي تؤهلها لذلك؛ مثل: خفة الوزن، والجناحين، وتصميم الجسم.

)wمسخرات في جو السماء( أي: مهيَّأة لأداء وظيفة الطيران بشكل يناسب مهامها.

 تجري جميع الكلمات التي ورد فيها جذر [سخر] على هذا النسق، فالأصل هو جعل الشيء في المتناول، وملائماً لأداء وظيفة معينة عن طريق قوى معينة تؤثر عليه.

 من هنا يمكننا القول: إن تسخير ربنا الطير لنبيه داوود هو بداية عهد استئناس الطيور، بحيث تمكن الإنسان من الاستفادة منها واستغلالها الاستغلال الجيد، فكما تشير الدراسات التاريخية أن الطيور استخدمت لإنتاج اللحوم والبيض وحمل الرسائل، في مدىً زمني مقارب لما يُعتقد أنه عهد نبي الله سليمان، والآية التالية تضيف بعدًا آخر لفهم استئناس الطيور.

(وَلَقَد ءَاتَینَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضلاۖ یَـٰجِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُۥ وَٱلطَّیرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلحَدِیدَ( (سبأ: الآية 10).

ما معنى أوِّبي معه؟ يقول المفسرون: إن أوِّبي هنا تعني سبِّحي، رغم أنَّ لفظ [سبح] نفسه يحتاج إلى بيان وفهم، إلا أنه لا يمكن -كما ذكرنا- اختصار حالة اللفظ، ووصفه بكلمةٍ هكذا. وهذا الترادف مريح؛ إذ لا يتطلَّب البحث ومقارنة اللفظ بمثيله في كتاب الله، ومقارنة المعلومات العلمية، ومحاولة فهم اللفظ كما تشير الآيات، ولكن يبقى هذا الترادف حجاباً تتوارى خلفه النظريات المعرفية التي جاء بها كتاب الله.

 جاء في تفسير الطبري عن لفظ [أوَّب] ما يلي :

«القول في تأويل قوله تعالى: )وَلَقَدْ آتَيْنَا داوود مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( يقول تعالى ذكره: ولقد أعطينا داوود منا فضلا وقلنا للجبال (أَوِّبِي مَعَهُ) : سبحي معه إذا سبح. والتأويب عند العرب: الرجوع ومبيت الرجل في منـزله وأهله،

ذكر من قال ذلك: sعن ابن عباس (أَوِّبِي مَعَهُ) قال: سبحي معه. sعن أَبي عبد الرحمن (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) يقول: سبحي. sعن أَبي ميسرة (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال: سبحي بلسان الحبشة. sعن مجاهد في قوله (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال: سبحي معه. sعن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد قوله (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) قال: سبحي. sعن قتادة (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي: سبحي معه إذا سبح.» انتهى التفسير.

من الواضح أنّ مدلول لفظ [التأويب] يعني الرجوع، كما جاء في التفسيرات، ولو حاولنا فهم التأويب من خلال جذر الكلمة فسوف نجد أن جذر [أوِّبي أو التأويب] هو أوب، وله أصل واحد وهو: الرجوع، لكن رجوع ماذا؟ ولماذا ؟

إنَّ فهم [أوَّاب وأوِّبي] يُمكنُنا الوصول إليه من خلال فهم الجذر الثنائي [أب]،  ومقارنة النتائج بمدلول الكلمة في كتاب الله، والجذر الثنائي [أب] له أصلان كما جاء في قاموس اللغة، أحدهما: المرعى، والآخر: القصد والتهيؤ.

القصد والتهيؤ هو الأصل الذي نبحث عنه، ولكن يحتاج لمزيد من التدقيق من خلال مقارنة الجذر الثلاثي والذي يعني الرجوع، مع مدلول الآيات في كتاب الله.

ذُكر جذر كلمة [أواب] في كتاب الله خلال سبعة مواضع، منها ست مواضع جاء اللفظ فيها بصيغة [أوَّاب]، والآية التي نحن بصددها والتي جاء اللفظ فيها بصيغة [أوبي]:

 )رَّبُّكُم أَعلَمُ بِمَا فِی نُفُوسِكُم إِن تَكُونُوا۟ صَـٰلِحِینَ فَإِنَّهُ ۥكَانَ لِلأَوَّبِینَ غَفُورا( (سورةالإسراء: آية 25)

 )ٱصبِر عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَٱذكُر عَبدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلأَیدِۖ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ( (سورة ص : آية 17).

 )وَٱلطَّیرَ مَحشُورَةۖ كُلّ لَّهُۥۤ أَوَّابٌ( (سورة ص : آية 19).

 )وَوَهَبنَا لِدَاوُۥدَ سُلَیمَـٰنَۚ نِعمَ ٱلعَبدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ( (سورة ص: آية 30).

 )وَخُذ بِیَدِكَ ضِغثاً فَٱضرِب بِّهِۦ وَلَا تَحنَثۗ إِنَّا وَجَدنَـٰهُ صَابِراۚ نِّعمَ ٱلعَبدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّاب( (سورة ص: آية 44).

 )هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِیظ( (سورة ق : ىية 32)

قد يصح أن يكون لفظ التأويب هو الرجوع إذا كان اللفظ يصف إنساناً، فمعنى الرجوع هو العودة والإقلاع عن شيء ما، لكنَّ إضافة هذا اللفظ للطيروالجبال أعطى للفظ [أواب] بعداً آخر مرتبطاً بالجذر الثنائي وهو: التهيؤ، ومن المعلوم أن الطير كما وضحنا كانت مسخرة في عهد نبي الله داوود، ومن بعد نبي الله سليمان أيضاً، فهل الطير رجعت أو أقلعت عن شيء؟ وماهو هذا الشيء؟

)الطير محشورة كل له أواب( فسرها المفسرون بأنها تسبح مع نبي الله، ولو سلمنا أن الطير تسبِّح بغرض الرجوع عن شيء، فهل الطير أذنب لكي يقلع عن شيء ما ؟

عن طريق تطبيق اللفظ على الآيات سنجد أنَّ المعنى يكاد يخبر عن نفسه، فقد وصف ربنا  نبيه  داوود  وسليمان وكذلك أيوب في الآيات الكريمة بالأوَّاب، وهو كثير التهيؤ، وهنا يعني التخلص من كل الشركاء والتجاذبات الخارجية، ومحاولة الوصول للحالة التي يريد الله عليها عباده.

[أواب]: تعني أن يكون الإنسان مهيئاً لمراد الله، وهو دائماً في هذا الوضع، يحاول بكل الطرق أن يكون في حالة عبادة كاملة وحقيقية لله؛ فلو تتبعنا حالة نبي الله داوود وما قدمه للبشرية، من خلال إدراكه للنظام القضائي السليم ومنظومة العدالة التي أسس لها بفضل الله، وكذلك تطوير كثير من المسائل الحياتية، كما سوف نرى من خلال مفهوم تأوِيب الجبال معه والطير، وكذلك حياة نبي الله سليمان المليئة بمظاهر الخير والتطور للبشرية، مثل: إسالة عين القطر، والتي سوف نأتي عليها من خلال حياة نبي الله سليمان، وسوف ندرك كم كان هؤلاء الأنبياء في حالة تهيؤٍ تام لتقديم كل ما يمكنهم تقديمه للبشرية؛ عبادة لله، ورجاء رحمته.

Ûلفظ [أواب] الذي وصف به الطير هو دليل على استئناس الطير في هذا العصر، وهو عصر نبي الله داوود،  إذ أصبح الطير في هذا العصر أوَّاباً، أي: مهيئاً لأداء مهمته الموكلة إليه من قبل الإنسان، وعن طريق ضم [لفظ سخر ولفظ أوَّاب] الذي وصف حالة الطير في هذا العصر، وغزارة ذكر الطير مع نبي الله داوود،  وابنه سليمان من بعده، نستطيع أن نقول إنَّ لدينا دليلاً دامغاً على تحوُّل غير عادي حدث وطرأ على الطيور وقتها، وهو الاستئناس.

)يا جبال أوِّبي معه(

عظيم أمر الجبال هذا، والذي ذكر أيضاً مع نبي الله داوود، ولابد أن نقف أمام تسبيح الجبال وأمام تأويبها، ونقارن مشاهد حياة نبي الله داوود؛ لنفهم ما المقصود بتلك التعبيرات القرآنية البديعة. 

ذُكر لفظ [الجبال] مع نبي الله داوود  في ثلاثة مواضع في كتاب الله:

 )فَفَهَّمنَـٰهَا سُلَیمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَینَا حُكماً وَعِلماۚ وَسَخَّرنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلجِبَالَ یُسَبِّحنَ وَٱلطَّیرَۚ وَكُنَّا فَـٰعِلِینَ( (سورةالأنبياء : آية 79).

في هذه الآية الكريمة يبدو جليًا أن نبي الله داوود  قد استخدم الجبال في عمل شيء ما، كأمر استئناس الطيور، فما فائدة الجبال؟ وكيف استخدمها نبي الله داوود ؟

إننا أمام معرفة قيِّمة تقودنا مباشرة إلى اكتشاف بداية عصر التعدين الحقيقي، أو عصر استخراج الحديد واستخدامه. والجبال بتكوينها العجيب هي بالطبع مصدر للمعادن والخامات المختلفة، ومعنى أنَّ نبي الله داوود استطاع الاستفادة من هذه الجبال، والانتفاع من مخزونها، فذلك توجيه رباني يرشدنا لبداية حقبة جديدة في حياة الإنسان، وهي دخول المعادن والأدوات المعدنية المصنوعة من الحديد، وذلك على خط تطور البشرية، والتي أثرت -لا شك- في كل مجالات الحياة بعد ذلك .

تاريخياً تقول المصادر إنَّ النحاس يعتبر أول معدن تم استخدامه، وذلك بين عام 6000 و 7000 قبل الميلاد، إذ كان من السهل إيجاد خامته والتعامل معه من حيث الاستخراج، والذي لا يحتاج إلى حرارة عالية في عملية إذابته.

من المعلومات المعتبرة في مجال التعدين ما يعرف بالعصر البرونزي، والذي كان يعتقد الدارسون إلى وقت قريب أنه بدأ في بلاد الرافدين قبل عام 3000 قبل الميلاد.

هناك معلومات جديدة غيَّرت نظرة الباحثين إلى نشأة وبداية العصر البرونزي، إذ تشير الدراسات إلى اكتشاف أدوات مصنوعة من البرونز، تعود إلى عام 3600 قبل الميلاد (البرونز سبيكة من النحاس والقصدير).

بالنسبة إلى الحديد يعتقد العلماء أن أول ظهور لهذا المعدن كان في آسيا الصغرى، وهذا التأكيد يعود إلى دلائل على توافر خامات الحديد في هذه الأماكن؛ مما ساعد الإنسان على التعامل معها وإنتاج الحديد.

معدن الحديد على عكس معدن النحاس والقصدير، يحتاج لحرارة عالية لإسالته واستخلاصه؛ مما جعل عملية الاستفادة منه ليست سهلة، فصعوبة التعامل مع الحديد هو ما جعل الحديد يأتي متأخراً بعد النحاس من حيث عملية الاستخلاص، وذلك برأي الباحثين.

من خلال النظرة السريعة على بداية عصر التعدين نجد أن تحديد وقت ظهور التعدين بشكل قاطع ليس من السهولة بمكان، ولا شك أن عملية تعدين الحديد هي التحول الكبير الذي غيَّر مفهوم الزراعة والصناعة، وأدوات الحرب في تاريخ البشرية.

نعتقد أن هذه الحقبة بدأت تحديداً في عصر نبي الله داوود، ومن خلال الإشارة القرآنية التي تقول أن الله سبحانه وتعالى سخر لنبيه داوود  الجبال.

تسخير الجبال هذا وإن كان عن طريق التحليل يخبرنا أنه مصدر المعادن، ومخزون هام للخامات، إلا أنَّ هناك آية كريمة تضيف لنا معلومات عن المعدن الذي تعامل معه نبي الله داوود،  وهي الآية التي تتحدث عن الحديد وعلاقة نبي الله داوود  بهذا الحديد.

 )وَلَقَد ءَاتَینَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضلاۖ یَـٰجِبَالُ أَوِّبِی مَعَهُۥ وَٱلطَّیرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ( (سورة سبأ: آية 10).

ما معنى )ألنا له الحديد(؟

جذر كلمة [ألنا] هو لين، وأصل الكلمة كما جاء في قاموس اللغة: عكس الخشونة، ولكن ماذا قال المفسرون عن التعبير القرآني )ألنا له الحديد(.؟

 تفسير الطبراني:

«وقوله (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول، يصرفه في يده كيف يشاء، بغير إدخال نار ولا ضرب بحديد.

عن قتادة (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) سخَّر الله له الحديد بغير نار.» انتهى التفسير.

القول بأن الحديد أصبح في يد نبي الله داوود مثل الطين يشكله كيف يشاء هو قول مرسل، ليس عليه دليل، ولم يذكر ربنا أنَّ هذا الفعل كان آيةً من الله لنبيه داوود .

يحتجُّ بعض الباحثين بأن مسألة ألنا له الحديد ليست علماً تعلمه نبي الله داوود،  إذ لو كان علماً لكان الله قال فيه: وعلَّمناه إلانة الحديد مثلًا، لكنَّ لفظ [ألنا له الحديد] يوحي أن العملية كانت شيئاً خارق للعادة حقاً، وأنَّ الحديد كان ليِّناً في يد نبي الله داوود على غير العادة. 

من خلال تتبع التاريخ البشري سنجد أن هناك أشياء استطاع الإنسان الوصول إليها بالعلم، فهو يبدأ بجمع المعطيات اللازمة ودراسة الحالة، ومن ثم استنتاج نتيجة معينة، وغالباً هذه النتيجة على سبيل المثال اختراع ما، بينما هناك أشياء ظهرت في طريق البشرية بدون معطيات، ولو جاز لنا التعبير لقلنا بدون حول ولا قوة أو أي ترتيب، أو كما يقول أهل العلم ظهرت هذه الأشياء صدفة أو ضربة حظ. 

من الأمثلة على ضربة الحظ هذه اكتشاف البنسلين، واكتشاف اشعة إكس، واكتشافات عديدة أخرى، مثل: البلاستيك، واعواد الثقاب، والمطاط المفلكن، والتفلون.

بالنسبة للبنسلين فهو أول مضاد حيوي عرفته البشرية، وقد جاء اكتشافه ليس عن طريق ضربة حظ فقط، بل كان نتيجة خطأ ما، فبعد أن ترك العالم الاسكتلندي ألكسندر فيلمنج طبقاً مختبرياً به بكتريا عنقودية في معمله في مستشفى سانت ماري في إنجلترا، وبعد عودته من إجازته والتي استغرقت أسبوعين وجد أنَّ البكتريا قد تلوثت بعفن فيروزي اللون، وأنَّ البكتريا لم تكن قادرة على النمو حول هذه العفن.

بعد ذلك تم التعرف على هذا الفطر، واستخراج مادة البنسلين القادرة على قتل أنواع عديدة من البكتريا؛ ليصبح البنسلين أول مضاد حيوي، تم بفضله إنقاذ البشرية من أمراض فتاكة.

من الاشياء المثيرة للاهتمام أيضاً اكتشاف أشعة اكس، أو ما يسمَّى: باشعة الكاثود، والتي اكتشفها الطبيب الألماني فيلهلم رونتجن، عندما كان يقوم ببعض الاختبارات ولاحظ إضاءة غريبة في غرفته المظلمة، وأيقن وقتها أنه بصدد اكتشاف نوع جديد من الأشعة، ولأنه لم يعرف كنهها فقد أطلق عليها أشعة اكس.

هذه الاكتشافات لا يمكن القول عنها إنها جاءت نتيجة علمٍ ما أوعن طريق معطيات محددة، بل جاءت مصادفة، ويبدو كذلك أن مسألة إلانة الحديد قد وهبها الله لنبيه داوود عن طريق الاكتشاف وليس العلم.

 ملامح شخصية نبي الله داوود التي وصلتنا من خلال آيات الكتاب، والتي تقول إنه دائم العمل، تعزز هذه الفرضية فيبدو أنه خلال إحدى ممارساته اكتشف تحول خام الحديد (حجارة الحديد) إلى حديد أكثر نقاء؛ مما أكسبه ليونة وقدرة على التشكل.

الآية التالية تعطي ملمحاً هاماً من ملامح هذه العملية، والتي قال عنها ربنا: )ألنا له الحديد(

)أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( (سورة سبأ: آية 11). فما هي السابغات وما معنى قدر في السرد؟

 يقول المفسرون عن السابغات: إنها الدروع،  وقدر في السرد: تعني ثقب الدروع أو مسامير الدروع، كما جاء في تفسير الطبري:

«عن قتادة (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) دروع، وكان أول من صنعها داوود ، إنما كان قبل ذلك صفائح. قال ابن زيد في قوله (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) قال: السابغات،  دروع الحديد.

وقوله (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) اختلف أهل التأويل في السرد؛ فقال بعضهم: السرد هو مسمار حلق الدرع.

عن قتادة (وَقَدِّرْ فِي السرْدِ) قال: كان يجعلها بغير نار، ولا يقرعها بحديد، ثم يسردها. والسرد: المسامير التي في الحلق.

عن قتادة (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) قال: كانت صفائح فأمر أن يسردها حلقًا، وعنى بقوله (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : وقدر المسامير في حلق الدروع حتى يكون بمقدار لا تغلظ المسمار، وتضيق الحلقة فتفصم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسامير وتدقها فتسلس في الحلقة.» انتهى التفسير.

 )اعمل سابغات وقدِّر في السرد( تبدو لي أنها عمليات متعلقة بليونة الحديد، وليست صناعة دروع، فعندما تحدَّث ربنا عن الصناعة التي كانت تطبيقاً مباشراً لليونة الحديد قال: )وعلمناه صنعة لبوس لكم(.

)وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖفَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ( (سورةالأنبياء: آية 80). يمكننا القول إن اللبوس هنا قد يعني الدروع، ولكنَّ السابغات لا تعني الدروع، بل هي طريقة من طرق تعدين الحديد.

جذر كلمة [سابغات] في اللغة هو: سبغ، وتعني: الإتمام والكمال، كما جاء في قاموس اللغة، وجذر كلمة [سبغ] ورد في كتاب الله في موضعين فقط من كتاب الله، أولهما الموضع الذي نحن بصدده، والموضع الآخر في سورة لقمان .

وهما كالتالي: )أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ( (سورة لقمان: آية 20).

أسبغ نعمه، أي: غمر الناس بها بشكل تام وكامل، ويبدو أنَّ المعنِيْ بالقول (اعمل سابغات) هي طريقة تقوم بغمر الحديد في شيء ما، وهذه الطريقة من طرق التعدين قد تكون هي الغمر في النار مثلاً، ولا يمكننا الجزم بحقيقة هذه العملية، غير أننا نؤكِّد أنها عملية من عمليات التَّعدين؛ بسبب التعبير القرآني التالي وهو )قدر في السرد(.

جذر  كلمة السرد -كما في قاموس اللغة- لها أصل واحد، وهو توالي أشياء كثيرة يتصل بعضها ببعض، والسرد هو ما نسميه نحن بعملية الطَّرق، فعملية الطرق هي عملية ميكانيكية، نقوم من خلالها بالطرق على المعدن؛ بغرض سحبه وجعله يبدو أطول، وبشكل بسيط عملية الطرق هي عملية مطِّ المعدن عن طريق طرقه بالمطارق، ويبدو لي أن لفظ السرد هو الذي نستخدمه في التعبير عن سرد القصص والحكايات، في صورة من صور مطِّ وإطناب حدث معين، عن طريق قصِّ جميع التفاصيل، والسرد في حد ذاته عملية تطويل أو مدٍّ للشيء،  وهو ما يعرف في حالة المعادن بعملية الطرق.

من هنا يمكننا القول إنَّ قول الله سبحانه وتعالى عن نبيه داوود )ألنا له الحديد( تعني أنَّ الحديد لم يكن قابلاً للتشكُّل قبل هذا اليوم، ولكن مع حقبة نبي الله داوود أصبح الحديد قابلاً للتشكيل، ومن ثم الاستخدام والاستفادة منه. 

 )إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ( (سورة ص: آية 18)

بالرغم من أن جذر كلمة [التسبيح] تعني الحركة المستمرة، وكذلك المعلومات العلمية المتاحة تقول إن كل شيء يتحرك، أو أنَّ كل شيء في حركة دائمة، حتى إن نظرية الأوتار الفائقة تقول إنَّ الكون عبارة عن أوتار في حالة حركة، أو ما يمكن أن نطلق عليه اهتزازات. ويبدو أنَّ الجبال بتكوينها الضخم لا تخرج عن هذا القانون، لأنَّ مما لا شكَّ فيه أن الذرات والجزئيات التي تكوِّن تراكمات الجبال في حالة حركة مستمرة، إلا أننا نؤكِّد أنَّ الجبال نفسها أو تكوين الجبال هو الذي في حالة حركة مستمرة، وقد تكون هذه الحركة هي عمليات التراكم والتعرية؛ بسبب العوامل الجوية، أو قد تكون حركات أخرى نحن غير قادرين على إدراكها في الوقت الحالي.

 لقد نسب المفسرون عملية التسبيح هذه إلى مسألة التسبيح التقليدية؛ وهي ذكر الله باللسان، كما جاء في تفسير الطبري:

«وقوله )إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ( يقول تعالى ذكره: إنا سخرنا الجبال يسبحن مع داوود  بالعشيّ، وذلك من وقت العصر إلى الليل، والإشراق، وذلك بالغداة وقت الضحى. ذُكر أن داوود كان إذا سبح سبحت معه الجبال. عن قتادة )إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ(  يسبحن مع داوود إذا سبح بالعشيّ والإشراق. قال ابن زيد، في قوله )بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ( قال: حين تُشرق الشمس وتضحى.» انتهى التفسير

لا شك أن كل شيء يسبح لله كما ذكر الله في كتابه الكريم، ولكن الناس لا تفقه كنه هذا التسبيح:

)تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا( (سورةالإسراء : آية44 ).

مسألة التسبيح التي تعارف عليها الناس من أنها قول: سبحان الله باللسان، لا تفي ولا تحقق مدلول السبح، ولكنَّ مفهوم التسبيح بأن يجعل الإنسان كل حركاته وكل سكناته لله، فهو المفهوم الأشمل والأعم، وإذا كانت الأشياء غير المكلَّفة مثل السماوات والأرض ومن فيهن تسبح لله، أي: في حالة حركة مستمرة؛ تنفيذاً لأقدار الله، فإنَّ الإنسان وهو الكائن الوحيد صاحب الإرادة الحرة مُطالب بأن يجعل جميع حركاته التي له فيها الخيرة متفقةً تماماً مع مراد الله، وهذا هو تمام التسبيح.

إننا أمام أمرٍ يدعو للتفكير طويلاً في سر هذا التسبيح، وعلاقة هذا التسبيح بالضوء، إذ إنَّ الجبال تسبِّح بالعشيِّ والإشراق، ومن يظن أنَّ الحقائق تكشَّفت جميعها فهو واهم، فكثير من الأمور يكتنفها الغموض، وغير واضحة بشكل قطعيٍّ، فدعونا نترك أمر حركة الجبال وعلاقتها بالضوء جانباً، وربما فتحت الباب أمام أحد المتخصصين ليخبرنا عن سرٍّ من أسرار هذه الجبال الشوامخ، وكيف تكونت، ولكنْ ما يمكننا تأكيده حاليًا هو أنَّ هناك علاقة قائمة بين الجبال والمناخ وحركة الشمس ولا يمكن إنكارها، وربما هذه العلاقة هي ما تفتح أمامنا الباب حول كيفية نشأة وتكوين الجبال.

حقبة نبي الله سليمان:

حقبة نبي الله سليمان كانت نتيجة وتطبيقاً مباشراً لما تمَّ تأسيسه في عهد نبي الله داوود،  حيث العدالة، وتأسيس نظام للقضاء قويٍّ وقائم على أساس متين، وكذلك اكتشاف معدن ؛ والذي لا شك غيَّر تاريخ البشرية، وقفز بها قفزة نوعيَّة في جميع المجالات، سواء الزراعة أو المجالات العسكرية؛ مما يهيِّئ ملكاً عظيماً لنبي الله سليمان، والذي قصَّ القرآن خبره وأشار إليه:

)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ( (سورة ص: الآية 35).

في حياة نبي الله سليمان مشاهد عديدة، نستطيع من خلالها إلقاء الضوء على الحضارة الإنسانية وفهم تطورها,. ومن هذه المشاهد التعبير القرآني )وأسلنا له عين القطر(، والتي يبدو أنها كانت مرتبطة بمسألة التعدين، واكتشاف الحديد في زمن نبي الله داوود.

فما هو القطر ؟

)وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ( (سورة سبأ:آية 12).

ذكر لفظ [قطر] في كتاب الله في ثلاثة مواضع، الآية التي نحن بصددها، وآيتان، كالتالي :

)سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ( (سورة إبراهيم:آية 50).

)آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( (سورة الكهف:آية 96).

 فسر المفسرون كلمة [قطر] على أنها النحاس، وقد جاء في تفسير الطبري ما يلي:

«وقوله )وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ( يقول: وأذبنا له عين النحاس، وأجريناها له.

عن قتادة )وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ( عين النحاس كانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع اليوم بما أخرج الله لسليمان. قال ابن زيد في قوله )وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ( قال: الصِّفر سال كما يسيل الماء، يعمل به كما كان يعمل العجين في اللبن. عن ابن عباس قوله )وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ( يقول: النحاس» انتهى التفسير.

 كذلك لفظ [قطر] في سورة الكهف، فسَّره المفسرون على أنه النحاس، أو الحديد المذاب في أحد الأقوال، كما جاء في تفسير الطبري:

«وقوله: )أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( يقول: أصبّ عليه قِطراً، والقِطْر: النحاس. عن ابن عباس، قوله  )أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( قال: القطر: النحاس. عن قتادة )أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا( أي: النحاس ليلزمه به. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: القِطر: الحديد المذاب» انتهى التفسير.

 في سورة إبراهيم أيضا قال المفسرون عن [القطران] هو النحاس المذاب، كما في تفسير القرطبي:

«)سرابيلهم من قطران( أي قمصهم، عن ابن دريد وغيره ، واحدها سربال ، والفعل تسربلت.  من قطران يعني قطران الإبل الذي تهنأ به، قاله الحسن . وذلك أبلغ لاشتعال النار فيهم.» انتهى التفسير

 من خلال التفاسير نجد إصراراً على أن القطر هو النحاس، رغم ذكر النحاس صراحة في كتاب الله، وقال عنه المفسرون أيضاً أنه الصفر المذاب، والصفر المذاب هو معدن النحاس، وكان العرب يسمونه الصفر :

)يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ( (سورة الرحمن: آية 35). عندما فسر المفسرون هذه الآية الكريمة، ذكر بعضهم أنَّ المقصود بالنحاس هو: الدخان، رغم ذكر الدخان صراحة في كتاب الله أيضًا ، وقال بعضهم -كما ذكرنا- أنه الصفر المذاب، كما جاء في تفسير الطبري:

«وأما قوله: )ونُحاسٌ(، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم: عُنِي به الدخان. عن ابن عباس، في قوله: )وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ( قال: النحاس: الدخان. عن سعيد، في قوله:(ونُحاسٌ): قال: دخان. وقال آخرون : عني بالنحاس في هذا الموضع: الصُّفر.

عن ابن عباس (ونُحاسٌ) قال: النحاس: الصفر يعذّبون به. عن مجاهد (ونُحاسٌ) قال: يذاب الصفر من فوق رءوسهم. عن سفيان، (ونُحاسٌ): يذاب الصفر فيصبّ على رءوسهم. عن قتادة، (ونُحاسٌ) قال: توعدهما بالصُّفر كما تسمعون أن يعذّبهما به.» انتهى التفسير. 

لفظ [قطر] لا يعني نحاساً؛ لأن لفظ [نحاس] ذكر صراحة في كتاب الله، وفسره المفسرون على أنه الصفر بلغة العرب، إذا ما هو القطر؟

في قاموس اللغة كلمة قطر تعني التتابع، ومن خلال كتاب الله، وخصوصاً الآية الكريمة التي تتحدث عن محاولة ذي القرنين بناء ردم، والذي استخدم فيه حديداً مصهوراً مع القطر؛ لزيادة الصلابة؛ سنجد أنّ المقصود بالقطر هو: الفحم أو الكربون بالمفهوم العلمي، وخاصيَّة التتابع هذه تنطبق تماماً مع خصائص وصفات الفحم، خصوصاً الفحم الحجري.

 الفحم الحجري يتكون من خلال أربع مراحل كالتالي:

1. المرحلة الأولى: تتضمن تجميع المواد العضوية، مثل: النباتات والطحالب والشجيرات في منطقة معينة، حيث تتفسخ هذه المواد العضوية بتأثير البكتيريا، منتجة ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان.  

2. المرحلة الثانية: تبدأ عندما تدفن المكونات السابقة تحت سطح الأرض، ويتم عزلها عن الهواء تمامًا؛ فعملية الدفن تحت سطح الأرض والعزل عن الهواء يتيح الفرصة لعمل البكتيريا اللاهوائية، لعمل تَحلُل للمكونات النباتية، والتي تحتاج لفترة زمنية طويلة نسبيًا قد تصل لعدة آلاف من السنين.

3. المرحلة الثالثة: يتم فيها دفن هذه المكونات على أعماق بعيدة داخل سطح الأرض؛ مما يساعد على نزع الماء بفعل الضغط الكبير، ومن ثم يتكون الفحم، وتكون جودته منخفضة نسبيًا.

4. المرحلة الرابعة: تحتاج لوقت طويل، فزيادة الضغط والحرارة تساعدان على زيادة جودة الفحم، وتحوِّله للون الأسود ذي كفاءة عالية جدًا.

هذا التتابع في المراحل هو أهم خصائص مركبات الفحم الحجري، وكذلك يوجد تتابع آخر لابد أن يؤخذ في الاعتبار؛ وهو عملية التقطير التي تتم على الفحم، وتعطي مجموعة من المركبات.

عملية التقطير هذه هي المقصودة في قول الله تعالى )وأسلنا له عين القطر(، فعين القطر بناء على مفهوم ومدلول كلمة [عين] -من خلال الجزء الثاني- فهي تصف حالةً من الفيض والتدفق، وتعني هنا منجماً طبيعياً للفحم، والقطر بالقطع هو الفحم، وعملية الإسالة هي عملية التقطير التي تجرى على الفحم.

التعبير القرآني )أسلنا له عين القطر( يشبه تماماً التعبير القرآني الذي استخدمه كتاب الله عندما عبَّر عن اكتشاف تعدين الحديد، بقوله: )ألنا له الحديد(، فيبدو تماماً أن عملية الإسالة التي توصل له نبي الله سليمان كانت بدون حول ولا قوة منه، أي: ليست عن طريق علم معين، كما حدث معه في فهم منطق الطير؛ فعندما أخبرنا كتاب الله عن قدرات نبي الله سليمان، والأشياء المسخرة له، جاء لفظ [علم] مع منطق الطير، بينما عند الحديث عن [القطر] جاء التعبير القرآني بلفظ [أسلنا] وليس علَّمنا؛ إذاً عملية الإسالة تمَّت دون مقدمات علميَّة، وكأن نبي الله سليمان كان يجري أمراً ما، ثم اكتشف عملية الإسالة هذه.

 مرحلة نبي الله داوود، ومن بعده نبي الله سليمان، تبدو أنها شهدت قفزات تطورية عظيمة في مجال التعدين والمعادن؛ فكما ظهر تعدين الحديد على يد نبي الله داوود،  فقد ظهر التقطير أو إسالة الفحم الحجري على يد نبي الله سليمان.

- التقطير الإتلافي للفحم:

عملية التقطير الإتلافي للفحم تتم عن طريق تسخين الفحم بمعزل عن الهواء، إذ يتحول الفحم إلى مجموعة من المركبات الصلبة والسائلة والغازية، والمواد الناتجة من عملية التقطير تعتمد بشكل أساسي على درجة الحرارة المستخدمة، وطبيعة الفحم المستخدم كذلك؛ فعند درجات الحرارة المنخفضة تكون النواتج السائلة كبيرة مقارنة بـالنواتج الغازية، إذ تحتوي السوائل الناتجة على مجموعة من الأحماض وأسس قطرانية.  

إن كان تقطير الفحم الإتلافي بشكله الحديث لم يُعرف إلا حديثاً، إلا أنَّ المصادر التاريخية تشير إلى أن القطران -وهو ناتج من نواتج التقطير الإتلافي للفحم- كان معروفاً لدى القدماء المصريين قبل 1000 ق م.

يبدو لنا أن عملية التقطير الإتلافي للفحم أو إسالة الفحم كما ذكرها القرآن قد تمت في عهد نبي  الله سليمان، ولكن بسبب معارف العرب المحدودة في هذا الجانب؛ لم ينتبهوا إلى لفظ [القطر] وعملية الإسالة هذه التي ذُكرت في كتاب الله، حتى إنهم فسروا القطر على أنه النحاس. 

لا شك أن حقبة نبي الله سليمان كانت مليئة بمظاهر التطور والمعارف، وقد أفردنا فصلين في الجزء الثاني عن مشاهد فريدة من هذه الحقبة.

 حقبة نبي الله زكريا:

بعد حقبة نبي الله سليمان تأتي حقبة نبي الله زكريا، والتي كانت مقدمة لظهور نبي الله عيسى، وسوف نفرد لنبي الله عيسى ومعجزاته، وعلامات يوم القيامة جزءاً كاملاً؛ بسبب غزارة النظريات المعرفية المرتبطة بظهور نبي الله عيسى.

حقبة نبي الله زكريا تؤشر ربما لظهور مرحلة الفلسفة، فظهر لفظ [يتكلم]  بكثافة لا مثيل لها في هذه الحقبة، وكما أشرنا فإن الكلام يختلف تماماً عن مجرد القول أو الحديث، وقد أفردنا في الجزء الأول فصلين كاملين عن معجزة نبي الله عيسى، وكيف تكلَّم صبياً وليس رضيعاً، وكذلك استطعنا تتبع لفظ [الكلام] منذ آدم عليه السلام، وحتى ظهوره بكثافة في عهد نبي الله زكريا.

في حين كان ظهور لفظ الكلام غائبا طوال التاريخ الإنساني، إلا أنه ظهر مع حقبة نبي الله زكريا، كما سوف نرى.

)قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ( (سورة آل عمران: آية 41).

نبي الله زكريا كانت له آية من الله ألا يكلم الناس؛ فمن الواضح أنه كانت له قدرة كبيرة على الكلام، الذي يعني التعبير البليغ والقول الحكيم، وتتبع لفظ الكلام في كتاب الله دفعنا للقول إنَّ المقصود بالكلام هو مرحلة متقدمة جداً، إذ يستطيع كل الناس النطق والقول، ولكنَّ القدرة على الكلام بمعناه القرآني لا يستطيعها إلا الشخص الحكيم، وفي مرحلة نبي الله زكريا نجد كذلك  السيدة مريم، فكما ورد في سورة آل عمران كانت لديها هذه القدرة وهذه الميزة.

)فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا( (سورة مريم: آية 26).

وحتى القوم المعاصرون للسيدة مريم بدت لديهم قدرة متطورة على الكلام:

)فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا( (سورة مريم: آية 29 ).

من غزارة ذكر لفظ الكلام في هذه الحقبة نستطيع أن ندرك أنَّ العقول تطورت بشكل كبير جداً، حتى أصبح التعبير عن الأفكار متطوراً بشكل كبير وبليغ، ومقصود هذا التطور في التعبير عن الأفكار لهو البذرة الحقيقية لظهور الفلسفة، فدون هذه القدرة العقلية في التعبير عن الفكرة بشكل بليغ فلا وجود لما يسمى الفلسفة، ويبدو لنا أن المجتمع  وقت نبي الله زكريا كان مجتمعاً يموج بالفلاسفة، أو أنَّ بذرة الفلسفة بدأت من هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أكثر الصفحات مشاهدة