الفصل الثاني عشر
"إلا ليعبدون"
لو لم نفهم نظرية التطور
ما كان لنا أبداً فهم مدلول كلمة عبد, والتي تُفهم على غير معناها, بل أساءت
كثيرًا لمفهوم الحرية في كتاب الله.
السؤال
الأبرز: لماذا نحن هنا؟ ولماذا خلقنا الله؟ هذه الأسئلة أجاب عنها كتاب الله بشكل
بسيط، ولكنْ بسبب غياب منهج علمي في فهم الكلمات غابت الإجابة، وحلَّ محلها ترانيم
الشيوخ التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تروي ظمأ المتعطشين للمعرفة.
عندما قال ربنا في كتابه )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(
(سورة الذاريات :الآية 56) كان هذا هو الإعلان الذي بموجبه تقررت مهمة الإنسان
المطوَّر على الأرض، بأنْ يتحمل مسؤولية هذا الكون، ويحاول الانسجام مع مكوناته، وأن
يتحاشي الخلل أو الشذوذ، فهل ينجح الإنسان في تحمل مسؤولياته، أم أنه سوف يفسد في
الأرض ويسفك الدماء ؟
لقد
كان هذا هو سؤال الملائكة عندما أخبرهم ربنا أنه
سوف يجعل في الأرض خليفة، وكان رد ربنا سبحانه وتعالى: إني أعلم ما لا
تعلمون.
- ما هي
العبادة؟ وما مفهوم كلمة عبد؟
استقر
في وجدان كثير من المفسرين أنَّ معنى العبادة هو الذل والخضوع أو الطاعة، وهذا ما ينفيه مدلول الكلمة في كتاب
الله، وما ينفيه أيضًا هو الحرية التي أرادها الله لعباده، من حيث قبولهم أو رفضهم
الطاعة، وذلك عندما قال في سورة الكهف )وَقُلِ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ
فَلْيَكْفُرْۚ إِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن
يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَۚ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (
(سورةالكهف : الآية 29).
- إنَّ كثافة
الآيات التي تشير إلى حرية الاختيار تتنافى تمامًا مع مدلول الكلمة لدى أهل
الجزيرة؛ من أنها تعني الاستعباد؛ أي: أنَّ الإنسان مملوك لا يملك من أمره شيئاً، فكيف
يستقيم مفهوم الآية -كما فسرها المفسرون؛ وهو أن مفهوم يعبدون أي يخضعون ويطيعون-
ونحن نرى حال الناس؛ منهم الطائع ومنهم العاصي ومنهم من لا يعترف بوجود إله من
الأساس؟
لا
شك أن جمعاً من المفسرين حاول الخروج من هذا المأزق؛ عبر القول إنَّ تأويل الآية
مخصص للطائعين، ومنهم من قال إنَّ الآية تعني: (وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم
بالعبادة).
إنَّ
الآية واضحةٌ، ليس فيها تخصيص، بل هي خبر عام، وليس في الآية ما يدل على مسألة
الأمر تلك، ولكننا لو حاولنا فهم مدلول كلمة [عبد] لانتهت المشكلة، ولحُلَّت
إشكالية وجود الإنسان، ومهمته على هذه الأرض.
لو
لم نفهم نظرية التطور ما كان لنا أبداً فهم مدلول كلمة عبد، والتي تُفهم على غير
معناها، بل أساءت كثيرًا لمفهوم الحرية في كتاب الله.
بدايةً
دعونا نسرد ما قاله ابن فارس عن أصل كلمة [عبد]:
تبعًا لقاموس اللغة فإنَّ جذر كلمة [عبد] له أصلان، أحدهما الطاعة
والخضوع، والآخر الشدة والعصيان، وهذا يعني أنَّ الكلمة تحمل معنيين متضادين! وكما
وضحنا في الجزء الثاني أنَّ الكلمات القرآنية هي كلمات حقيقيَّة، مصدرها إلهي، تصف
حالةً معينة، لا تحمل أيَّ تضاد، ووقتها لم نقدم أمثلة، ولعلَّ الوقت حضر لكي نقدم
مثالاً من أوضح الأمثلة على عدم وجود التضاد في اللغة الإلهية التي نزل بها القرآن.
خلق
الله الإنسان والجنَّ للعبادة، ومن خلال تتبع لفظ [العبادة] في كتاب الله، حيث
أرشد ربنا الخَلق إلى الطريق المستقيم وعدم الإفساد، وكذلك اجتناب اتباع الطاغوت، فنجد
من ذلك أن لفظ [عبد] يعني مسؤول أو مكلف.
فلا
طاعة ولا معصية بدون تكليفات محددة، فالأصل في الإنسان أنه مكلف ومسؤول، فإذا قام
بمسؤولياته حقق الهدف الأسمى من وجوده، وإذا تخلى أو أساء استخدام هذه المسؤولية
وهذا التكليف فقد غوى؛ كما حدث مع آدم عندما أكل من الشجرة برغم وجود تكليف صريح
بعدم الأكل، وأن مسؤوليته هي عدم الاقتراب من هذه الشجرة، كما بيَّنا في الفصول
السابقة.
فما
هي المسؤولية أو التكليف الملقى على عاتق هذا المخلوق؟
الكون
بجميع مكوناته يسير في نظام محكم بداية من نظام الذرات والخلايا إلى أكبر وحدة في
هذا الكون، وكلٌ يجري في فلك محدد ووظيفة محددة دون اختيار، إلا الإنسان هو الكائن
الوحيد الذي يملك حق الاعتراض والرفض والاختيار .
حق الاختيار هذا من الممكن أن يسبب خللاً في
النظام الكوني برمَّته إذا أسيء استخدامه,. لذا كان التكليف من الله للمخلوق صاحب
الإرادة الحرة هو الانسجام مع الكون، وإدارته بكفاءة، فهل ينجح الإنسان في هذا
الاختبار؟ وخصوصاً أنَّ لديه معطيات و قدرات عقلية متطورة وتتطور باستمرار، أضف
إلى ذلك عناية الله للإنسان، وتقرُّب الملائكة له ودعمهم له، كما بيَّنا في
مفهوم سجود الملائكة لآدم.
- إذاً
المسؤولية الرئيسة للإنسان هي ضبط بوصلة الكون وعدم الإفساد، من خلال منظومة
معرفية وأخلاقية متميزة، ومن خلال توجيه ذاتي بديع، وهذا التوجيه تمثَّل في فطرة
تقبل الخير وتنفر من الشر، وكذلك توجيهات إلهية انتقلت عبر الرسل وعبر الكتب
السماوية؛ لتصحيح مسار البشرية، وإعادة توجيه الإنسان إذا ضل وانحرف عن المسار
الصحيح.
العبد
هو المسؤول أو المكلف، وعلى ذلك تعني
العبودية المسؤولية أو التكليف بالمفهوم المعاصر، وعندما استخدم العرب لفظ [العبد]
أطلقوه على من يقوم بالأعمال، أو المكلف من قبل سيده بأداء أعمال معينة، وبسبب
ثقافة المجتمعات العربية القديمة اتخذ مفهوم العبودية ومفهوم العبد سمعة سيِّئة، لأن
من ضمن صفاته الخضوع والذل، حتى إنَّ العبد والجارية في التاريخ يعد من المتاع، وليس
له أدنى اعتبار أو أي إرادة، وانسحب هذا المعنى على كتاب الله، وأصبح مفهوم العبد
في كتاب الله تابعاً لما فهمه العرب، بالرغم من أنَّ كتاب الله نفسه يقوِّم ويصحح
هذا المفهوم؛ من خلال الإشارة المستمرة لحرية الإرادة وحرية الفعل لدى هذا العبد، والقائمة
على ركن أساسي وهو إحساسه بالمسؤولية، وتلقية التكليف وفهمه إياه.
تبعاً
لذلك هناك نوعان رئيسان للعبودية:
- أولهما: عبد لله؛
وهو الذي يسير تبعًا للتوجيهات والتعليمات السليمة، والتي يحصل عليها من طرق عدة، منها
ما هو ذاتي ( الضمير)، ومنها ما هو موحى ( الرسالة)، ومنها ما هو معرفيٌّ، من
تراكم المعرفة بالخبرة الحياتية.
- ثانيهما: عبد لغير
الله، وغير الله تشمل مسميات عديدة، من أهمها: الطاغوت (أيّ سلطة)، وهذا النوع من العبودية هو أيضاً عبودية
اختيارية؛ إذ يختار فيها الإنسان رفض السير بشكل مستقيم، ورفض المسؤولية الملقاة
على عاتقه، ويستبدل بها مسؤوليات أخرى، ووفقاً لوجهة نظره سوف تكون أكثر إفادة له.
- من هنا معنى
عبد ليس فيه أيُّ تضاد؛ إذ إنَّ [عبد] تعني مسؤول أو يحمل مسؤولية، ولكنَّ نوع
المسؤولية ونوع التكليفات التي يتلقاها هي ما تحدد طبيعة هذا العبد.
- لفظ [يعبدون]
يعني تحمُّل المسؤولية، وهذا ما يقر به الواقع؛ إذ الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي
يتحرك وفق تكاليف ومسؤوليات متعددة، منها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها
ما هو وراثي، ومنها ما هو وطني وقومي، وهكذا، ووضع كل هذه المسؤوليات والتكاليف في
شكلها الصحيح دون تجاوز أو انحراف، وبشكل يتوافق مع البرنامج الإلهي؛ هو تمام
العبودية لله؛ أي: يعمل وفق توجيهات الخالق ومراده.
إنَّ
مفهوم عبد يشبه إلى حد كبير مفهوم موظَّف، قيمة هذا الموظف وقدره ومهامه سوف تختلف
باختلاف الجهة التي يعمل لها، ومن خلال مقارنة مفهوم موظف في فترة الستينات مثلاً
في الإقطاعيات أو حتى في المجتمعات الملكية أو الدكتاتورية، نجد هذا الموظف أقرب
للذل والخضوع وتنفيذ الأمر دون مناقشة، وبالمقابل فالموظف في الشركات العملاقة
-مثل: شركة جوجل- له مساحة كبيرة جداً من الإبداع
والنقاش والحركة، ويملك أسهما في الشركة أيضاً، إذ تعتمد هذه الشركات على
مفهوم الموظف المسؤول؛ الذي يفهم مسؤوليته تماماً، ويعمل من خلالها.
للأسف؛
الحالة الأولى هي الحالة التي سادت في وصف العبد، فأصبحت كلمة [عبد] مرادفة لشخص
لا يملك من أمره شيئاً؛ مما انعكس سلبياً
على فهم الغرض من الحياة، ومن خلق الإنسان.
لترسيخ مفهوم كلمة عبد ومدلولها من خلال كتاب
الله؛ سوف نحاول تحليل الكلمة وتتبعها في الآيات القرآنية قدر استطعتنا.
ذُكرت
كلمة [عبد] ومشتقاتها في كتاب الله أكثر من150 مرة، ولن
نستطيع المرور على كل الآيات لتوضيح معنى [العبد والعبودية]، ولكن سوف نتوقف أمام
مجموعة من الآيات حتى نستوضح مفهوم [العبد] وبالتالي مفهوم العبودية:
- )إِنَّ اللّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(
(سورة آل عمران: الآية 51).
لفظ
[فاعبدوه] في الآية الكريمة يعني هنا: تلقوا التكليفات التي تستقيم بها معيشتكم،
وهذه التكليفات تم توضيحها وتفصيلها في سورة الأنعام، الآيات 151، 152، حيث جاءت
هذه التكليفات أنها تعريف للصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه والمذكور في
الآية محلِّ دراستنا.
)قُلْ
تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاۖ
وَلَاتَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍۖ نَّحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْۖ وَلَاتَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۖ وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ
اللَّهِ أَوْفُواۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُۖ
وَلَاتَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِۚ ذَٰلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)( (سورة الانعام: الآيات 151-153).
هذه
التكليفات والأوامر ليست جبرية؛ بمعنى أنَّ الإنسان يستطيع بكامل إرادته أن يفعلها
أو ألّا يفعلها، وطالما أن الإنسان مخيرٌ وليس مجبراً في اتباع الصراط المستقيم، أو
عدم اتباعه، فلا يمكن أن يكون مفهوم [عبد] هو الذل والخضوع، أو الذي لا يملك من
شأنه شيئاً، ولكن مفهوم أنه مسؤول ومحملٌ بهذه التكليفات حتى تستقيم الحياة هو
الأنسب، والموافق للآية الكريمة.
الصراط
المستقيم هنا بمثابة اللوائح والقوانين التي يعمل من خلالها العبد، فله أن يتبعها
فيحقق الهدف المرجو، وإن خالفها فقد أخلَّ بالميثاق والعقد الذي يحكم علاقته
بالكون وخالقه.
مفهوم
العبادة لله يتقاطع تماماً مع مفهوم العبادة لغير الله، وكل من يتلقى تكليفات
تخالف التكليفات الرئيسة ويعمل بها، هو في الحقيقة واقع في الشرك :
)قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(
(سورة آل عمران: الآية 64).
من
خلال الآية الكريمة، نجد أن مفهوم العبودية لله هي كل فعل يرضاه الله سواء أنزله
في كتابه، أو وافق الفطرة السليمة، وكل محاولات الإفساد الناتجة من عدم اتباع
البرنامج الإلهي هي في الحقيقة محاولات شركية، فهي تستبدل التكليف الإلهي بتكليف
آخر ما أنزل الله به من سلطان.
مثال
ذلك: الأمر الإلهي المتمثل في )إذا قلتم
فاعدلوا ولو كان ذا قربي(، ما
الذي يدفع الإنسان لعدم العدل في القول؟ الأمر الإلهي في غاية الوضوح، إذا قلتم
فاعدلوا، ولكنَّ الإنسان تحت وطأة مسؤوليات اخرى، مثل: القرابة، أو الطمع في منصب
ما، أو التقرب إلى سلطة ما، أو الخوف من سلطة ما؛ يجور هذا الإنسان ولا يقوم
بالقسط، والآية الكريمة تتحدث عن الحد الأدني من القسط والعدل، وهو العدل في
القول.
كثير من رجال الدين يعتقدون أنَّ الشرك الذي
تحدث عنه ربنا في كتابه متعلق بالأصنام، وبتلك التصرفات التي كان يفعلها العرب في حياتهم
البدائية، حيث لا مؤسسات ولا علاقات
متشابكة بالقدر الذي نراه، لكنَّ المتدبر للآية الكريمة يعلم جيداً أن مظاهر الشرك
عديدة، أدناها عدم العدل في القول، وتشمل كلَّ انحراف عن التعليمات السليمة.
مفهوم
الشرك
هو أن يستقي الإنسان التعليمات التي
تستقيم بها الحياة من مصدرين مختلفين، والشرك بالله يعني أنَّ الإنسان استبدل
التكليف الإلهيَّ بتكليف آخر غير إلهي، ويخالف التعليمات الإلهية.
الأمر
يشبه إلى حد كبير التزام الإنسان بالقانون
في الدولة؛ ولنفترض أنَّ رجل الشرطة لديه تكليفات ومسؤوليات محددة يحددها القانون،
فهنا اتباع القانون هو ما يجعل رجل الشرطة هذا مسؤولاً حقيقيَّاً يؤدي دوره
باقتدار، ولا يمكن في تلك اللحظة القول إنَّ رجل الشرطة عبد القانون أو عبد رئيسه
المباشر، ولكنَّ الأصح أن نقول: أنه مكلف
بتنفيذ القانون، فإذا خالف رجل الشرطة القانون لمصلحة رئيسه مثلاً، أو تحت أيِّ
ضغط؛ يكون في هذه اللحظة استبدل تكليفات القانون بتكليفات أخرى، أو أنه أشرك
تكليفات أخرى مع التكليفات الأساسية، ولذلك يصبح مشركاً، وهنا تكمن الكارثة ويحدث
الاضطراب.
- )لَّن
يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جميعاً(
(سورة النساء : الآية 172).
قد
يستشكل على البعض لفظ [يستنكف]، والذي فسَّره المفسرون على أنه يعني الاستكبار، بمعنى
أن المسيح لا يستكبر أن يكون عبداً لله.
تأويل
لفظ [يستنكف] على أنه يستكبر موافق لمفهوم العبادة بأنها الذل والخضوع بمفهومها
البشري، ولكن إذا دققنا النظر في جذر كلمة [يستنكف] وأصلها [نكف] وتعني قطع الشيء
وتنحيته؛ يظهر جلياً أنَّ العبادة بمفهومها القرآني وهي المسؤولية هي المقصودة؛
فالمسيح لا يمكن أن يتخلى أو يطلب التنحي عن التكليفات والمسؤوليات التي أوكله
الله بها، وكذلك الملائكة المقربون هم مكلفون بتكليفات محددة، وهذا المعنى تؤكده
الآية الكريمة في سورة المائدة، عندما أجاب ربه أنه ما قال إلا ما أمره الله به، ونفَّذ
التعليمات بشكل كامل، وأدى المسؤوليات المنوط به تأديتها:
)إِذْ قَالَ
اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ
قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا
فِي نَفْسِكَۚ إِنَّكَ
أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(
(سورة المائدة: الآية 116).
الاستنكاف
أقرب إلى الإهمال والتفريط، وليس للاستكبار، فبينما يؤدى الإهمال إلى التقصير وعدم
إتمام المهمة، يؤدى الاستكبار مباشرة إلى الكفر؛ بسبب جحود الحقيقة، والفرق بينهما جد كبير.
- )وَقَالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ
نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(
(سورة النحل: الآية 35(
هذه
الآية تنفي العبودية بمفهومها البشري بشكل تام، حيث تشير الآية الكريمة إلى أولئك
الذين يتحججون بالجبرية، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه آلهة، ويخبرنا كتاب
الله أنَّ فرضية هؤلاء ساقطة، وأنَّ لهم مطلق الحرية في اختيار ما يعبدون، فلا يجب
التحجج بحجة ساقطة كهذه؛ بأن لو شاء الله
ما عبدوا من دونه.
للأسف
الشديد مفهوم العبد الذي لا يملك من أمره شيئاً تجده حاضراً في تصرفات كثير من أمة
محمد صلوات ربي عليه، فكم من الأمور التي
يستسلم لها المرء بحجة هذه مشيئة الله، لو شاء ما حدث هذا، وهذا المفهوم السلبي عن
المشيئة وعن العبودية سبَّب كوارثَ لا حصر لها، و لنعطِ مثالاً حتى يستقيم المعنى
ويتضح، نفترض بعضاً من الحالات كالآتي:
jشخص توجه إلى
المستشفى في حالة حرجة، وبسبب تأخُّر الإجراءات، أو عدم وجود إمكانيات؛ توفِّي هذا
الشخص.
- شخص يسير في
الطريق، وجاءت سيارة مسرعة وقتلته.
- شخص لم يحصل
على تعليم جيِّد، وبالتالى لم يحصل على وظيفة، وحياته مليئة بالاضطرابات.
كل
هذه الحالات ومثلها الكثير والكثير، يمكن تبريرها من خلال مفهوم العبودية السلبي؛
بأن كل شيء بمشيئة الله، وأن الله لو شاء ما حدث كل ذلك، وهذا الاعتقاد هو اعتقاد شركيٌّ بامتياز، والذي -للأسف الشديد- يسوِّق له كثير من رجال
الدين الذين لا يكادون يفقهون قولاً.
مفهوم العبودية القرآني يدفعك دفعاً لبحث أسباب كل ما حدث، والتساؤل لماذا حدث؟ وما هي التكليفات والمسؤوليات التي أدت إلى ذلك؟، هذا المفهوم الإيجابي هو الكفيل بتتبع الفساد وكشفه، وتقويم الانحراف وتعديل مسار الحياة، وهو عين العبودية التي طلب الله من عباده الالتزام بها.
بقدرٍ
بسيط من المنطق، نجد أن مفهوم البشري للعبد يعني الجبرية، بحيث إذا قضي السيد
أمراً لا يمكن للعبد أن يعصيه، ولكنَّ المعنى القرآني ينفي ذلك تمامًا، من ناحية
حق الاختيار القرار، فهل من يقرر ويختار ينطبق عليه مسمى العبد بالمفهوم البشري؟
أم أنه في وضع المسؤولية؟.
- )وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ(
(سورة النحل: الآية 36).
قد
يتبادر إلى الذهن أن المقصود بالطاغوت هو الأصنام أو المجسمات؛ كما ورد في كثير من
التفاسير، ولكنَّ المتابع والمدقق لجذر كلمة [الطاغوت] -إذ جذر كلمة طاغوت هو
[طغى]- يفهم أنها تعني تجاوز الحد أو المقدار،
ومن خلال تتبع الكلمة في كتاب الله، نجد أن لفظ [طغى] يعني تجاوز الحد
والمقدار أيضاً؛ وبالتالي فإن وصف الطاغوت هو وصف من له القدرة على الفعل وله سلطة،
ثم يتجاوز بهذه القدرة وهذه السلطة حدوده؛
فلا يصح وصف جماد بالطاغوت؛ إذ إنَّ الجماد ليس له قدرة حقيقية أو اختيار لتجاوز
مهمته ووظيفته، والشيء الوحيد الذي يمكن وصفه بالطاغوت هو الإنسان صاحب الإرادة
الحرة، وصاحب القدرة على الفعل وعدم الفعل.
المواضع
التي ذكر فيها لفظ [طغى] في القرآن الكريم وهي تسعة مواضع أغلبها خاصة بفرعون، وهي
أربعة
)اذْهَبَا
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(
(سورة طه : الآية 43)
)اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى( (سورة طه : الآية 24)
)قَالَا
رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى( (
سورة طه الآية 45)
)اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى( (
سورة النازعات : الآية 17)
فرعون
هو المثال الأوضح على الطغيان والتجاوز، وإساءة
استخدام السلطة، سواء بالترغيب أو بالتخويف أو بالتدليس.
لقد
تمثَّل تدليس فرعون المختلط بالترغيب في عقد مقارنات فاسدة، تلقاها قومه وأتباعه
بالتسليم دون محاولة تفنيدها؛ عن طريق احتكار المعرفة والهداية، ومن ثم الادعاء أن
طريقه هو سبيل الرشاد، والآخرون ضالون ومخربون، إنها قصة الطغيان منذ فجر الحياة، الذي
لا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته.
)وَنَادَىٰ
فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ
الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
(53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)) (سورة الزخرف : الآيات 51-54).
)وَقَالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي
أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (
سورة القصص : الآية 38)
)يَا قَوْمِ
لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ
اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ(
(سورة غافر: الآية 29).
كل الآيات السابقة تخبرنا كيف لهذا الطاغوت دلس
وكذب وتلاعب بالقوم، عن طريق الترغيب الذي يغري النفوس الضعيفة التي تتطلع
للاستفادة بشكل أناني، وعلى حساب الأخرين، ولم يجد فرعون مقاومة من قومه؛ لأنهم
ببساطة استبدلوا التكليفات والتعليمات السليمة بتعليمات فرعون، وسلموا له أمرهم، فقادهم
إلى حتفهم.
من
لم يقده الترغيب كبَّله الرعب والتخويف، وهذا المثل كان حاضراً في موقف
السحرة الذين آمنوا بموسى وبما جاء به،
حين أثخن فرعون في عذابهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر.
لقد استعان فرعون بالسحرة و أغراهم بالعطايا، إن
هم استطاعوا التغلب على موسى الساحر من وجهة نظره، ولو أن فرعون أو حتى قومه فيهم
منصف أو لديهم منطق سليم لآمنوا فور إعلان السحرة أنَّ فعل موسى ليس بسحر، فهم في
الحقيقة أكثر الناس علمًا ومعرفةً بكون هذا الفعل سحرُ ساحر أم أنه خارج نطاق
السحر؛ بسبب خبراتهم السابقة في هذا المجال، لكنه الكبر والغرور والتجاوز والطغيان
في أبهى صوره، الذي لا يعترف إلا بمعتقداته وأفكاره:
)قَالَ
آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَۖ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ(
(سورة طه : الآية 71).
هذه
الأوصاف التي اتصف بها هذا الطاغية استحق بها بجدارة أن يكون مثالاً للطاغوت، وكل
من يعمل في فلكه هم عباد الطاغوت.
لا تثريب على بني إسرائيل؛ فلا شك أنهم كانوا
يعملون لهذا الطاغية، ولكنهم مجبرون، فأنجهم الله من هذا الطاغية، ولم يصفهم في
هذه الحالة بأنهم عُباد الطاغوت؛ بسبب عدم قدرتهم على الاختيار، بينما تم وصفهم
بعُباد الطاغوت في آيات أخرى؛ وذلك عقاب من الله عندما عصوا وكانوا يملكون حق
الاختيار، فأبوا إلا المعصية والانحراف عن الصراط المستقيم:
)قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن
لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَۚ أُولَٰئِكَ شَرٌّ
مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ( (سورة المائدة : الآية 60).
لا
شك أنَّ عبادة الطاغوت والسير في ركبه لهو أشد عقاب وتنكيل؛ فهذا الطاغوت متقلب
المزاج، لا يرضيه إلا الطاعة العمياء، والانبطاح المستمر، والمبالغة في الذل
والتبعية.
توعد
الله عباد الطاغوت بالذل والهوان في الدنيا قبل الآخرة، وهو أمر يمكن إدراكه
بسهولة ولا يحتاج إلى معادلات رياضية لكي نتحقق منه؛ عُباد الطاغوت في حالة
استنفار دائم، يقدمون فروض الطاعة والولاء لشخص غير مأمون الجانب، يتنازلون كل يوم
عن قطعة من إنسانيتهم، ويبالغون في الترخص، حتى إذا استنفذوا كل وسائل الطاعة
والخضوع، وأصبح عملهم روتينيَّاً؛ أدرك الطاغوت عند هذه اللحظة منهم الملل، وصاروا عبئاً عليه؛ إذ إنهم لا
يقدمون جديداً، فيطردهم ويبعدهم ويقرب غيرهم.
سنة
الله فيمن يستبدل الحق بالباطل ويستبدل الثابت بالمتغير؛ فتتحول الطمأنينة إلى قلق
والثقة إلى ارتياب، فيضرب الله بينهم وبين الناس جداراً ظاهره النعيم والسعادة، وباطنه
النكد والقلق، مهما بدا ظاهر هؤلاء نعيماً مقيماً؛ إلا أن شعورهم المستمر بأن
وجودهم مهدد وبيد هذا الطاغوت كافٍ أن يقلب حياتهم جحيماً، ويجعلهم في تربُّص
مستمر، حتي ينقضي أجلهم وهم لا يشعرون.
وصف
عُباد الطاغوت ينطبق تمامًا على قوم فرعون وجنوده الذين ينفذون أوامره، رغم
تجاوزها وتعديها الحدود، وهم يعلمون ذلك؛ وهناك صنف من البشر أدنى من عُباد
الطاغوت هؤلاء، وأشرُّ مكاناً، إنهم قوم تطوَّعوا لخدمة الطاغوت دون أن يطلب منهم
ذلك، وينفذون رغباته حتى دون أيِّ استفادة حقيقية، وهؤلاء لا وصف لهم سوى كالأنعام
بل هم أضل سبيلاً.
كما
هو واضح من مدلول كلمة [الطاغوت] أن إجبار
الطاغوت للناس على تنفيذ أوامره لا يعد عبادة بالمفهوم القرآني؛ فالذي يُعد كفراً
بيِّناً وصريحاً هو العمل من أجل هذا الطاغوت واتباع أوامره بشكل اختياريّ؛ رغبة
في مكسب ما أو مكانة معينة، وقبول تكليفات الطاغوت وتنفيذها هو نوع من أنواع
العبادة التي لا يرتضيها الله لعباده، وخصوصاً إذا كان لدى صاحبها فرصة لتجنبها
وعدم الخضوع لها.
)ضَرَبَ
اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن
رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ
يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(
(سورة النحل: الآية 75).
إن
كان المقصود بالعبد في هذه الآية الكريمة المفهوم البشري؛ وهو الإنسان الذي يُشترى
ويباع كما كان يحدث في الماضي، فما فائدة إضافة المملوك لهذا العبد، فإن كان كما
يصفه الناس فهو مملوك بالفعل؟
إنَّ
الحقيقة مختلفة تمامًا، وعن طريق فهم مدلول كلمة [ملك] يمكننا فهم ما هي حقيقة هذا
العبد المملوك:
جذر
كلمة ملك تعني القوة في الشيء، ومُلك الشيء أي تَمكُّنٌ منه بقوة؛ فالعبد المملوك
هو الممسوك بقوة ما، وينطبق هذا المفهوم على من استغرق كلياً في مسؤوليات وتكليفات
لا تدع له مجالاً كي يتحرك بحرية.
الآية الكريمة
تقارن عبداً مملوكاً بآخر غير مملوك في مسألة الإنفاق؛ فالعبد المملوك هذا هو الذي
لا يجد ما ينفق بسبب المسؤوليات والتكليفات التي تقع على عاتقه؛ أما الآخر فلديه
سعة ويستطيع الانفاق.
من
الأمثلة البسيطة لتوضيح المعنى المراد بالعبد المملوك، قول العامة أن (فلان يدور
في ساقية)، أو أنَّ فلان ملكته ظروفه (أي احتياجات الحياة اليومية).
- في هذه الآية الكريمة رفض لمبدأ قوانين العمل
المجحفة، والتي لا توفر سوى الاحتياجات الأساسية للإنسان، ولكي يتحرر الإنسان من
السيطرة لابد أن يكون قادرًا على الإنفاق ولديه فائض ما؛ فالاحتياج المالي هو أكثر
ما يكبِّل الإنسان ويجعله غير حر؛ والوصف الوحيد في كتاب الله الذي يصف الإنسان
غير الحر هو وصف العبد بالمملوك. هذا
الوصف ينطبق على كل ما يجعل الإنسان مكبلاً وغير قادر على التصرف، وأهم مثال على
ذلك في حياتنا المعاصرة هو الأعمال والوظائف التي تتم بأجور زهيدة.
بالرغم
من أنَّ الرِّق بمفهومه البشري ليس الوضع الطبيعي للإنسان؛ إلا أنَّ هذا التعبير
-وهو إضافة العبد للمملوك- قد تحمَّل هذا المعنى، ومع ذلك هذا الوصف ليس قاصراً
على مسألة الرق بمعناه التقليدي؛ فكل تكليفات ومسؤوليات لا يقابلها أجر عادل ومنصف
يمكن وضعها تحت هذا التصنيف، أو ما يسمى حالياً: الاتجار بالبشر.
جميع
الآيات الكريمة التي تتحدث عن العبد والعباد تسير وفق المفهوم القرآني للكلمة، وهو
المسؤول أو المكلف الذي يحمل على عاتقه المسؤولية، وتبعاً لهذه المسؤولية
والتكاليف تتحدد طبيعة هذا العبد، أيْ: المسؤول، وأيُّ مسؤولية يحمِل.
- مفهوم الحرية الناضج من خلال كتاب الله:
من
خلال إدراك مدلول كلمة [عبد] في كتاب الله، والمقرونة دائماً بحرية الاختيار مع
المسؤولية، نستطيع أنْ نجد مفهوم الحرية بمعناه الناضج؛ وهو أنه لا يوجد قوة على
وجه الأرض مسموح لها إجبارك على شيء لا تريد فعله، وهذا المفهوم يعالج المفهوم
المتسرع والساذج للحرية، والذي ينصُّ على حق الإنسان في فعل ما يريد، وهو أقرب إلى
الفوضى والمراهقة منه إلى العقل والرشد، جاء لفظ [العبد] مذكوراً في القرآن مع
غزارة آيات كريمة تتحدث عن حرية الاعتقاد وحرية الطاعة؛ لتضع منهجاً للحرية غفل
عنه الكثيرون وهو المعنى العاقل والراشد للحرية.
رغم
أن لفظ الحرية لم يذكر في كتاب الله صراحة؛ إلا أن كتاب الله زاخر بهذا
المفهوم. سوف نأتي على لفظ [حر] والذي لا
يمت بصلة لمفهوم الحرية المعاصرة؛ وإنما يعني شيئاً آخر، ولذلك لم يأت ذكر هذا
اللفظ في كتاب الله؛ لأن كتاب الله ينطق بالحق، وألفاظه تصف المسمى وصفًا حقيقيًا.
بعض
رجال الدين عند تناول مفهوم الحرية في القرآن الكريم تجد أن أول عبارة ينطلقون
منها هي أن الحرية في الإسلام مقيدة، وهذا التعبير في حد ذاته ضد مفهوم الحرية، وكل
كلام يقوله بعد ذلك لا يمكن وضعه إلا في
خانة التبرير، ومحاولة تبييض الوجه.
لفظ
[التقييد] لفظ سيِّئ السمعة، استخدامه مع الحرية استخدام غير موفَّق، يحولها إلى
حرية داخل حدود بشرية رسمها الإنسان أو المجتمع، وأبشع مفهوم لتلك الحرية المقيدة
هي حرية الفكر، إذ يعتقد الكثيرون أن الإنسان حرٌّ تمامًا في التفكير، ولكن داخل
حدود معينة، هذه الحدود رسموها وأطلقوا عليها مسميات عديدة، فحرية الفكر لديهم
مشروطة بالتعلم على أيدي أحد الشيوخ، أو الإلمام بمجموع علوم عليها إختلاف، أو عدم
الخروج عن الإجماع، وهذا النوع من الحرية في مسألة الفكر لا يمت بصلة لمفهوم
الحرية الحقيقي؛ إذ حوَّلت الإنسان من كونه عبداً، أي: مسؤول مسؤولية ذاتية إلى
عبد مملوك، عن طريق تلك القوى المتعددة التي لا يستطيع فكاكاً من كُلابها.
حرية الفكر لا تقوم إلا على أساس واحد، وهو
هاتوا برهانكم، فالبرهان والدليل هو الوحيد الضابط لحرية الفكر، أما الحدود
المصنوعة داخل عقول البشر فهي حدود واهية، تدعم القهر والطغيان، وغير قادرة على
فهم كلمة الله العليا؛ وهي حرية الاختيار مع تحمل المسؤولية كاملة.
الحرية
في القرآن ليست مقيدة؛ وإنما مسؤولة، فمن يحاول الفكاك من هذه المسؤولية فسوف تصير
تصرفاته فوضى، وسوف يلفظه المجتمع، دون الحاجة لوصاية جبرية على حريته الفكرية، أما
حرية التصرفات والتي يكون له أثر على المجتمع فيقيدها المجتمع بما يتناسب مع
الحاجة مسترشدا بالقرآن، من خلال نصوص وآيات رحبة، قادرة على استيعاب التطورات الاجتماعية، كما سوف
نرى في مسألة القصاص.
لا
يمكن أن تخطئ العين مفهوم الحرية في القرآن، والذي ينقسم إلى قسمين: حرية
داخلية تقوم على الحرية الكاملة في الاختيار، والتي لا يقيدها شيء على الإطلاق،
وهي خاضعة لمسؤولية الإنسان وضميره فقط لا
غير.
القسم الثاني الحرية الخارجية وهذا النوع
من الحرية يخضع إلى نوعين من المسؤولية: مسؤولية ذاتية وهي الضمير
والمنظومة الأخلاقية لدى الإنسان نفسه، وقوانين المجتمع التي تضبط
المعاملات بين أفراد المجتمع بعضه بعضاً.
من
هنا نجد أن مفهوم الحرية في القرآن يقوم بشكل أساسى على المسؤولية الذاتية،
أو الضمير، من خلال منظومة اخلاقية
متكاملة، ومسؤولية المجتمع في ضبط تصرفات أفراده من خلال القوانين والقواعد.
- لكنْ
ماذا لو أني أؤمن بالحرية بالمفهوم القرآني، ولكني أعيش في مجتمع غالبيته مقهورة
بالمفاهيم المغلوطة، وتصادر حريتي؟
وضع
القرآن الكريم الحل للإنسان من خلال حرية التنقل التي كفلها كتاب الله؛ ليتيح للإنسان حرية كاملة في اختيار ما يريد، ورفض أي
قوة يمكن أن تجبره على فعل ما لا يريد.
الآية
الكريمة في سورة النساء تحرض كل مقهور على الانتقال إلى مكان آخر يجد فيه حريته، ولا
يخضع فيه للقهر، والحل القرآني تعدَّى مجرد الترغيب أو إباحة التنقل؛ بل وصل الأمر
إلى أنَّ من يرفض الانتقال إلى مكان آخر يملك فيه حريته مع الاستطاعة سوف
يضع نفسه تحت طائلة القانون الإلهي، الذي صنَّف هؤلاء بكونهم من الظالمين أنفسهم:
)إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَاۚ
فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(
(سورةالنساء : الآية 97).
الآية
(100) في سورة النساء لم تترك عذراً لمقهور يستطيع الخروج، بل ضمِن الله من خلالها
الجزاء الحسن، لكل من يريد أن يتحرر من القيود، ويحصل على حرية الاختيار:
)وَمَن
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً
ۚ وَمَن
يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(
(سورةالنساء : الآية 100).
قد
يعتقد البعض أنَّ الهجرة والتنقل حتى يتمكن الإنسان من عبادة الله بمفهومها
التقليدي، ولكنَّ كتاب الله يقرر دائماً أن كلمة الله وسبيل الله هو أن يملك
الإنسان حرية الاختيار، وأن يتعرَّف على ربه بكامل إرادته، مع ضمان عدم وجود أيِّ
قوة تجبره على فعل ما لا يريد.
بعض
المجتمعات البدائية تعتقد أن من مهامها إجبار الناس على طاعة الله، وأنَّ أفعالاً
كهذه هي نوع من التقرب لله، وللأسف الشديد إن ما يفعله المجتمع أو الإنسان بشكل
منفرد من إجبار الآخرين على شيء معين، لا يقع من عدم فعله ضرر مباشر على المجتمع، هو
تعدٍ وظلم للآخرين.
إنَّ
هذه الجزئية شديدة التعقيد، وكثير من الناس لا يحسن فهمها، فعندما نتحدث عن حرية
الطاعة يخلط الناس بين قواعد المجتمع، والتي تسبب ضرراً واعتداء على الآخرين، وبين
التصرفات الشخصية، والتي لا تضرُّ إلا صاحبها، أو بين الاعتقاد الشخصي والالتزام المجتمعي.
على
سبيل المثال مسألة الصلاة أو الصيام هي مسائل شخصية بحتة؛ فكل إجبار على هذه
الأفعال هو مناقض لمنهج الله، بعكس فعل كشهادة الزور، فلا يمكن لعاقل أن يعتقد أن
مسألة الشهادة الزور هي حرية شخصية؛ فالفهم الصحيح للحرية يبدأ من فهم حدود المساحة
الشخصية، وفهم حدود المجتمع بشكل سليم، ومن ثم التعامل مع مسألة الحريات من هذا
المنطلق.
المجتمعات
التي تجبر أهلها على أفعال تنتقص من مساحة حريتهم الشخصية، وتفتش في اعتقادهم
الذاتي، هي مجتمعات لا تمت لمنهج الله بصلة، والانتقال منها إلى غيرها واجب قرآني
بامتياز ، فإذا كانت الآيات السابقة تحرِّض الإنسان على التنقل؛ إذا شعر بالقهر
والجبر أو التسلط، أو أن هناك قوةً ما
ترغمه على فعل ما لا يريد؛ ففي الآية التالية قاعدة عامة ترسي مبدأ حرية التنقل
بشكل عام:
)هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن
رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ(
(سورة الملك: الآية 15 (
أعلم
جيداً أن كل هذه الآيات تم تقييدها من خلال الفهم البشري، ومن خلال تعريفات فقهية
عديدة، وأبرز مثال على ذلك حرية
الاعتقاد التي يرفضها كثير من الفقهاء، رغم
وضوح هذا الحق في كتاب الله كالشمس، وهو أعلى حق وأسمى مكتسب في كتاب الله، ولكن
–للأسف- هذا الحق جعله الكثيرون مرادفاً للفوضى والكفر، وهم معذورون بحكم العصور
التي عاشوا فيها، والتي لم يكن مفهوم الحرية الناضج قد رسخ في العقول، أما الآن
فلا يمكن بحال من الأحوال تخطي آيات الله في كتابه التي تتحدث عن حرية
الاعتقاد بسهولة هكذا:
)لا إِكْراهَ
فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ
انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَميعٌ عَليمٌ( (سورة
البقرة: الآية 256)
)وَ لَوْ شاءَ
رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنين(
(سورة يونس : الآية 99).
)قالَ يا
قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتاني رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها
كارِهُون(
(سورة هود : الآية 28).
)قُلْ يا
أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما
أَعْبُدُ، وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما
أَعْبُدُ، لَكُمْ دينُكُمْ وَ لِيَ دينِ( ( سورة االكافرون: الآيات1-6).
)قُلِ اللَّهَ
أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا
ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)( (سورةالزمر : الآيات14,15).
)وَقُلِ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا
أَعْتَدْنا لِلظَّالِمينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغيثُوا
يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ
مُرْتَفَقاً(
(سورة الكهف: الآية 29)
الآيات
السابقة تدل بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ حرية الاعتقاد مكفولة للإنسان، ولا شيء
يضبطها إلا المسؤولية الذاتية داخل كل إنسان، بالإضافة لذلك هناك آيات كثيفة في
كتاب الله تتحدث عن حرية الاختيار، وتحمل عقبات هذا الاختيار تبعاً للمسؤولية
الذاتية، دون أي إجبار من قبل المجتمع أو البشر:
)مَنِ
اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا(
(سورة الإسراء: الآية 15(
)وَ أَنْ
أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ
ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرين( (سورة النمل: الآية 92(
)قُلْ إِنْ
ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحي
إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَميعٌ قَريب(
(سورة سبأ:الآية 50)
)قَدْ
جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ
فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفيظ( (سورة الأنعام: الآية104).
)يا أَيُّهَا
الَّذينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جميعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُون َ(
(سورة المائدة: الآية 105).
)قُلْ يا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما
أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكيلٍ(
(سورة يونس: الآية 108).
)فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما هُمْ في شِقاقٍ فَسَيَكْفيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّميعُ الْعَليم(
(سورة البقرة: الآية 137).
)فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ
لِلَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا
فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ
بَصيرٌ بِالْعِباد َ(
(سورة آل عمران: الآية 20).
)قُلْ
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ
لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ( (سورة البقرة: الآية 139).
)كُلُّ نَفْسٍ
بِما كَسَبَتْ رَهينَةَ(
(سورة المدثر: الآية 38)
)إِنْ
أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ
وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما
دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبيراَ(
(سورة الإسراء: الآية 7).
)قُلْ
أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما
حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى
الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبين(
(سورة النور: الآية 54).
)فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)(
(سورة الغاشية: الآيات 21، 22).
بعدما
استعرضنا آيات الذكر الحكيم وتشديدها على ضمان حرية التنقل، وحرية الاعتقاد، وحرية الاختيار؛ نلاحظ أنَّ كتاب الله فيه إرشاد
إلى اختلاف الناس، ووجوب تقبُّل هذا الاختلاف، بل إنَّ الآيات تقرر أنَّ هذا الاختلاف طبيعة بشرية، وعلامة على صحة
المجتمع، ولا يجب ابدًا إجبار الناس على أن يكونوا نمطاً واحداً.
)وَ لَوْ شاءَ
رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ(
(سورة هود:الآية 118).
)وَ لَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُريب(
(سورة هود: الآية 110).
ونفس
المعنى نجده في سورة فصلت:
)وَ لَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُريب(
(سورة فصلت: الآية 45).
)تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُريدُ( (سورة البقرة: الآية 253).
)كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَ مُنْذِرينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ
فيهِ إِلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ)
(سورة البقرة : الآية213).
)وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ
لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُون) (سورة النحل: الآية64).
)وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا
جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ
شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في ما
آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جميعاً
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفُون) (سورة المائدة: الآية 48).
)وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُون) (سورة النحل: الآية 93).
بعد
هذا الذكر المفصل، والتفصيل المبين في كتاب الله عن الحرية والاختلاف؛ هل يبقى شك في أن مفهوم
العبد لا يمت بصلة للمفهوم البشري، وهو الشخص مسلوب الإرادة، وأنَّ سياق الآيات
ومدلولها يشير إلى أنَّ العبد في المفهوم القرآني هو المسؤول أو المكلف؟
لا
يزال لدينا الكثير حول مفهوم العبد والعبودية التي حرفها البشر عن مفهومها الأصلي
كما جاء في كتاب الله، وسوف نُفرد لها فصلاً آخر، أما الآن سوف يكون حديثنا في هذا
الفصل منصبَّاً حول مفهوم القصاص، ومفهوم الأَمَة (الجارية كما فسرها المفسرون)، ومعنى
حر كما جاء في آية القصاص، وآية نكاح المشركات، في سورة البقرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق